حسناً فعلت السلطات المصرية عندما هي سمحت عملياً للجموع الغفيرة من المحاصرين الفلسطينيين إسرائيلياً باجتياز معبر رفح الحدودي الفلسطيني المصري للدخول إلى الجانب المصري من الحدود للتزود بحاجاتهم من الغذاء والدواء والوقود.
وحسناً فعل الرئيس المصري حسني مبارك عندما أعلن أنه أمر شخصياً قوات الأمن المصرية المرابطة على الجانب المصري من الحدود وتحديداً في موقع معبر مدينة رفح الفلسطينية، بعدم التعرض للفلسطينيين العابرين عبر منفذ رفح باتجاه الأراضي المصرية من دون الاعتبار للاتفاق الثلاثي الفلسطيني الإسرائيلي الأوروبي الخاص بالإشراف على معبر رفح الحدودي. فلقد كان موفقاً إلى أبعد الحدود عندما عبر عن مشاعر كل العرب وكل الضمائر الإنسانية بالقول إن مصر لن تسمح بتجويع سكان غزة.
فالوضع الإنساني الكارثي الذي أوقعت إسرائيل سكان قطاع غزة فيه لا يمكن أن تصمد أمامه مثل تلك الترتيبات الأمنية الصلبة والصارمة الخالصة المصالح الإقليمية والدولية والمجردة من أي مبعث إنساني.
ناهيك عن أن هذه الترتيبات الأمنية والتفاهمات السياسية التي تحاكي المصالح أولاً والعنصر البشري ثانياً والبعد الإنساني عاشراً، تقع على تضاد مع قواعد وأحكام القانون الدولي الإنساني الذي تشكل اتفاقيات جنيف الأربع لعام 1949 والبروتوكولات الثلاثة المضافة إليها في عام 1977 ، صلب موضوعه واستهدافاته التي تعكسها مجموعة قواعده الحامية في أوقات الحروب والنزاعات المسلحة للذين لا يشاركون في القتال (من المدنيين والأطباء وعمال الإغاثة والأشخاص الذين لم يعودوا قادرين على المشاركة فيه، كالجرحى والمرضى والجنود الغرقى وأسرى الحرب).
ومعلوم أن المؤسسة القائمة على حماية ودعم القانون الدولي الإنساني هي اللجنة الدولية للصليب الأحمر التي تعمل بشكل فعلي في أكثر من 50 دولة بعدد من العاملين يصل إلى حوالي 9000 ، وهو، أي الصليب الأحمر الدولي، يعتبر منظمة ذات صلاحية قانون دولي جزئية، تأسست كاتحاد تابع للقانون السويسري ومقرها جنيف.
وتنص الاتفاقيات والبروتوكولات سالفة الذكر بوضوح على الاعتراف بحق اللجنة الدولية للصليب الأحمر في توسيع نشاطات بعينها مثل تقديم المساعدة للجرحى والجنود المرضى وضحايا غرق السفينة، وزيارة أسرى الحرب وتقديم المساعدة للأشخاص المدنيين.
وقد قامت اللجنة الدولية للصليب الأحمر بالفعل بتوجيه رسالة تحذيرية للمجتمع الدولي مفادها أن غزة تتجه نحو الكارثة الإنسانية وأن بناها التحتية تنهار، بفعل الحصار الإسرائيلي.
ومع ذلك فقد كانت تلك الرسالة التحذيرية مجرد صرخة في وادٍ قفر ليس لخفوت صوتها وإنما لأن الجميع كانوا قد صموا آذانهم كي لا يسمعوا أنين الأمهات والأطفال والشيوخ المرضى والجوعى. لا بل إن الأمر لم ينته عند هذا الحد من تكلس المشاعر وخيانة الضمير الإنساني، وإنما تعداه إلى ما هو أدهى وأمر. فرئيس الدولة العظمى في العالم جورج دبليو بوش يعلن عن قلقه من السماح للفلسطينيين الجوعى والمخنوقين منذ يونيه من العام الماضي بعبور الحدود إلى مصر للتزود بحاجياتهم من الغذاء والدواء. ووزيرة الخارجية كوندوليزا رايس تناشد السلطات المصرية كي تتحرك للسيطرة على معبر رفح، أي لإبقاء سكان غزة البالغ عددهم مليون ونصف المليون نسمة تحت الحصار والضغط المادي والنفسي والمعنوي.
هذا الكلام لا يبتعد كثيراً عن تصريح رئيس الحكومة الإسرائيلية ايهود أولمرت الذي قال فيه صراحةً بأن حكومته لن تدع سكان غزة يعيشون حياتهم الطبيعية. وهو ما تنفذه إسرائيل على الأرض، حيث أغلقت كافة المعابر المؤدية من وإلى القطاع وقطعت عن سكانه إمدادات الوقود اللازمة لتشغيل محطة الكهرباء الوحيدة وتزويد قطاع النقل، وفي ذات الوقت تقوم بشن غارات يومية بالطائرات والصواريخ والمدفعية والتوغلات من أجل حصد أكبر عدد من الأرواح سواء من نشطاء حماس والجهاد وفتح أو المدنيين، بمعنى أن ما تنفذه إسرائيل من سياسة عقوبات جماعية وإبادة تدريجية، ومنظمة، لسكان قطاع غزة، يحظى بمباركة الإدارة الأمريكية!
ماذا يسمى هذا؟
هل نحن فعلاً في القرن الحادي والعشرين أم أننا قطعنا رحلة سفر عبر الزمن ارتدادية نحو عصر الهمجية الأولى؟
أوليس هذا الغرب الأمريكي والأوروبي الذي يقيم الدنيا ولا يقعدها لمجرد صدور تصريح أو تلميح هنا أو هناك بأن إمدادات البترول إلى الدول الداعمة للعدوان الإسرائيلي بصورة عمياء وسافرة ستتأثر ما لم تكف هذه البلدان عن إيذاء العرب وتهديد مستقبلهم، هو نفسه الذي يصمت تواطؤا على قطع إسرائيل لإمدادات الوقود عن سكان قطاع غزة، وهي، أي إسرائيل – ويا للمفارقة – التي تتزود بصورة منتظمة بالغاز المصري لتشغيل محطاتها الكهربائية وصناعاتها؟
تتحجج إسرائيل في حربها المفتوحة عسكرياً واقتصادياً ضد قطاع غزة بانطلاق الصواريخ منها لاستهداف مستعمرة سيدروت الإسرائيلية. ومع أن هذه الحجة لا تصمد أمام بدائية هذه الصواريخ وانعدام فاعليتها العسكرية إزاء الترسانة الحربية الإسرائيلية المسخرة في الحرب ضد القطاع وسكانه، فماذا تعلل إسرائيل حربها ‘الجوالة’ ضد مدينة نابلس وبعض مناطق الضفة الغربية؟
فلا صواريخ تنطلق منها ولا عمليات عسكرية تشن منها، بل على العكس، فقد بادرت القوى الأمنية الفلسطينية في الضفة الغربية لإحكام سيطرتها على المدينة وحظرت المظاهر المسلحة فيها.
بعد كل هذا الذي جرى في غزة وعلى مرأى ومسمع العالم كله، نتساءل:
هل يمكن أن يتخلق وضع في أي مكان في العالم بهذا المستوى وهذا السطوع من الجرائم الفظيعة المرتكبة ضد مليون ونصف المليون إنسان هم أصلاً ضحايا احتلال عنصري فشل العالم كله على مدى أكثر من نصف قرن في وضع حد له وإنهاء معاناة شعب بأكمله من سوء طالعه أنه ابتلى بطغمة استعمارية هي أكثر الاوليغارشيات نفوذا وتدليلاً لدى دهاقنة الرأسمالية العالمية وخزين إيديولوجيتها الاستغلالية البشعة؟
مع ذلك لا تخجل واشنطن على الإطلاق من الوقوف وحيدة في الميدان، ميدان مجلس الأمن الدولي، لتقارع وتصول وتجول دفاعاً مستميتاً عن جريمة خنق غزة جماعياً على أيدي العصابة الصهيونية الغاصبة، والحيلولة دون صدور قرار هزيل يناشدها بالرفق بضحيتها!
علي أية حال، ليس هذا ما شغل ويشغل بال الكثيرين في العالم العربي وهم يتابعون مسلسل الغارات والقتل اليومي والحصار التجويعي المرعب في غزة. إنما الذي كان شاغلهم الرئيسي هو الموقف الرسمي العربي من الجريمة. فأين هو الإبداع والتجلي الذين يفترض أن يميز الدبلوماسية العربية، بمدارسها العريقة المختلفة، من قضية إنسانية رابحة بكل المقاييس لدرجة أن الاونوروا لم تتردد في وصف جريمة تجويع وخنق غزة بالعمل البربري؟
لماذا لم يسارع النظام الرسمي العربي لرفع دعوى قضائية في محكمة لاهاي الدولية ضد ما تقترفه إسرائيل بحق سكان غزة باعتبارها جريمة ضد الإنسانية، على أن تواكبها حملة إعلامية منظمة، بالصوت والصورة، في أجهزة الميديا الغربية لإبراز الجوانب الإنسانية في المأساة وتعرية إسرائيل أخلاقياً أمام الرأي العام الدولي؟
هو سؤال سيظل يبحث عن إجابة إلى أن يستفيق ويستقيم حال النظام الرسمي العربي.
صحيفة الوطن
2 فبراير 2008