حتى زمن قريب جدا كان الاعتقاد الشائع لدى دعاة التغيير والحركات الاجتماعية والسياسية التي انطلقت للعمل في سبيل مستقبل أفضل، أن التاريخ يتحرك قدما وصعودا إلى الأمام في مسار تقدمي لاريب فيه. لكن من يتأمل حصيلة العقود الأخيرة سيلاحظ أنها في المجمل حصيلة سيئة، فعهد التغييرات العاصفة ولى، وإذا كان لم يولِ فإن التغييرات العاصفة التي نشهدها لا تذهب بنا إلى الأمام إذا ما حاكمنا الأمور من زاوية القيم التي تنشدها البشرية في إشاعة العدالة والحق. ورغم ما يحققه العالم من اكتشافات علمية ويشهده من ثورة في الاتصالات وتقريب المسافات بين أرجاء الكوكب، ونشوء ثقافة جامعة في الكثير من مفرداتها للبشر، فإن الشقة بين الشمال والجنوب إلى ازدياد، ورغم الاستنزاف غير العقلاني لثروات الأرض تتفاقم مشاكل الفقر والمجاعة والتشرد وتستعصي على الحل. في الوقت الراهن تخضع للمراجعة، لا بل والمساءلة، المذاهب الفلسفية التي روجت لليقين بأن التاريخ لا يرجع القهقرى أبداً، وأن المستقبل هو بالضرورة أفضل من الحاضر فضلاً عن الماضي. ولم تكتف هذه المذاهب بذلك، فإذا ما حدث أن توالت أحداث ذات دلالات سلبية تؤثر في مصداقية هذا اليقين، كان رد أصحابها الجاهز أن التاريخ إذ يسير قدماً إلى الأمام فإنه لا يسير وفق خط مستقيم وإنما عبر تعرجات ولكنها، رغم ذلك، تفضي إلى المستقبل الزاهر. إلا أن مطالع القرن الحادي والعشرين التي نعيشها اليوم تبدو كأنها تنتقم من مطالع القرن السابق، فإذا بأفكار التغيير والتحول والاندفاع الواثق إلى الأمام على خلفية الفلسفات الكبرى تتراجع لمصلحة نزعة تشاؤمية تنطلق من التراجعات التي شهدها العالم، لتقول إن دورة التاريخ دائرية تعود لنقطة البدء ولا تفضي إلى الأمام. أما البراغماتية الفلسفية فوجدت فيما حدث ضالتها لتبشر بنهاية التاريخ بالانتصار المؤزر لليبرالية الرأسمالية، ولتشيع ما يمكن أن ندعوه ثقافة الاستسلام للأمر الواقع. لكن جذوة الرفض حتى وإن توارى لهبها حتى تأثير ما جرى من انتكاسات، تبدو عصية على الانطفاء، لأن ما في هذا العالم الجائر من مظالم كفيل بإشعال أوراها من جديد، وربما بقوة غير مسبوقة.
صحيفة الايام
10 فبراير 2008