في إحدى رواياته يقول ميلان كونديرا “إن السعادة هي التكرار”. وقد يبدو هذا القول مستهجناً من قبل الشاكين من تشابه الأشياء والأوقات وملل الرتابة، والراغبين في التحرر من أسرها، بالبحث عما هو جديد وكاسر للإيقاع المعتاد، بما هو على غير ما جرت به العادة. ولكن هذا القول يجب أن يقرأ من زاوية أخرى. زاوية “الألفة” مع الأشخاص والأشياء والعادات، التي تكتسب مع الوقت طابع التكرار. ثمة صداقة عميقة تتكون لدينا إزاء هذه الأمور، وفي اليوم الذي نخالف فيه مجرى هذه العادات، الأشبه ما تكون بطقوس، نشعر أن ثمة شيئاً اختل في نظام حياتنا. إن الأمر أحياناً يتصل بتفاصيل صغيرة تبدو في الظاهر ثانوية أو شكلية كشرب القهوة مثلاً في موعدٍ معين كل صباح، أو مطالعة الجريدة المفضلة أو مشاهدة حلقة المسلسل التلفزيوني اليومي. ولنأخذ هذا المثل الأخير على سبيل التدليل، سنلاحظ مثلاً أن ألفة من نوعٍ ما تنشأ بيننا وبين شخوص المسلسل وفضول واضح حيال تطورات أحداثه، وسنلاحظ أن التشويق يذهب بنا مذهبه الى الدرجة التي تجعلنا نشعر بحالة أقرب إلى الحزن أو الفقد حين يصل المسلسل إلى نهايته ولا نعود نطالع شخوصه الذين حتى لو كنا نعرفهم جيداً كممثلين، فإننا في المشاهدة نخلع هذه المعرفة عن الشخوص ونتعاطى معها بصفتها أدواراً، أي نماهيها مع شخوص العمل الدرامي. إلا أن أكثر أنواع الألفة قوة هي تلك التي تنشأ بين البشر. ثمة أناس لديهم جاذبية خاصة بحيث إنك تألفهم بسرعة، تألف حضورهم وحديثهم وتواصلك معهم، وأنت لا تستطيع أن تحدد على وجه الدقة ما هي طبيعة المشاعر التي تشدك إليهم، إنها مشاعر غامضة أو متدثرة برداء شفيف بحاجة لمن يكشفه، وأنت لا تستطيع أن تختبر عمق هذه الألفة أو مداها إلا عندما يحدث ما يعكرها، فينتابك الشعور أن شيئاً ما قد اختل، أو أن أمراً ما أصبح ناقصاً، وأن الأمور لا تستقيم إلا باستعادته. هذا النوع من الألفة هي نفسها السعادة الناشئة عن التكرار حسب القول الذي صدّرنا به الحديث. هذه الألفة التي تخترق التفاصيل أو الأمور الصغيرة أو بالأحرى تتشكل منها. إنها تلك السعادة التي لا تعوض لأنها مبعث الرضا والطمأنينة.
صحيفة الايام
9 فبراير 2008