يستعد القبارصة في السابع عشر من هذا الشهر لاختيار رئيس جديد للدورة الرئاسية القادمة، من بين تسعة مرشحين لم تمر بها قبرص من قبل من حيث عددهم ونوعهم، حيث أثار استغراب وتندر الشعب القبرصي، لكون بعضهم لا يحظون بأي وزن سياسي للمنافسة، إذ تحتكر تاريخيا – ولا تزال – الساحة السياسية ثلاثة أحزاب رئيسية هي (ذيكو) ويمثل تيار الوسط، و(ذيسي) ويمثل اليمين وحزب اكيل (الشيوعيون) ويمثل اليسار، لذلك يصبح من العبث الدخول في منافسة غير متكافئة، في بلد توزع سكانه على الأحزاب الكبيرة، وبات يمثل أكثر من ٠٩٪ من كتلة الأصوات الانتخابية.
ويتمتع ثلاثة من التسعة المرشحين لمنصب الرئيس بأهمية سياسية للأسباب التالية: المرشح الأول كونه الرئيس السابق وينتمي لحزب سياسي وقد وصل للرئاسة أكثر من مرة، وهو يشكل الرقم الثالث من حجم القوة الانتخابية وفق الاستطلاعات الأخيرة، بينما المرشح الثاني، ويدخل بصفة مستقلة ولكنه ينتمي لحزب ذيسي اليميني، ويحظى بدعمه المطلق الذي يعتبر واحدا من اكبر حزبين سياسيين في البلاد، كما انه عضو البرلمان الأوروبي الممثل للحزب، أما المرشح الثالث فهو ديمتري خريستوفيا أمين عام حزب الشغيلة والتقدم ( الشيوعيون) وهو يمثل ثاني اكبر ثلاثة أحزاب في الجزيرة، وقد كان خريستوفيا رئيسا للمجلس النيابي، واستقال من منصبه بعد ترشحه وانسحابه من التحالف مع الحزب الحاكم.
والجديد في هذه الانتخابات هذه المرة أنها تقام في ظروف مختلفة كدخول قبرص في عضوية الاتحاد الأوروبي وتحولها إلى اليورو. وبذلك تكون قبرص اقتصاديا ضمن السوق النقدية في الاتحاد الأوروبي وبعضوية كاملة، غير أن الجديد هو ترشح الشيوعيين لأول مرة في تاريخهم للرئاسة، بعد أن ظلوا فقط يلعبون دائما دور المساند لنجاح الرؤساء السابقين من الأحزاب الأخرى، بمن فيهم الرئيس الحالي، الذي كان نصيب حزبه في الانتخابات لا يتعدى ٦٢٪ من نسبة الأصوات بينما كانت حصة (أكيل) ٤٣٪، وبذلك كان الحزب داعما أساسيا لوصول رؤساء سابقين، ابتداء من السقف مكاريوس، كبريانو، فاسيليو، حتى بابا دوبولوس، لكونهم قوة انتخابية مؤثرة، تصل بكل بساطة للجولة الثانية، فالحزب وحده يمتلك ثلث الأصوات من كل عملية انتخابية في البرلمان إلى جانب أكثر من النصف في انتخاب البلديات، مما جعله حليفا مهما لحزب (ديكو) الذي يمثله الرئيس الحالي بابادبولوس المنتهية ولايته والمنافس للرئاسة من ضمن الثلاثة المتوقع صعودهم. ولن يستطيع حسم الجولة أي واحد منهم، ولكن استطلاعات الرأي تميل إلى أن اكيل وبابا دوبولوس هما المرشحان للتنافس الرئاسي باحتمال نجاح احدهما في الجولة الثانية بهامش لا يتعدى ٣٪.
وقد شهدت وسائل الإعلام المختلفة حملات انتخابية ساخنة من حيث الحوارات والنقد، والبحث عن الأخطاء والمزالق السياسية للرئيس المنتهية ولايته. ففي هذه الانتخابات تصبح الأمور مختلفة من أوجه عدة، من أهمها قضايا لم تكن معروفة في الساحة السياسية كالبذخ المتزايد في الدعاية الانتخابية عن سابقتها، ولكن تبقى حجر الزاوية دائما في كل انتخابات قبرصية المعضلة التاريخية، التي مر عليها أكثر من ثلاثة عقود، وهي مسألة تقسيم الجزيرة إلى جزئين، باحتلال الجيش التركي لها عام ٤٧٩١، ومنذ تلك الفترة والجزيرة تحمل على كتفها صليب الآلام، لعل العالم والمجتمع الدولي يحل لها تلك المشكلة المستعصية كما هي خطة انان المتنازع حولها، ففي زمن الحرب الباردة كانت الجزيرة المقسمة عرضة للتجاذبات الدولية بين أقطاب ومحاور عالمية، ثم عادت حاليا إلى دورتها الجديدة حتى وإن صارت قبرص عضوا في نادي الاتحاد الأوروبي.
فقد مكثت التجاذبات الداخلية تدور في حلقتها القديمة بحثا عن حلول ناجعة للازمة، ولكن المعضلة ظلت مغلقة، باعتبار أن مفاتيح الأزمة الإقليمية في يد أثينا وأنقرة، كما أشار رئيس الوزراء اليوناني كرامنليس أثناء زيارته إلى أنقرة، كأول زيارة تاريخية بعد نصف قرن يقوم بها مسؤول رفيع المستوى، بينما يتقاذفها الكبار في المجتمع الدولي ومجلس الأمن بطريقتهم، لعله يتم يوما إزالة العوائق كلها دفعة واحدة، كما حدث لألمانيا المقسمة وتصدع جدار برلين.
في هذه الحملة الانتخابية، يبدو أن الشعب القبرصي لم يعد يدير التفاتا للساسة في حديثهم عن حل المسألة القبرصية وحدها، فباتوا (الناخبون والمرشحون) للرئاسة يهتمون بالشأن الداخلي للشعب كالوضع الاقتصادي المتردي، خاصة وان متطلبات الحياة المعيشية تعكس حالة من التدهور بين مستوى الأجور المنخفضة – قياسا بدول في الاتحاد الأوروبي- وبحجم الغلاء المستشري، وتدني الخدمات الاجتماعية كالصحة والتعليم، مما جعل المرشحين يلتفتون إلى الحاجات الحيوية للشعب.
ما يقلق حزب ذيكو ومرشحه بابا دوبولوس هو الافتراق التاريخي بينه وبين اكيل في العملية الانتخابية، إذ قرر اكيل هذه المرة أن يخوض بمفرده التنافس من اجل مقعد الرئاسة، بحجة انه كان دائما يتنازل لحزب ذيكو للرئاسة، في الوقت الذي كانت حصيلة أصواته الانتخابية أكثر، وكان ينبغي أن يدعم ذيكو حزب اكيل في الوصول لمقعد الرئاسة. تبقى الأزمة قائمة فيما لو أصر الاثنان بعدم التنازل عن المقعد الرئاسي، فان السيناريو مفاده، أن يغازل حزب الوسط اليمين من اجل دعمه ضد اكيل، ولكن ذلك سيكون ثمنه باهظا، ومن أهمها تقاسم الحقائب الرئيسية معه. وبتلك المناورة والتحالف في الجولة الثانية يعزل ذيكو اكيل في زاوية ضيقة. أما في حالة لقاء اكيل وذيسي في الجولة الثانية وخروج ذيكو من اللعبة، فلن تكون له خيارات أن يختار اليمين. فتاريخيا صبت أحزاب متحالفة مع ذيكو وجزء من قاعدته الحزبية وأنصاره إلى جبهة اليسار، لكونها اقرب إليها في المصالح والبرامج الانتخابية. الجديد في النهاية هو لو وصل الشيوعيون إلى سدة الحكم، يكون السؤال التاريخي الهام كيف سيمارس الحزب سياسته العقائدية في الداخل والخارج، في عالم رياحه لا تود أن ترى في دولة صغيرة يحكمها الشيوعيون بعد الانهيار الكبير.
وبذلك تتحقق المقولة الشهيرة التي كتبتها بعض الصحف ذات يوم قائلة أثناء انتصار اكيل في الانتخابات النيابية، بان في الوقت الذي ينهار تمثال لينين في الساحة الحمراء ينصب في ميدان الحرية بنيقوسيا تمثال لينين. بهذا التعبير المجازي والدلالي، هلع العالم الحر من صعود اليسار القبرصي لمفاتيح أساسية في الحكم، بتقاسمه للحقائب الوزارية السيادية ورئاسة البرلمان. تبقى مسألة مهمة هو أصوات الأحزاب الصغيرة، التي تصبح مهمة في التنافس، لكونها تحسم الفروقات والهوامش بين المرشحين.
صحيفة الايام
17 فبراير 2008