المنشور

“هيومن رايتس ووتش” ونفاق السياسات الأمريكية


اعتادت الولايات المتحدة الأمريكية ممثلة في وزارة خارجيتها إصدار تقرير سنوي عن أوضاع حقوق الإنسان في العالم، لكن هذا التقرير رغم حجمه الكبير وشموليته فإنه مفصل على مقاس مصالح الولايات المتحدة نفسها ومبني على رؤيتها السياسية الضيقة الأحادية في تقييمها لتلك الأوضاع. فكثيراً ما يشوب هذا التقييم التعسف في الأحكام المجافية للواقع والحياد الموضوعي، باستثناء بعضها الذي يتسم بقدر من النزاهة والموضوعية. وعادة ما تركز الولايات المتحدة انتقاداتها المشددة في هذا التقرير على الدول التي لا تروق لها سياساتها ومواقفها المتناقضة مع مصالحها، في حين يأتي ذكرها أو انتقادها للدول الحليفة لها أو تتساوق مع سياساتها ومصالحها عابراً وغير مشدد، هذا إن أتى ذكرها أصلاً. وفي مقابل هذا التقرير الرسمي يصدر من داخل الولايات المتحدة نفسها تقرير سنوي دوري حول أوضاع حقوق الإنسان في العالم عن إحدى منظمات حقوق الإنسان العالمية التي تتمتع بقدر معقول من النزاهة والصدقية ألا وهي “هيومن رايتس ووتش”. وفي تقريرها هذا العام الذي صدر قبل أيام تفضح هذه المنظمة وتعري نفاق السياسات الأمريكية المرائية لدى تشدقها بالغيرة على حقوق الإنسان في عدد من دول العالم وحرصها على نشر الديمقراطية فيها. كما يدين التقرير سياسات الدول الأوروبية المتساوقة مع السياسات الأمريكية ذات ازدواجية المعايير والكيل بمكيالين. وأكدت المنظمة في هذا الصدد: ان الولايات المتحدة والدول الأوروبية تقبل انتخابات غير حرة وغير عادلة في بعض الدول خدمة لأهدافها.. وهي بذلك تعطي غطاء لحكام غير ديمقراطيين لأن يدعوا انهم ديمقراطيون، في حين تصمت على مسرحيات تدعي انها أنظمة ديمقراطية. وهي لا تتورع في ذلك عن القبول بحكام مستبدين يقدمون أنفسهم على انهم ديمقراطيون. كما تضرب “هيومن رايتس” مثلا على ذلك بباكستان ونيجيريا وروسيا.. وبالطبع ثمة دول عربية عديدة ينسحب عليها هذا الأمر، فيما يتعلق بقبول واشنطن حكاما مستبدين عربا يقدمون أنفسهم على انهم ديمقراطيون، لكن لربما لم تشر إليهم الصحيفة العربية التي استقينا منها ملخص تقرير “هيومن رايتس ووتش” موضع حديثنا (الشرق الأوسط 1/2/2008م). كما يستطرد تقرير هذه المنظمة، في سياق تعريته وادانته لنفاق السياسات الأمريكية تجاه الديمقراطية وحقوق الإنسان في العالم، قائلاً: “إن الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي والديمقراطيات النافذة الأخرى، بسماحها للمستبدين بأن يقدموا أنفسهم على انهم ديمقراطيون من دون أن تطالبهم بتطبيق الحقوق السياسية والمدنية التي تعطي للديمقراطية معناها، تساهم في تعريض حقوق الإنسان عبر العالم للخطر”. ويضيف التقرير: إن “واشنطن والحكومات الأوروبية توافق باستمرار على نتائج الانتخابات الأكثر إثارة للشكوك، عندما يكون الفائز حليفاً استراتيجياً أو تجارياً”. وهي بذلك ــ واشنطن والحكومات الغربية ــ ورغم أنها أنظمة ديمقراطية راسخة ــ كما يقول التقرير ــ فإنها تسيء إلى الديمقراطية من خلال تركيزها على “الإرهاب” أكثر من تركيزها على القضايا الديمقراطية وقضايا حقوق الإنسان في العالم بتجرد وموضوعية. ولا ينسى التقرير بالطبع فضح مواقف الرئيس الأمريكي جورج بوش الذي يصدع رؤوس العالم مرات كثيرة عما تحقق من التزام دول عديدة في العالم بتحقيق “الديمقراطية” في الوقت الذي ظل فيه هذا الرئيس يلوذ بالصمت عن أوضاع حقوق الإنسان في تلك الدول. لقد اعتاد جورج بوش وصف كل من يوجه انتقادات حادة لسياسات بلاده بأنه حاسد حاقد على الحضارة الأمريكية وديمقراطيتها، واعتادت الولايات المتحدة ومازالت التشكيك في مصدر هذه الاتهامات لها فإما وراءها جهات شيوعية (ابان الحرب الباردة) وإما وراءها منظمات وقوى أصولية وإرهابية، فماذا عسى جورج بوش والإدارة الأمريكية أن يقولا ويردا على تقرير “هيومن رايتس الأخير” هذه المرة وهي منظمة أمريكية مناصرة لحقوق الإنسان معروفة بنزاهتها وحياديتها؟ ولماذا واحد من أعرق البرلمانات في العالم ألا هو “الكونجرس الأمريكي” لا يلتفت ولا يقيم وزناً لتقارير مثل هذه المنظمات العالمية المستقلة المحايدة من أجل محاسبة حكومة بلاده والضغط عليها للالتزام بالمواقف والمعايير الحقيقية لمناصرة حقوق الانسان والديمقراطية في العالم وليس المعايير المزيفة الخاضعة لأهوائها السياسية؟!
 
صحيفة اخبار الخليج
13 فبراير 2008