في 27 يناير 1944 استطاعت قوات جبهتي لينيجراد (بطرسبورغ) وفولخوف اختراق دفاعات الجيش الألماني الثامن عشر محطمة قواه الأساسية. حدث ذلك بعد أن استمر حصار لينينجراد 879 يوما متواصلة. كان هتلر قد أمر بمسح لينينجراد من على وجه الأرض، وحكم على سكان المدينة القاطنين على ضفاف نهر النيف بالموت جوعا وبردا. لقد كسر الاقتحام البطولي طوق الموت من حول قرابة ثلاثة ملايين نسمة من سكان لينينجراد و 300 ألف آخرين كانوا قد نزحوا إلى هذه المدينة البطلة من بلدان البلطيق والمناطق الروسية المجاورة قبيل الحصار.
حدث ذلك قبل 65 عاما. وهاهو التاريخ يعيد نفسه بشكل أو بآخر.
مساء الثلاثاء/ليلة الأربعاء 23 يناير 2007 عبرت مائتا امرأة فلسطينية بوابة رفح إلى الحدود المصرية. بعدها فجر فلسطينيون خمس قنابل على الأقل محدثين خمس فجوات كبيرة ليندفع مئات الآلاف إلى أشقائهم المصريين طلبا للغذاء والدواء والوقود. وإذا كان من الصعب وضع علامة تساوي بين الأبعاد العسكرية والإستراتيجية والمعنوية لاقتحام حصار لينينجراد إلى الداخل وحصار غزة إلى الخارج، إلا أن ما تفعله الصهيونية العنصرية بحق أهلنا في فلسطين لا يختلف عما مارسته الفاشية الألمانية بحق البشرية.
تحت حجة ردع صواريخ القسام التي تطلقها حماس على أهداف مدنية وغير مدنية إسرائيلية، تعلن إسرائيل غزة “قطاعا معاديا”، وترد بعقوبات جماعية ضد مليون ونصف المليون نسمة من سكان غزة لتحكم عليهم بالجوع والمرض والظلام والبرد وصولا للموت. وبعد أن أغلقت إسرائيل كل نقاط العبور على الحدود مع غزة أعلنت وكالة الأمم المتحدة لغوث اللاجئين الفلسطينيين ” الأنروا” أنها غير قادرة على إيصال معونات الغذاء لحوالي 860 ألفا، أو أكثر من نصف سكان غزة من الذين يحصلون على هذه المعونات. وحتى الأسبوع الماضي سجلت أكثر من 80 حالة وفاة بسبب نقص العلاج والدواء. ووصلت نسبة الفلسطينيين في قطاع غزة الواقعين تحت خط الفقر ( 2 دولار يوميا للفرد ) نحو 70% من السكان، كما بلغت البطالة 70% أيضا.
بعد موجة الاحتجاجات العالمية والعربية اضطرت إسرائيل للتظاهر بأنها ستخفف مؤقتا الحصار الشامل الذي ضربته الجمعة 18 يناير، بعد أن انخفض عدد الصواريخ التي تطلقها حماس من مائة خلال عدة أيام إلى أربعة فقط يوم السبت، وأقل من ذلك يوم الأحد. ولكي تواجه “الأنروا” مهامها العاجلة طالبت بمعونة عاجلة بقيمة 9.8 مليون دولار، وآجلة بقيمة 60 مليون دولار.
ليس من شك أن الدول الخليجية والعربية الأخرى وغيرها من دول العالم ستمد يد العون إلى “الأنروا”. لكن مصير قطاع غزة ومسألة الدولة الفلسطينية ومصير الشعب الفلسطيني لم تبد أمام خطر الضياع كما هي عليه الآن. وضع جميع الأشياء يشير إلى أن حلا لا يلوح في الأفق برغم الإقرار بحق الفلسطينيين في دولتهم الوطنية المستقلة والوعود بقرب قيامها. وعندما اقترحت الراعية الدولية خارطة الطريق في ربيع عام 2003 ، فقد طرح ذلك على رئيسين قويين في طرفي النزاع : الزعيم ياسر عرفات وشارون. وواضح أن الأمر يختلف الآن مع كل من الرئيس الفلسطيني محمود عباس ورئيس الوزراء الإسرائيلي أولمرت. الأكثر من ذلك أن الراعي الأكبر – الولايات المتحدة الأميركية – سيظل منشغلا عن القضية لفترة طويلة. فالرئيس بوش مثله مثل عباس وأولمرت. وإذا كان المرجح أن الرئيس الأميركي القادم سيكون ديمقراطيا فسيتطلب الأمر وقتا حتى يقدم صيغته لحل المسألة الفلسطينية والعربية – الإسرائيلية. وأيا كان الرئيس فسيجد أمامه إرثا ثقيلا ووقتا طويلا يصرفه قبل أن يصحح الأخطاء ويسد الثغرات التي أحدثتها الإدارة الحالية.
هذا الفراغ الحاصل – القاتل على سوداويته يبعث من الجهة الأخرى على طرح سؤال : أليس هو الظرف المناسب لأن تهب الدول العربية لملء هذا الفراغ ، فتتصرف بوعي، كما تصرف أهالي غزة بعفوية، ليعبر العرب من جديد إلى صيغة يقدمونها للعالم وتباركها دول عظمى كروسيا والصين وغيرهما لحل القضية الفلسطينية والنزاع العربي الإسرائيلي على أساس عادل ودائم ؟
وصولا إلى ذلك أمام العرب حلقة مفرغة تقع في قلب القضية الفلسطينية وتشكل حجر عثرة كأداء على طريق التحرك نحو مشروع الحل : إن أي تسوية غير ممكنة بدون حماس،لأنها تسيطر فعليا على قطاع غزة، كما أن لها نفوذها بين فلسطينيين كثيرين في الضفة الغربية، ولذلك فازت في انتخابات ديمقراطية يصعب تجاهلها. كما أن أية تسوية بحماس هي الأخرى غير ممكنة في الظرف الراهن لأنه ليس لدى حماس موقف واضح من مسألة التسوية. لقد اتسمت مواقفها بالتناقضات منذ وصلت إلى السلطة. ومنذ أدت حكومة هنية القسم في 29 مارس 2006، فإنها ظلت تسير كالعرجاء. تركت الرئاسة الفلسطينية تفاوض، بينما هي تصدر ردود أفعال متضاربة يصعب أخذ أي منها بجدية، كأن لا مكان لإسرائيل على الأرض والقبول بمبدأ دولتين عربية “ويهودية”.
وضع حماس “الأعرج” على ضبابيته هو الآخر يوحي بإمكانية عبور حماس من مواقع التشدد المتزمت إلى التعاطي السياسي الباحث عن حل واقعي، بشرط أن يكون لهذا العبور حاضنة عربية قوية تسهله.
أما ما هو مشروع الحل ؟ فعلى الأقل المبادرة السعودية التي أجمع عليها العرب في قمة بيروت وأضحت تسمى مبادرة السلام العربية.
صحيح أن الأوضاع الراهنة لا تشكل الظرف الصحيح لاتخاذ القرار الصحيح بشأن القضية الفلسطينية، لكنه هذا هو الظرف الأنسب لكي يبدأ العرب استعادة الأخذ بزمام المبادرة منذ الآن. فهل سنشهد مرحلة ما بعد رفح ؟
صحيفة الوقت
4 فبراير 2008