المنشور

كيف نقرأ زلزال البورصة الأمريكية؟

لم يكن الزلزال الأخير الذي ضرب الأسواق المالية الأمريكية، ومعها تباعا الأسواق المالية العالمية، هو أول زلزال يصيب هذه الأسواق ولن يكون بالطبع الأخير، فقد مرت هذه الأسواق منذ فجر تاريخها الحديث بسلسلة دورية متعاقبة من الزلازل تعكس بشكل أو بآخر الأزمات الاقتصادية الدورية التي تمر بها الرأسمالية العالمية. وفي هذا الزلزال المالي الأخير، وكما حدث عند كل زلزال من الزلازل التي ضربت الأسواق المالية عاد منظرو وسياسيو الرأسمالية مجددا للتقليل من تداعيات الزلزال والتبشير الخجول بامكانيات التغلب عليه وإعادة الثقة الى الأسواق مجددا واستعادة دورة الحياة فيها. هذا ما حدث على سبيل المثال خلال أزمة الكساد المالي والاقتصادي الكبير في الولايات المتحدة في أواخر العشرينيات ومطلع الثلاثينيات وهو ما حدث أيضا خلال انهيار بورصة نيويورك في خريف 1987 والتي خسرت حينذاك في يوم واحد 500 مليار دولار وحيث جاءت تلك الخسارة لتعري حقيقة مناخ الرخاء الزائف حينذاك حتى ان عجز الميزانية العامة بلغ 210 مليارات دولار في عام 1987 ووصل عجز الميزان التجاري الى 15 مليار دولار في ذات السنة. أما في هذا الزلزال الأمريكي الأخير الذي جرى على خلفية تداعيات أزمة الرهون العقارية في سبتمبر الماضي فقد جاء هبوط الأسواق الأمريكية على النقيض تماما من خطط الرئيس جورج بوش الجديدة نحو خفض ضريبي مؤقت قيمته 140 مليار دولار وحوافز للشركات وإجراءات أخرى للحيلولة دون انكماش الاقتصاد الأمريكي فكان الزلزال أسرع من صدى صوت الرئيس بوش. بيد أن خطورة الزلزال المالي الذي ضرب واحدا من ميكانيزمات دورة الحياة الاقتصادية ليست محصورة فقط في الولايات المتحدة، صاحبة أكبر وأقوى اقتصاد في العالم، بل سرعان ما امتد الى اقتصاديات أوروبا الغربية واليابان وبلدان النمور الآسيوية، دع عنك الأسواق المالية في دول الخليج الأكثر هشاشة في اقتصادياتها رغم رخائها المالي الظاهري. فالزلزال ضرب أكثر من 300 مليار دولار من القيمة السوقية للأسهم الأوروبية، وبورصة سيئول تراجعت الى 23،6 في المائة، وسيدني 1،7 في المائة وبومباي 7،9 في المائة وهونج كونج 5 في المائة، والأسهم اليابانية هبط المؤشر نيكي الى 4%. وقس على ذلك تراجع بورصات أوروبا والخليج. نحن إذن إزاء ترجمة حقيقية صادقة لمقولة “إذا عطس الاقتصاد الأمريكي أصيبت اقتصاديات العالم الذيلية له بالإنفلونزا”. وكما في أمريكا وأوروبا حيث انبرى منظرو الرأسمالية للتخفيف من هول الزلزال بأن ما حدث لا يعني بالضرورة دخول أمريكا في كساد كبير كرر الأسطوانة ذاتها خبراء الاقتصاد الطفيلي في دول الخليج. (انظر على سبيل المثال ما يقوله الخبيران الدكتور أنس الحجي، والدكتور ناظم القدسي حول هذا الموضوع في الشرق الأوسط، عدد 25/1/2008). ولكن هل يمكن إرجاع تفسير الزلزال الأمريكي الى مجرد مشكلة طارئة في الرهونات العقارية أفضت بدورها الى زلزال الأسواق المالية متبوعا بزلازل الأسواق المالية الأوروبية والآسيوية واليابانية والخليجية؟! لعل من نافلة القول ان تحليلات منظري الرأسمالية المالية الأمريكية تكاد تتكرر في كل مرة لتفسير ما حدث، وفي هذه المرة انبرى بعض الخبراء الرأسماليين الاقتصاديين الأمريكيين “الموضوعيين” لمحاولة تقديم وجبة جديدة من التفسير ذات نكهة لتكون أكثر قبولا. فعلى سبيل المثال لم يتوان استاذ الاقتصاد بجامعة كولومبيا والحائز جائزة نوبل للاقتصاد جوزيف ستيجليتز عن ارجاع العلة الى طبيعة الاقتصاد الأمريكي برمته وليس فقط الاكتفاء بالعلة الظاهرية الطارئة المتمثلة بأزمة الرهون العقارية. وسمى هذا العالم الاقتصادي الأشياء بأسمائها فالمسألة، كما قال، ليس الخلاف حول تفسير ما حصل بأنه سيؤدي الى ركود دائم ام مؤقت، بل حول ما تنبئ به باتجاه الاقتصاد الأمريكي نحو التباطؤ والتسبب في ارتفاع معدلات البطالة. ولذا فإن الدولة، كما يضيف ستيجليتز، بحاجة الى محفز يدفع النشاط الاقتصادي وبحاجة الى أكبر قدر من العائدات مقابل الانفاق، والأهم من ذلك فإنه يقرع جرس الانذار حول ارتفاع البطالة والذي لا يمكن حسب رأيه التخفيف من تداعياته إلا بتعزيز نظام التأمين ضد البطالة لأن المبالغ الحالية التي يتلقاها العاطلون ستتبخر سريعا بسبب مضاعفات الأزمة وارتفاع أسعار الاحتياجات الأساسية. كما يطالب ستيجليتز بزيادة الدعم الفيدرالي لميزانيات التعليم باعتباره الرافعة لتعزيز الاقتصاد على المدى القصير ودفع النمو بمعدلات أكبر على المستوى البعيد. أما الكاتب الأمريكي الليبرالي في الـ “واشنطن بوست” روبرت سامويلسون فلا يتردد عن القول حرفيا: “إن أخطر أعداء الرأسمالية هم الرأسماليون، فلا يمكن من تابع قروض الإسكان بلا ضمانات إلا أن يلاحظ المقارنات الغبية بين حجم الفشل والمكافآت الضخمة للذين ترأسوها”.وانتقد سامويلسون المكافآت السخية التي تمنح لرؤساء مجالس إدارات المؤسسات المالية، رغم ما تمر به من أزمات مالية عاصفة بحجة سنوات الخدمة الطويلة الناجحة، وضرب أمثلة بحالات عدد من رؤساء مجالس إدارات تلك المؤسسات الذين منحوا مكافآت سخية من دون وجه حق ومن دون مشاركة العاملين فيها. ومن دون التقليل من قيمة تحليلات عقلاء الرأسمالية الجديدة في تفسير زلزال الأسواق المالية الأمريكية الأخير فلعلنا نجد في اطروحات المفكر الاقتصادي المصري الراحل فؤاد مرسي تفسيرا أكثر عمقا وشمولا لتحليل أسباب هذه الزلازل الدورية كصفة ملازمة دائمة للأزمة العامة للرأسمالية. ففي مؤلفه القيم الضخم الذي كتبه قبيل وفاته في مطلع التسعينيات “الرأسمالية تجدد نفسها” يشير مرسي الى ان أزمات البورصات العالمية ليست سوى تعبير عن أزمة في قلب الرأسمالية المالية التي لاتزال متربعة على قمة الاقتصاد الرأسمالي العالمي منذ أكثر من عقدين، وان الولايات المتحدة بأكملها تحولت الى المضاربة. وانجرت حتى الطبقة الوسطى من الاستثمار العقاري الى الاستثمار في الأسهم. وأصبح العالم يعيش في ظل هيمنة الرأسمالية المالية على الاقتصاد الرأسمالي العالمي، وأضحى حتى الرأسمالي الصناعي خاضعا للمصرف المالي، واندمج الرأسمال المصرفي بالرأسمال الصناعي ليشكلا “رأس المال المالي”، وأخذت الرأسمالية المالية تكتسب طابعا ريعيا طفيليا تربح على توظيف رأس المال وريع الأوراق المالية، بدلا من الربح من المشروعات الانتاجية. وإذا كان كل ذلك يحدث كما حلل مرسي في أقوى وأكبر اقتصاد رأسمالي عريق عالمي متمثلا بالاقتصاد الأمريكي فلك ان تتخيل حجم تداعيات الأزمة الأخيرة في اقتصادات الريع النفطية الطفيلية الهشة!

صحيفة اخبار الخليج

17 فبراير 2008