أتذكر ذات مرة لدى تناولي في هذه الزاوية موضوعا يتصل بهامش حريات التعبير في عصرنا المفروض بفضل تطور تكنولوجيات الاتصالات، كالانترنت والفاكس والموبيل والقنوات الفضائية، وليس بفضل توسيع هذا الهامش من قبل الانظمة العربية.. اذكر انني قلت انه ازاء هذا التوسع النسبي في هامش حرية التعبير الذي فرضه تطور تكنولوجيا الاتصالات ووسائل الإعلام، فإن الأنظمة والحكام الشموليين مازالوا يلعنون في قرارة انفسهم اليوم الذي نجح فيه العلماء في اختراع كل تقنية من تقنيات الاتصالات المذكورة، لأنها افقدتهم جزءاً من سيطرتهم الرقابية الاستبدادية على كل ما يرسل او يبث من معلومات وبرامج لا تروق لهم ويضيقون منها ذرعاً. جال بخاطري هذا الاستنتاج حول سخط وتبرم الانظمة الشمولية الصامت المكتوم من اختراع تقنيات الاتصالات المتطورة والعابرة للحدود السياسية والقارات وأنا أقرأ مؤخراً، كغيري من سائر القراء، خبر الانجاز الكبير الوهمي الذي حققه وزراء الإعلام العرب في مؤتمرهم الأخير بالقاهرة والمتمثل فيما أسموها “وثيقة تنظيم البث الفضائي في المنطقة العربية”. وواضح جيداً انه على الرغم من مرور نحو عقدين على اختراع تلك التقنيات التي فرضت نفسها موضوعياً في المجتمع الدولي بأسره، وعلى تحول العالم بكل معنى الكلمة الى قرية كونية صغيرة، ان حكامنا الشموليين مازالوا اسرى مواريث عقلية الرقابة البوليسية البدائية التي تعود الى ما قبل ثورة تطور تقنيات وآليات ووسائل الاتصال الجديدة كالفاكس والموبيل والفضائيات، وغير ذلك.. فهم يحاولون عبثاً صد أي استغلال من قبل شعوبهم لهذه التقنيات للتغلب على مصادرة حريات التعبير في بلدانهم، حتى على الرغم مما تبدو عليه محاولاتهم هذه من عبث مثير للشفقة والسخرية معاً أمام العالم. لقد دللت تجربة البث الفضائي العربي الحر، والحر هنا بمعنى صعوبة اعاقة منعه من الوصول الى الصحون اللاقطة واجهزة الاستقبال “الريسيفرات”.. دللت هذه التجربة بقوة ان اكثر الأنظمة العربية شمولية هي الأكثر ضيقاً من وجود متنفس أو حرية نسبية يعبر الساسة والمثقفون العرب من خلالها عن آرائهم ومواقفهم بالنقد تجاه تلك الانظمة، وربما تأتي قناة “الجزيرة” القطرية المثيرة للجدل هي في مقدمة هذه القنوات العربية التي تثير حنق أولئك الحكام والانظمة التي يقف اثنان منها بقوة وراء تدبيج الوثيقة الرقابية المسماة “وثيقة تنظيم البث الفضائي في المنطقة العربية”. وعلى الرغم من ان القائمين على صياغة هذه الوثيقة بذلوا جهداً لإضفاء عليها بهارات متنوعة لإخفاء الهدف الحقيقي بتناولها تنظيم البث الفضائي العربي فيما يتعلق بكل المجالات المتصلة بالوحدة الوطنية، والعادات والتقاليد، والنظام العام، والالتزام بالقيم الدينية والاخلاقية وبنية الأسرة والترابط الاجتماعي.. الخ فإنه بدا واضحاً أن كل هذه المجالات العديدة التي عددتها الوثيقة واستطردت فيها ليست الهدف الأساسي من اصدار الوثيقة والتوقيع عليها كميثاق “شرف” بين الانظمة، بل ان الهدف الأساسي منها هو احكام الرقابة على برامج الرأي الآخر والنقد السياسي للأنظمة، وهذا ما جاء في الفقرات التي تنص على عدم تناول قادة الدول العربية او الرموز الوطنية والدينية بالتجريح. و”التجريح” كما نعلم في قاموس الرقابة العربية، مفردة هلامية مطاطة يمكن تفسيرها بأي موقف انتقادي او رأي صريح حر تسول لنفسها أي قناة عربية اطلاقه ازاء اي نظام او حاكم عربي ليتم معاقبتها. لا أحد بالطبع ينكر ان ثمة تجاوزات وسلبيات تتصل بالتجريح الفعلي من سب وقذف سوقي بحق شخصيات وقيادات رسمية وغير رسمية، ولا أحد ينكر ايضا ان هذه التجاوزات قد تمس في بعض الأحيان القيم الدينية والاخلاقية، لكن تبقى هذه التجاوزات بوجه عام إن صحت محدودة، ولاسيما في ظل الهيمنة الرقابية الحديدية الصارمة من قبل الانظمة العربية على جل القنوات الرسمية والخاصة معاً. ومن ثم لا تشكل هذه التجاوزات الهم او الانزعاج الحقيقي من قبل الأنظمة العربية، وخاصة ان بعض هذه الأنظمة التي تقف وراء الوثيقة هي نفسها تتيح لقنواتها وصحافتها ما قد تعتبره الوثيقة يمس الاخلاق والشرف والدين.. الخ. انما الهم الحقيقي الذي يقض مضاجعها هو الهامش الجديد الضئيل جداً من حرية التعبير المتاح لعدد من القنوات الفضائية ولاسيما الاخبارية والثقافية منها ورغبتها في الاجهاز عليه. على ان هذه الوثيقة ازاء التطور المطرد المتواصل لتقنيات الاتصالات والعدد الهائل المتزايد من تناسل الفضائيات العربية، وبضمنها الفضائيات العربية التي تبث من العواصم الأوروبية.. هذه الوثيقة ازاء كل ذلك وان افلحت مؤقتاً في إحكام رقابتها على برامج عدد من القنوات العربية – هذا اذا ما عاشت العلاقات العربية – العربية ربيعاً طويلاً يجسد وحدتها القومية الرقابية على تلك الفضائيات فإنها لن تفلح بأي حال من الأحوال في صد كل القنوات، لا بل سرعان ما ستغدو محاولاتها العبثية هذه لتضييق فضاء الفضائيات أشبه تماماً بمن يسبح ضد التيار الجارف في الفضاء الذي تطلقه الأقمار الصناعية.
صحيفة اخبار الخليج
16 فبراير 2008