في الوقت الذي يتجاوز العالم المتقدم مسألة الحديث عن التابو بمعوقاته المختلفة وتبعاته الكوارثية على الذات والإبداع ، وفي الوقت الذي يخضع فيه هذا العالم هذه التابوهات لمبضع النقد والتشريح رغبة في التجاوز والتحرر وإعلاء قيمة الذات الإنسانية والإبداعية، لم تزل الذات ولم يزل الإبداع في مجتمعاتنا العربية وخاصة الواقعة تحت الهيمنة العقائدية الإرهابية والمتطرفة، في حكم المصادر والمحظور والمحذور، وكما لو أن هذه الهيمنة تتقصد إقصاء الإبداع من الذات باعتباره أبو التابوهات وباعتباره بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار، بالرغم من أن الإبداع هو ما يأتي من كل شيء بديع أو كل بديع يتمخض عن الإبداع ، والبديع إسم من أسماء الجلالة عز وجل ، فمن يعترض على هذا الاسم الذي تتجلى فيه كل معاني ودلالات الجمال وفرادته ؟
لا يمكن في رأيي الحديث عن الإبداع بمعزل عن التحرر من كوابيس التابوات، وكل إبداع هو حالة من حالات التحرر من التابوهات، وإذا أخضع الإبداع لهذه التابوهات بسلطاتها المتعددة والمركبة فإننا بذلك حسمنا أمر وأد الإبداع ، فأية رقابة تنطلق من هذه التابوهات وتحتمي بها، تعني بالدرجة الأساس سيطرة وسطوة على الإبداع ونموه، وما أصعب هاتين الكارثتين على ذات وروح المبدع وأنفاسه الإنسانية التي يتشكل من هوائها عبق إبداعه، إذ أن أية محاولة لخنق هذه الأنفاس هي مساهمة ضمنية مقيتة في قتل المبدع روحاً وجسداً حتى قبل أن يبلغ الحلم، وهذا ما يجري في مجتمعاتنا العربية وخاصة المكبلة بالروادع والنواهي التي تتلذذ بتصفية آخر بقايا خلية من خلايا الإبداع والمخيلة لدى المبدع، وهي روادع ونواهٍ لا يمكن بأي حال أن تقبل وتتقبل الحوار مع الآخر، وإذا حاورت فإنها تحاور ببغض ومقت ، وهكذا حوار لا يمكن أن يؤسس لمحبة تدشن جسوراً للتفاهم بينهم وبين المبدعين، هؤلاء الذين صارت قراءتهم للمنتج الفكري والإبداعي أقرب من حاسة أنف الكلب للأثر المراد في حينه، فما أن تقودهم حاسة الشم إلى كلمة لها في نواهيهم غاية وإن كانت تخدم نواهيهم، إلا و تم إطلاق الحكم على كل ما في المنتج بالرذيلة وإهانة المقدس، وبذلك يستحق الإعدام جملة وتفصيلاً حتى يعلن المبدع توبته عن الإنتاج في مجال الفكر والإبداع، لذا لم يزل بعض أهل التابو يطالبون بإعدام حكايا ألف ليلة وليلة والتربص لشهرزاد للنيل منها حية أو متخيلة أو وهما أو خدعة خاصة وأن سيف الجلاد لا يزال يتشفى من الأفواه التي تهجت بعض الحكايا حتى وإن كانت تخفف عليه بعض وحدته وغلظته وجلافته .
هل يعقل ونحن في زمن يحتفي بالحريات ويعلي شأن الإنسان من خلالها أن نطلق العنان لمثل هؤلاء التابوهيين للجم صوت الإنسان وعقله وفكره ؟ هل يعقل أن نتيح المجال لمثل هؤلاء أن ينزعوا الإبداع من ذوات مفكرينا ومخيلتهم وعقولهم ويودعونها سجونهم القهرية هل صار الإبداع إلى هذا الحد مخيفا ومرعبا حتى يسعى التابوهيون إلى محاصرته وإقصائه من الوجود تماماً ؟ كيف يمكننا الحديث بل اللهج بالحرية والديمقراطية وهناك من يتدخل حتى في خصوصيتنا ويلجم أحلامنا ويمنعنا حتى من كلمة مجردة ( أنا حر ) أو (أشعر بحريتي ) أو ( أعتز بذاتي ) ؟ هل يعقل أن يترك شأن المبدعين والمفكرين لمن لا يقرأ الإبداع والفكر إلا بقصد النيل منهما جهلاً و (غشامة)؟
ولعل أشد ما يواجهه المبدع والمفكرالتنويريان هو التواطؤ الرسمي مع هؤلاء من أجل تغييب الصوت التنويري الحر، وحث المبدع والمفكر بشكل أو بآخر ـ في حالة التعاطف معه ـ اللجوء إلى الرمز الأسطوري الذي لا يشي بأي حال من الأحوال بأن له أية علاقة بالمحظور أو المقدس، وهو حث لعمري ييسر سبل إرهاب الفكر والإبداع لدى هؤلاء ويجير لغة المبدع نحو نفق واحد لا ينبغي تجاوزه، وهذا ما لا يمكن للمبدع قبوله وما يهيئه للاصطدام معه حتى يضمن بعض حريته، وإن كان هناك خيار آخر فلا مناص من هجرته إلى بلد يحترم ويحتفي بحريته وذاته وإبداعه، وما أكثر المبدعين الذين نجو بجلدهم من سطوة التابوهيين في مجتمعاتنا العربية بهجرتهم من بلدانهم، ولعل تلك واحدة من رغبات و( تطلعات ) كثيرة ينشدها التابويون في نفي المبدعين وأصحاب العقول من بلدانهم، ومحاولة من بعض المبدعين والمفكرين لحماية رؤاهم وإبداعهم، سعوا حثيثاً ونادوا بضرورة إحياء ثقافة التمرد المسول أو تعزيز وجودها وفاعليتها إن وجدت ، ذلك أنه لا يمكن بأية حال الصمت عن موت أو فتك يداهم ذات المبدع كلما عنّ له ذلك وكما لو أنه كل السلطات والمجتمع والدين والوصاية وما أكل السبع ..
لذا ينبغي رفض التابوهات ومن يتمثلها، ذلك أنها تعلن في حقيقة الأمر تخلف المجتمع، فكلما زادت التابوهات وزاد الاقتناع والإيمان بها، كلما أكدت من جهة أخرى تخلف المجتمع على شتى الصعد، ولا يمكن أن يعيش هذا المبدع والمثقف والمفكر وسط أجواء مزدوجة، ظاهرها الديمقراطية والحريات وباطنها وجوفها التابوهات وما خلفت من أنياب ومخالب سامة، لذا لا مناص من ثقافة التمرد كزاد أساسي وضروري لمواجهة تلك الطامة !!
صحيفة الوطن
17 فبراير 2008