لا نعرف ما السبب في أننا حين نتحدث عن مؤيدي الكرة نقول: جمهور الكرة، وحين نتحدث عن رواد المسرح نقول: جمهور المسرح، وكذلك الحال بالنسبة لجمهور الأغنية والسينما والشعر، ولكننا ما إن نقترب من السياسة حتى نتحدث عن الجماهير، أي نجمع الجمع، رغم أن عدد المهتمين بالسياسة في عالمنا العربي، لا بل في العالم كله، لا يقارن من حيث ضآلته بجمهور كرة القدم أو الأغنية مثلا. لكن اكتفاءنا بالقول: جمهور السياسة لوصف من يهتمون بالشأن السياسي أو سيتابعونه يجعل القول قاصرا، كأننا نرى ضرورة الحديث عن عدد من “الجمهورات”، إن صح القول، لا عن جمهورٍ واحدٍ فقط. البعض يعزو هذه المفارقة إلى تعددا الآراء وسط من يهتم بالسياسة، وان التيارات السياسية العربية هي وراء هذه المبالغة للإيحاء بان لكل تيار سياسي جمهوره الخاص به، ولكن هذا القول لا يصمد للحجة، لأن أيا من هذه التيارات لم يكن يتحدث عن “جمهور” حين يعني مريديه ومناصريه هو فقط، وإنما عن الجماهير كلها توخيا للتعظيم والتفخيم والمبالغة. مفهوم الجماهير ابتذل كثيرا في بلادنا العربية، خاصة في البلدان المحكومة من قبل أفراد أو أحزاب شمولية كان همها إظهار تأييد هذه الـ “جماهير” لها. فكانت الأجهزة تحرص في المناسبات على حشد الشاحنات والحافلات، بل والقطارات، بأكبر عددٍ ممكن من الناس، بمن فيهم تلاميذ المدارس، بعد إخراجهم من أعمالهم وجامعاتهم ومدارسهم، وتأخذهم، أحيانا حتى دون أن يدروا ما الموضوع، إلى الساحات العامة لتُحملهم اليافطات التي أُعدت مسبقا. لكن الجمهور ليس كتلة صماء، انه مجموعة هائلة من الأفراد، قد يوحدها شعور جمعي، عفوي، تلقائي، دونما توجيه في لحظة مصيرية، والجمهور إلى ذلك ليس حالة مستقرة، أو كتلة جامدة ، فهو قابل للحراك والانتقال من موقع لآخر تبعا للمزاج العام والمؤثرات المحيطة به، ويمكن لهذا الجمهور أن ينقلب في وجهته رأسا على عقب كما تدل نتائج الانتخابات في البلدان الديمقراطية. هناك من يتحدث عن موت مفهوم الجمهور، وفي بعض الأدبيات الأمريكية حديث عن النقلة من الخطابة بوصفها لازمةً من لوازم الحشد الجماهيري، إلى الأحاديث العامة، أو ما يطلق عليه احدهم سياسة الجلوس حول نيران المدفأة، حيث بإمكان المرء أن يبقى في منزله يتابع عبر التلفزيون ما يدور دونما الحاجة للذهاب إلى الساحة العامة أو حتى إلى ملعب كرة القدم لمشاهدة المباراة. لهذا القول ما يبرره بالقطع، مع تقدم وسائط الاتصال ووجود مجتمعات أتقنت التنفيس عن الاحتقانات الاجتماعية عبر آلية معقدة من وسائل الاتصال ونمط الاستهلاك وأشكال الاستيعاب الجماهيري والفكري، كما هو الحال في الولايات المتحدة نفسها. لكن من يعول على هذه النظرية في بلداننا النامية، وينام على حرير قرين العين مطمئنا فانه واهم.
صحيفة الايام
17 فبراير 2008