اتخذت الحكومة الإسرائيلية قبل أيام قليلة قرارا بعدم تدريس اللغة العربية في مدارسها الحكومية اليهودية كلغة أجنبية أخرى إلى جانب اللغة الإنجليزية فضلا عن اللغة الأولى الأساسية “العبرية”. والذريعة التي ساقتها لتبرير القرار هو ضغط النفقات، هذا مع العلم بأن العرب الفلسطينيين في إسرائيل، أي “أراضي 1948” الفلسطينية يشكلون نحو 20% من السكان، ومع العلم أن “إسرائيل” هي بمثابة دولة مصطنعة محاطة من كل الجهات، عدا البحر طبعا، بدول عربية وتحتل أراضي عربية في فلسطين وسوريا ولبنان.
بطبيعة الحال لسنا هنا بصدد مناقشة هذا القرار الذي ستتضرر هي إسرائيل منه حتما عاجلا أم آجلا من جراء تجهيل “شعبها” بهذه اللغة المهمة التي ثمة مبررات واحتياجات موضوعية قصوى تفرض إلمامه أو إلمام نخبته اليهودية المثقفة بهذه اللغة. لكن ما نحن بصدده بالدرجة الأولى هو القرار الآخر الذي اتخذته ذات الحكومة الإسرائيلية والذي يستهدف اللغة العربية داخل المجتمع الإسرائيلي، وبضمنه على وجه الخصوص الوسط العربي فيه “عرب 48”، وهذا القرار يتمثل في مشروع القانون الذي وافق عليه مبدئيا البرلمان الإسرائيلي “الكنيست” خلال العام الماضي 2007 والقاضي بتكبير حجم الكتابة باللغة العبرية على الإعلانات والواجهات ولافتات المتاجر وإلا فتسحب تراخيص المتاجر والمطاعم والشركات التي لا تتقيد بهذا القانون. ومع أن ظاهر مشروع القانون هو المحافظة على مكانة اللغة العبرية وإعلانها كلغة أساسية أولى في المجتمع الإسرائيلي، والتظاهر بمعارضة الكنيست كتابة اللافتات باللغة الإنجليزية، إلا أن هذا المشروع يستهدف، بالدرجة الأولى، إزالة اللغة العربية من هذه الإعلانات واللافتات، وخصوصا أن هذه الخطوة تأتي امتدادا لخطوات سابقة اتخذتها إسرائيل منذ سنوات بعيدة في سياق استهدافها اللغة العربية والعرب وهويتهم الثقافية. ويذكر في هذا الصدد أنه سبق لإسرائيل وفي إطار سياسة التهويد التي تتبعها في الأراضي الفلسطينية التي احتلتها وأنشأت فيها كيانها الصهيوني قامت بتغيير أسماء الشوارع والمدن والقرى العربية التي شردت أهاليها عام 1948 إلى أسماء عبرية يهودية، حتى أضحت اللغة العربية لغة أساسية رسمية في إسرائيل مجرد حبر على الورق كما عبر عن ذلك بحق النائب التقدمي العربي في الكنيست محمد بركة. والغريب أن يأتي هذا التوجه الحكومي الصهيوني الجديد في استهداف اللغة العربية والهوية الثقافية العربية على أراضي عام 1948 بعد بضع سنوات من نجاح “عرب 48” في الحصول على حكم قضائي من المحكمة العليا الإسرائيلية يُلزم الحكومة باستخدام اللغة العربية، إلى جانب اللغة العبرية، على لافتات الطرق في المدن المختلطة مثل حيفا وعكا. كما من المفارقات الساخرة المؤلمة أن حتى فلسطينيي الضفة والقطاع، ونتيجة لهذا التغييب المتعمد للغة العربية من قبل سلطات الاحتلال باتوا متأثرين باللغة العبرية في تداول بعض المسميات المرتبطة بمعاناتهم اليومية المزمنة أمام الحواجز والمعابر المغلقة، مثل نطقهم كلمة “محسوم” العبرية للإشارة إلى “حاجز عسكري”، و”مشمار غفول” للإشارة إلى حرس الحدود، و”سيغر” للدلالة على الإغلاق. أما وقوع عرب “48” الذين يعيشون داخل الكيان الإسرائيلي ويحملون جنسيته تحت تأثير اللغة العبرية فحدث ولا حرج ولاسيما في أوساط الأجيال التي ولدت بعد عام 1948، سنة إنشاء دولة إسرائيل. ولعل من أبرز هذه الكلمات التي تأثروا بها في حياتهم اليومية من جراء تسييد اللغة العبرية واحتكاكهم اليومي باليهود والمؤسسات الحكومية والخاصة الإسرائيلية ومعاملاتهم اليومية في الأسواق: “بسيدر” أي ماشي الحال، و”كوبات حوليم” عند الإشارة إلى عيادات المرضى. أكثر من ذلك فإن “عرب 48” سكان أرض فلسطين الأصليين باتوا حتى فيما يتعلق بصميم معاملاتهم الخاصة لا يستطيعون إتمام توثيقها رسميا من دون ترجمتها بأنفسهم إلى العبرية، ومن ذلك معاملات تسجيل الزواج والعقارات، كما لا يستطيع عرب 48 تثبيت المسميات الأصلية لمدنهم ومناطقهم العربية من دون تحويرها تبعا للطريقة العبرية. فمدينة عكا ينبغي أن تكتب “عكو”، وصفد “تسفات”. والحال أن أكثر ما يواجهه “عرب 48” اليوم في صد هذه الهجمة التهويدية التي تواجه لغتهم العربية وهويتهم الثقافية هو كيفية تعزيز مناعة الأجيال الشابة الجديدة من التأثر بعدوى تلك الهجمة بأي نسبة كانت. ولا يمكن في تقديرنا تعزيز صمود “عرب 48” فضلا عن سكان الضفة والقطاع في التمسك بلغتهم وهويتهم ما لم تتخذ الدول العربية إجراءات ووسائل ملموسة فعالة تسهم في تعزيز هذا الصمود، وفي مقدمتها فك العزلة الظالمة المفروضة على عرب 48 رسميا من قبل الدول العربية بحجة “مقاومة التطبيع” ذلك بأن كل أشكال التطبيع العلنية والسرية مع إسرائيل استباحتها هذه الدول ماعدا تشددها في فرض العزلة على عرب 48 بمقاطعتهم وعدم إتاحة المناخ المؤاتي لدمجهم واحتكاكهم الطبيعي بمحيطهم العربي!
صحيفة اخبار الخليج
9 فبراير 2008