المنشور

بين آفاق وآفات المستقبل

بأيام قبيل منتدى التنمية التاسع والعشرين الذي عقد في المنامة الخميس والجمعة الماضيين، استلمت بالبريد مجموعة كتب طلبتها عن طريق الإنترنت. من بينها كتاب ‘النفط، كذب، أسرار ومؤامرات[1]’ الذي صدر في باريس قبل أكثر من عام للكاتب الفرنسي إيريك لوران.



في مقدمة كتابه أورد المؤلف مقولة الكاتبة المسرحية كلير بوت لوس: ‘الفرق بين المتفائل والمتشائم هو أن بحوزة المتشائم معلومات أكثر’. سأبتعد بكم قليلا قبل أن نعود إلى الموضوع. كلير كانت يوما موضوع تهكم الفنان العظيم شارلي شابلن. رآها وهي تهاجم صديقه جورج مور: ‘أنت لغز محير.. من أين لك كل هذا المال؟’ أجاب مور بكل أريحية بأنه يتاجر بالفحم، وفي وقت الفراغ يلعب البولو مع صديقه هيتش كوك، وأن شارلي شابلن صديقه أيضا. ترى هل كانت كلير تبحث بسؤالها عن أسرار هذا الشخص أم أسرار الفحم كمادة طاقة تغني صاحبها وتحرك العالم؟ ولم يندهش شارلي شابلن عندما عرف فيما بعد أن كلير أصبحت عضوا في الكونغرس، ثم سفيرة لبلادها، وأنها هي التي أسبغت على السياسة الأميركية التحديد الفلسفي لـما أسماه بـ’الهراء المعولم[2]’.



أما آخر فقرة في كتاب ‘النفط، كذب، أسرار ومؤامرات’ فقد كانت أشد تشاؤمية. وقد اقتبسها الكاتب من مقالة لوزير الخارجية الأميركي الأسبق هنري كيسنجر العارف بعالم النفط كتبها في ‘ذي فايننشال تايمز’ في يونيو/ حزيران 2005: ‘أن الطلب والمنافسة من أجل الحصول على الطاقة يمكن أن يصبحا مصدر حياة أو موت بالنسبة لبلدان كثيرة (..) وعندما ينتشر السلاح النووي بين ثلاثين أو أربعين بلدا يعمل كل منها بحساباته الخاصة بخبرات قليلة ونظم قيم مختلفة فسيظل العالم مهددا بكارثة لا يمكن تجنبها[3]’.



مقولة كلير بوت لوس أرخت بسدولها على منتدى التنمية الخليجي أيضا. فنظرا لأن مقدمي الأوراق هم من مثقفي الخليج والعارفين بحقيقة أوضاعه، كان التشاؤم يمر خطا أحمر عبر كل الأوراق التي قدمت للمنتدى ومعظم الحوارات التي أعقبتها. وإذا كانت القراءة الصحيحة مطلوبة بإلحاح فإن الأكثر إلحاحا الآن هو إبراز التحديات وتبيان طرق مواجهتها وتجاوزها. وإذا كان هذا المحفل النخبوي الهام قد ولد حتى قبل قيام مجلس التعاون واستطاع التكيف مع الأنظمة الخليجية واتقاء غضبها في أحلك الظروف التي مرت بها منطقتنا، فإن التكيف المطلوب الآن هو مع تحديات العصر، التي لم تترك خيارا ثالثا بين أن نستطيع أن نبقى كل قوى العالم الكبرى على بعد متساو عنا، ونستطيع أن نضمن لكل طرف مصالحه المتوافقة مع مصالحنا والمعظمة لمنافعنا، وبين أن نبقى عشبا قد تطحنه صراعات تلك الفيلة، وهذا ما ينذر به الوضع القائم. ولن يتغير هذا الوضع قبل أن نغير ما بأنفسنا بإطلاق الدعوة نحو التغيير الحقيقي في الداخل. ومن نافل القول أن السلاح الرئيسي لجماعة المنتدى على هذه الجبهة هو العلم.



إن من أخطر الأمور على العلم تناوله للشيء من خارجه وليس في وحدته وتناقضه الداخليين أساسا. وهذا ما شاب أولى الأوراق التي يفترض أن تكون الأكثر شمولية[4]. لقد جاء تناول الأوضاع الداخلية للمنطقة في هيئة مقابلة ثنائية مجلس التعاون – إيران، حيث توحي معظم جداول المقارنات وشروحها بأن إيران هي الخطر الذي يكاد يحرك جميع الأخطار الأخرى. وقد يسهل مثل هذا التناول كتابة ورقة ما من حيث الوقت والجهد، لكن آثارها قد لا تكون هينة، خصوصا باعتبارها ورقة منطلقات. لكن المناقشات، لحسن الحظ، ركزت على ما لم تقله الورقة. ركزت على القضايا الداخلية في بلداننا وما تعانيه من أسباب التخلف على مستويات أنماط التنمية إنتاجا وتوزيعا من حيث البنى والعدالة الاجتماعية، وكذلك النظم السياسية والحقوقية بما فيها الحريات السياسية والعامة، وقضايا التعليم ومحفزات الإبداع والسياسات السكانية وقضايا السيادة الوطنية ومسائل التكامل والوحدة الخليجية والبعد العربي للخليج.



أما في تناول الخليج في علاقاته مع العالم الخارجي فتعود إيران في الورقة لتشكل ‘حجر الزاوية’ من جديد، وبمعنى أن إيران تهدد العالم، وأن علينا الوقوف مع العالم ضدها! وبالضد من ذلك ركز عدد من المداخلات على ما فوتته دول الخليج من فرص لاستيعاب إيران منذ قيام الثورة الإسلامية ومجاراة الغرب بما وسع الشق بيننا وبينها. فإيران، بعكس أعدائها في الخارج هي أهم مكون جغرافي في المنطقة، ومهما تغير حال العالم فستبقى كذلك، وأن من الحكمة التصرف على أننا وإيران نعتبر المسؤول الأساسي عن إدارة هذه المنطقة لصالح أهلها والعالم. وأن الأمن الإقليمي للمنطقة يقتضي التعاون معها على مختلف المستويات الاقتصادية والسياسية والبيئية والعسكرية والأمنية لدرء الأخطار الخارجية التي تهدد المنطقة برمتها حين ينشب الصراع على تقاسم ثرواتها. مع إيران والعراق قبل غيرهما تستطيع بلدان مجلس التعاون الخليجي العمل على تحويل هذه المنطقة من منطقة مهددة بالحرب والدمار إلى منطقة سلم وتعاون يخدمان استقرار وازدهار العالم.



كل ذلك لا يلغي أهمية الجهد الكبير المبذول في إعداد الورقة والكم الوافر من المعلومات المفيدة التي ستعين الباحثين بالاستفادة منها مستقبلا. على أن أهم ما أتاحته الورقة هو فرص توجيه الاهتمام لما ‘صمتته’ من قضايا. وقد انعكس ذلك في ما لخصه رئيس الجلسة الختامية الموجه اللبق الأستاذ جاسم السعدون من اقتراحات المتداخلين بأن يهتم المنتدى مستقبلا بثلاث قضايا: مبادرة المنتدى لفتح حوار مع إيران، التركيز على قضايا الحريات العامة والمجتمع المدني وحقوق الإنسان، مخاطبة القوى السياسية في المنطقة.



بهذا يبدو وكأن المنتدى آخذ في التكيف لا ليأمر ‘بالمستطاع’، بل ليتغير من داخله فيدعو إلى التغيير بما يوجبه ضمير رجل العلم عليه أمام الحاكم والمحكوم على السواء. آفات المستقبل بأحجامها الكبيرة تستطيع أن تحجب آفاقه أو تزيلها تماما. وإذا لم تقل الكلمة الحق في الوقت المناسب فلن تنفع بعد فوات الأوان.



قدمت في المؤتمر أوراق ثلاث قيمة أخرى، منها ورقتان اقتصاديتان. لكن احترامها يقتضي القفز عليها الآن على أمل العودة لها لاحقا. فهنا أيضا لا ملامة على العالم (بكسر اللام) حين يتشاءم، حسبما أفادت كلير وأفاد كيسنجر.


[1],]3 [ Eric Laurent, LA FACE CACHEE DU PETROLE, ISBN 978-5-09132-095-8, p. 6



[2] راجع الرابط: http://www.mirobretshikh.narod.ru/ot/charlie_chaplin.htm



[4] عبد العزيز بن عثمان بن صقر، ‘الوضع الاستراتيجي في الخليج، دراسة استشرافية ,’2025 ورقة مقدمة إلى منتدى التنمية، المنامة 7 – 8 فبراير .2008

صحيفة الوقت 
11 فبراير 2008