اعتادت الولايات المتحدة منذ حرب فيتنام، بتعاقب ونوع حكوماتها ورؤسائها، تظاهرات احتجاج قوية منددة لسياستها الخارجية، غير أن قبل تلك الحقبة لم تكن التظاهرات المناهضة كظاهرة دولية بارزة، بينما شهدت الشوارع الأمريكية وولاياتها تظاهرات مختلفة منذ منتصف التسعينات من القرن التاسع عشر، حيث اشتعلت الحركات النقابية والسياسية والمدنية، أهمها كان الاحتجاج المدني الكبير الذي قاده مارتن لوثر كنغ.
في مثل هذه الحقبة – قبلها وبعدها – ظلت الشوارع الأمريكية تشهد نمطا من الاحتجاجات قبلتها الذهنية والثقافة الأمريكية أكثر من ثقافة أي مجتمع نام أو دول توتاليتارية، فهناك قناعة تامة في الديمقراطية الأمريكية أن الاحتجاج السلمي والشرعي والقانوني حق من حقوق المجتمع المدني دستوريا، غير أنها لن تتساهل مع أي نوع من الاحتجاج العنيف والمؤدي إلى زعزعة الاستقرار، لهذا تعاملت المؤسسات المالية والاحتكارية والأمنية مع حركة مارتن لوثر كنغ بطريقتها الغامضة ولم تحل ألغازها حتى يومنا هذا، وضاعت الملفات في الدهاليز والملفات.
بين فترتين هي فترة الحرب العالمية الثانية وحرب فيتنام، بدأ العالم الخارجي يتعرف أكثر على تلك القوة العالمية الجديدة، بالرغم من كونها كانت حاضرة قبل ذلك بوقت طويل من النواحي السياسية والعسكرية والاقتصادية، لكن سكان الشرق الأوسط وشعوبها تعرف بشكل أوسع على تلك القوة عندما بدأت أساطيلها ونفوذها وقوتها تبرز بشكل اكبر، أولا من حيث تدخلها في سياسات المنطقة، وثانيا اتساع رقعتها الاقتصادية في نفط منطقة الخليج، الذي اجتاز حدود جغرافية إيران.
في هذه الفترة ستبدو الحرب بالباردة ساخنة في تربة الشرق الأوسط بشكل عام وفي تربة العالم العربي بشكل خاص، حيث سيكتشف العرب أن الولايات المتحدة لم تكن غائبة عن الصورة أثناء تقسيم فلسطين، وان أمريكا كانت لاعبا أساسيا في بناء دولة إسرائيل، ولكنها فضلت أن تكون خلف المسرح تاركة لفرنسا وبريطانيا الصعود والمواجهة المباشرة. يومها لم يكشف النقاب عن دور الولايات المتحدة ولم تترجم الوثائق، فمات ذلك الجيل يلعن فقط من كانوا أمامه يمثلون الدور الوسيط بين العرب واليهود، بل ومات ذلك الجيل يسب القادة العرب لأنهم منحوه سلاحا مغشوشا، ثم اكتشفنا أنها حكاية مصطنعة ولم تحدث بالشكل الذي تم تضخيمه.
ورثنا نحن أبناء أولئك المحبطين المنهزمين إرثا من الكراهية التاريخية للغرب وتحديدا للدول الاستعمارية، حتى كدنا نخلط ما بين الشعوب والأنظمة وما بين الأنظمة والإدارات !! وتعززت تلك الروح في تربتنا فصار الغرب بكل منظماته المدنية والمجتمعية وشعوبه أعداء لنا، ثم اكتشفنا جزءا من تلك الحقيقة، ولازلنا نجهل البقية مما يدور في تلك البلدان وطبيعتها وسلوكياتها والأولويات لديها، ومستوى وعيها الاجتماعي والسياسي، وعلتنا نحن في استيعاب مستويات الصراع المعقد في بنية النظام الرأسمالي الجديد لمرحلة العولمة أو ما بعد انهيار القطبية، بل وصرنا نجهل الإجابة عن أسئلة محددة، كيف نقنع الآخر بنا؟ وأين المسافة المفقودة بين الشعوب؟ وهل نحن قادرون كمنظمات ومجتمع مدني الوصول إليهم في ظل ذهنيات معادية وعدمية وفوضوية ومتطرفة لكل ما هو قادم من تلك الضفة بما فيها الضفة الأمريكية؟
وبتجارب حية نعيشها في منطقتنا لن تجد شخصا متحمسا لك عندما تقول له لدي أصدقاء أمريكيون. ففي الحال سيصاب بقشعريرة كهربائية، وكأنك جئت لتوك من البنتاغون أو تجمعات مشبوهة. هكذا كان – احد المثقفين الكويتيين – كان مرتبكا في قبرص عندما قال لأحد الأصدقاء البحرينيين، لا اعرف ماذا افعل لبلادي في حالة غزو العراق للكويت؟، فقال له لو كنت محلك لطرقت باب السفارة الأمريكية، فأجابه الصديق الكويتي باندهاش وتعجب »أنا اضرب باب السفارة الأمريكية« وكادت عيناه تخرج من محجريهما. مرت الشهور وكانت الولايات المتحدة هي القوة الحقيقية التي منحت شعب الكويت الحرية، نعم الحرية بعد أن كاد يضيع ويتشرد، ولن تنفعه ثروته المودعة في البنوك إلا لوقت قصير، ولن تنفعه جعجعة ولا ثوروية الإخوة العرب ولا مزايدات الأنظمة، ولن تنفع كل أشكال الشتائم والكراهية، ولم يعرف مرارة الغزو إلا أهلها وشعبها ولم يستعذب التحرير إلا أهلها أيضا، وليس المهم أن يكون المحررون شركاء في الثروة أو حتى أن يكون لهم بعض الإملاءات التي تفرضها ضرورات الوضع، عندما تجد دول صغيرة كبلدان الخليج نفسها مهددة إقليميا بدول أقوى منها ديمغرافيا وعسكريا، وتقلقها سلوكيات تلك البلدان، مما يجعل الأنظمة الخليجية أكثر قناعة بأن الارتباط بحلفاء تقليديين أفضل من الوقوف مع دول لا يعرف الساسة تقلباتها ولا رياحها أين تستقر.
ومع ذلك لا يلغي ذلك حقيقة أن فكرة السلام وحسن الجوار والتوازن السياسي بين الجميع مهمة دائما، غير أن السؤال هو لحظة الانعطاف ماذا نعمل بمصائرنا في حال اندفاع الطوفان إلى حدودنا؟ من هنا نفهم قلق شعوب المنطقة وقادتها من توتراتها المقبلة والمحتملة، والى أهمية أن تكون الولايات المتحدة لاعبا سياسيا في درء خطر الحرب وليس قوة تفتش عن وسائل من اجل إشعال ذلك الفتيل.
لهذا تأتي زيارة بوش الابن كزيارة تاريخية في هذا الاتجاه، لتذكرنا بزمن بوش الأب، فقد جاء الأب للمنطقة مع مجد التحرير وعاد الابن لها في قمة التوتر بين إيران والولايات المتحدة، حول ملفها النووي، جاء الأب لكي يرسم لمشروع العراق المنهار وليأتي الابن ليزيح ذلك الكابوس الذي غزا الكويت، فكان الابن سلسلة مكملة لمشروع الأب، لتواصل السياسة الأمريكية نهج الزعماء الأوائل، بأن منطقة الخليج منطقة لا يمكن السماح بالتلاعب بها.
صحيفة الايام
10 فبراير 2008