إن سرقة أثر حضاري يعادل في قيمته سرقة وطن، وكل أثر في هذا الوطن له علاقة مباشرة بتاريخ هذا الوطن ومواطنيه، وعليه يعتبر المواطن بالضرورة شريكاً في استعادة هذا الأثر المسروق، لأن هذا الأثر ‘لا يعني جهة بعينها أو مؤسسة بذاتها أو شخص محدد’، ومن هذا المنطلق ينبغي أن يكون المواطن رقيباً صارماً على من يعبث بآثاره وتراثه وتاريخه ووطنه، لا متفرجاً سلبياً بليداً على مسرحية هو أحد شخوصها الأساسيين، ولعل هذه المسؤولية هي ما دعت مواطني إيطاليا، قبل حكومتهم، للمطالبة باسترجاع آثار روما النفيسة المسروقة وتشديد الرقابة على الأماكن الأثرية وعلى من يعمل فيها ويرتادها، وبذلك تمكنت الحكومة الإيطالية بإلحاح من مواطنيها وحرص مسؤول من استرجاع الكثير من القطع الأثرية النفيسة وعرضها في متحف روما الأثري، بجانب توقيعها الاتفاقيات المشروطة مع سلطات بعض الدول لحماية آثارها المستعارة من التلف أو التعرض لخدوش أو تزييف، وكذا الحال بالنسبة لليونان وفرنسا وغيرها من الدول التي يقدر مواطنوها قيمة هذه الآثار قبل حكوماتهم، ويشعلون لهيب الجدل فيما إذا تجاوزت رغباتهم أو حرصهم الغيور على هذه الآثار، ولنا في ذلك أسوة بفرنسا حين اعتزمت نقل بعض الآثار من متحف اللوفر إلى أبوظبي، وكيف هاج وماج مواطنو فرنسا وخبراء الآثار والنقابات المعنية بهذا الشأن وطالبوا وبقوة نحو عدم اتخاذ هذه الخطوة، خشية على آثارهم والآثار الإنسانية النادرة التي احتواها حضن اللوفر لأعوام طويلة من السرقة أو التلف، ولم يتم إقناعهم إلا بعد جدل طويل وإن ظل هذا الجدل لدى بعضهم قائماً وساري المفعول..
لذا ينبغي أن نثمن القرارالذي اتخذه وزير الإعلام جهاد بن حسن بو كمال في تشكيل لجنة للتحقيق في قضية سرقة الآنية الدلمونية، والذي أعتقد أنه القرار الأول في هذا الشأن الذي يقدم عليه وزير للإعلام ممن تعاقبوا على هذه الوزارة، وأهمية القرار تكمن في استعجاله واستعجال البت فيه،حتى (لا تضيع الطاسة بين كاني وماني) كما ضاعت قبلها (طاسات) وجواهر ومقتنيات نفيسة لم يصدر بشأنها قرار ولم يعرف بعد ما مصيرها، ولا من هو السارق أو المهرب، ومن هذا المنطلق المسؤول والحريص من قبل وزير الإعلام نطمح في توسعة مهام هذه اللجنة لتشمل آثار أو مقتنيات قبلها طالها النهب أو الضياع أو الغموض، خاصة وأن هذه الآثار والمقتنيات لم يصدر بشأنها جرد واضح ودقيق، كما أن هذه الآثار والمقتنيات تولى مهمة حمايتها أكثر من مسؤول، كما نطمح أن تعضد هذه اللجنة بخبراء آثار لديهم التجربة والخبرة العميقتين والكافيتين لمعاينة الآثار ورصد تواريخ التنقيب عنها وتحديد عمرها الزمني، فلعل مثل هذه المعاينة البحثية الدقيقة للآثار الدلمونية تقودنا إلى خيوط أخرى للسرقة وربما تقودنا إلى سرقات أخرى غير هذه الآنية، خاصة وأن بعض المواقع الأثرية حسب العاملين فيها تخلو من الحراسة والحماية، بمعنى ما، أن آثارنا الدلمونية وتراثنا الوطني العريق عرضة للنهب بسهولة تامة، ولولا التبليغ عن سرقة هذه الآنية الدلمونية لربما خلى متحف القلعة من كل آثاره بسبب (عدم وجود حراسة).
المسألة في رأيي لا تقف عند تشكيل لجنة تحقيق فحسب، وإنما ينبغي أن تسهم بعض الجهات الحكومية ذات الشأن في تعضيد مهمة هذه اللجنة، خاصة أمن المطار ونقاط الحدود، إذ أنه ليس بمستبعد أن تمر هذه الآثار مرور الكرام من هذه المنافذ، ومهربي الآثار وشبكاتهم في العالم كثر، وكم مرة تم ضبط مهربي آثار في منافذ بغداد الجوية والبرية وكذلك إيطاليا وغيرها من الدول ذات التراث الغني والنادر، وأعتقد أن (بركة) هذه الآنية المسروقة أنها نبهتنا لحضارة معرضة آثارها للسرقة، و (الأبرك) أن تعود هذه الآنية المسروقة إلى موقعها الأصلي، فهل يتحقق ذلك؟
أعتقد أن المشكلة التي ستواجه لجنة التحقيق ليست في كيفية سرقة هذه الآنية أو إهمال المواقع الأثرية، إنما في كيفية التعرف على من سرق الآنية ولماذا وهل يمكن استعادتها أم لا؟
يبقى من المهم جدا أن نستمع لرأي الطرف المسؤول عن هذه الآثار، وعن سرقة هذه الآنية، وعن توجيه العاملين اللوم والإدانة إليه، فحتى الآن لم نستمع إلا لطرف واحد، أما الآخر والذي أسهم بلا شك في تسجيل مواقعنا الأثرية ضمن التراث العالمي في قائمة اليونسكو، لم نستمع منه إلى رأي، هل هو متورط فعلا في القضية أم لا أم هي قضية مفبركة ضد .. بات من المهم أن تنشر بعض صحفنا رأيه في مثل هذه القضية وبأمانة مثلما نشرت كلام من وجه اللوم إليه وحمله المسؤولية.. وكما قلنا في استهلالية الموضوع، المسألة تتجاوز حدود الأثر إلى الوطن، فهل نفسح المجال أكثر ليتسنى لنا معرفة من له مصلحة في سرقة الوطن؟!.
صحيفة الوطن 6 فبراير 2008