“الكلمة المطبوعة هي مصدر الحياة، الحياة الذهنية التي تحدث آثارا غير متوقعة. فالقراءة توازن الناس وتعطي القيمة للمسلك الذي يجب أن يتخذوه”. فيكتور هيجو
تعكس الصحافة الحزبية، كما المرآة، الحالة الفكرية والتنظيمية والتفكير والخطاب السياسي ومهارات القيادة ومدى التفاعل مع الجماهير والإمكانات المادية والإدارية والفنية للحزب المعني في كل مرحلة من مراحل نضاله. كما تعكس قدرة الحزب على الجمع التفاعلي بين كل تلك الإمكانيات والاستفادة القصوى والمتكاملة منها. وبدورها تساعد الصحافة الحزبية على كشف الثغرات وتداركها وتعطي لجميع هذه الجوانب قوة إضافية. ذلك أن الصحافة الحزبية ترتبط عضويا بكل منها. ولعل متابعة أوضاع صحافتنا الحزبية في مختلف المراحل تثبت صحة ذلك.
ففي كل الظروف، السرية أو العلنية، الصعبة أو الأقل صعوبة، لا يمكن أن يسير الصحافة الحزبية بنجاح إلا حزبيون مبدئيون، مستوعبون للنظرية العلمية ومفعمون إخلاصا لها ومرتبطون بالجماهير الشعبية إلى أبعد الحدود. وقد صقلت الصحافة الحزبية أناسا عاديين لتجعل منهم ثوريين محترفين ذوي خبرات غنية. وفي فترات لاحقة عمل في الصحافة الحزبية مناضلون تلقوا قدرا من التأهيل النظري وتدريبا على مهارات العمل لدى أحزاب شيوعية وعمالية شقيقة.
وقد تعددت وتداخلت الاختصاصات بين تشغيل المطابع، وتخزين المواد، وجمع المال، ونقل المطبوعات بين الداخل والخارج وبين المناطق في الداخل، وعمل المراسلين الحزبيين من مناطق السكن أو العمل أو مواقع الأحداث وإعداد مادة التثقيف الفكري والتعبئة السياسية وابتكار أساليب إيصال المناشير التحريضية المناسبة لكل ظرف. ففي أحلك ظروف الملاحقات البوليسية التي تحصي الأنفاس لم يكتف المناضلون بالطرق التقليدية في توزيع المطبوعات يدا بيد أو عن طريق نقاط التوزيع السرية، بل ابتكروا طرقا فنية لا تخطر على بال الإنسان العادي. ولم تكن تلك أعمال من ضروب المغامرات والبطولات المتناهية فقط، وإنما تطلبت أيضا معرفة جيدة لأساليب وحيل البوليس وفنونا لمقابلتها بأساليب أكثر دهاء.
ومنذ نشرت “الجماهير” برنامج الحرية والاستقلال والديمقراطية عام 1962 ظلت هي الأداة الفعالة لتوصيل موضوعات هذا البرنامج وشرحها للجماهير وربطها بالحركة السياسية اليومية وتعبئتهم في النضال الوطني التقدمي من أجل تحقيقها.
وكانت الصحافة الحزبية خير ناشر وموصل للوثائق الحزبية وشرح تكتيكات الحزب واستراتيجيته في مراحل الاستعمار البريطاني والاستقلال الوطني وأول تجربة للحياة النيابية وخلال فترة النضالات العمالية المتصاعدة في السبعينات، ثم خلال الحقبة السوداء التي أعقبت حل المجلس الوطني والعودة إلى السرية العميقة في ظل قانون أمن الدولة السيئ الصيت.
وقد لعبت صحافتنا الحزبية ومطابع جبهة التحرير الوطني دورا استثنائيا في تجسيد وحدة القوى الوطنية إبان انتفاضة مارس 1965. كانت مطابع الجبهة تلفظ إلى الشارع منشورات موحدة مشتركة لجبهة التحرير والبعث وجبهة القوى القومية وغيرها من القوى. ولأن البلاد كانت تعيش ظروف الاحتلال فقد عبأت صحافتنا الجماهير لاستخدام كافة أشكال النضال الممكنة، بما فيها المسلحة لمقاومة الاستعمار البغيض وطرده من أرضنا وصولا إلى الاستقلال السياسي الذي أعلن رسميا يوم 14 أغسطس 1971.
وفي المنعطفات السياسية الهامة عملت الصحافة الحزبية على فضح ومواجهة الطروحات الانتهازية سواء جاءت من اليمين أو اليسار. وفي أوقات مختلفة تصدت للنزعات التقسيمية لشعبنا سواء الطائفية منها أو القومية الشوفينية والتي أشعلها الاستعمار البريطاني وفق سياسته المقيتة “فرق تسد”.
وعلى الدوام توجهت صحافتنا الحزبية إلى جماهيرنا من مختلف الأجناس والقوميات والأديان والمذاهب والمهن والمناطق الجغرافية دون تمييز. كما ساهمت “الجماهير” في تربية الحزبيين وأنصار وأصدقاء الحزب في روح الأممية البروليتارية ونصرة قضايا الشعوب العادلة في مختلف أصقاع الأرض. ونقلت إليهم أخبار مشاركات قيادات وكوادر الجبهة في المؤتمرات والمحافل والمهرجانات والندوات الدولية واللقاءات الجماعية والثنائية مع الأحزاب الشقيقة في مختلف بلدان العالم. أما الصحافة الحزبية التي كانت تصدر في الخارج كمجلة “النضال” ونشرة “الفجر” و”العامل” و”الأمل” والكتب والإصدارات الأخرى فقد لعبت دورها كمادة تثقيفية في الداخل. وتضافرت مع الأغنية والرقصة والموسيقى ومسبوكات عمال ألبا والصور ومعارض التراث والأزياء الشعبية وشهادات المناضلين عن معاناتهم لتشكل جميعها إعلاما حزبيا أوصل قضية شعبنا إلى العالم وكسب تضامنه ودعمه.
من خلال الصحافة الحزبية لعب المثقفون المناضلون في صفوف الحزب دور “الجرثومة الثورية” لإيصال فكر الطبقة العاملة إلى أوسع الجماهير وتوعيتهم بظروف الاستغلال التي يعيشونها وشروط تحسينها وبارتباط مصالحهم بالقضية الوطنية العامة من أجل الحرية والديمقراطية والتقدم الاجتماعي. وعبأت الجماهير من أجل تنظيم نفسها في نقابات وهيئات سرية أو شبه علنية. وساعدت في ألا تنطلي عليها الوعود الكاذبة والمناورات لكسب الوقت وإعادة تثبيت أوضاع الاستغلال القائمة من جديد، وعلمتهم فنون الإضراب والتفاوض والصمود حتى تحقيق الأهداف المطروحة أو جزء منها. وساهمت في التصدي لنزعات المغامرة التي تأتي بمردود عكسي على الجماهير ونضالاتها فتحدث الانكسارات والإحباطات. وأسهمت في طرح البدائل الثورية الواقعية التي ساعدت على تراكم تحقيق المكاسب الجزئية لتجني الجماهير ثمار نضالاتها وتزداد ثقة وعزيمة.
كان للصحافة الحزبية الداخلية دورها المبكر في شد وحدة الحزب وتماسكه الداخليين وصقل الكادر الحزبي. فمع صدور نشرة “الشرارة” الداخلية لم تعد الصحافة الحزبية محرضا جماعيا فقط، بل ومنظما جماعيا لحزب الطبقة العاملة والكادحين في البحرين. وكانت تعكس قدرة القيادة أو الكادر الذي حل محلها في بعض الأحيان على استيعاب الظرف المعني وتعبئة وتوجيه طاقات الحزب وتكريس وحدته الداخلية ورفع معنويات المناضلين الحزبيين أو، بالعكس، مدى القصور الذي انعكس سلبا على الأوضاع الداخلية وإطالة أمد اجتياز الأزمات عندما لم تستخدم الصحافة الحزبية الداخلية الاستخدام الأمثل.
وفي ظروف السرية والضربات المتلاحقة كثيرا ما شكلت الصحافة الحزبية الداخلية والجماهيرية ( “الشرارة” و”الجماهير”) حلقات الوصل بين المناضلين وموجها جماعيا لهم. وفي بعض الأحيان كانت الصحافة الحزبية الوسيلة الوحيدة الممكنة لممارسة القيادة الحزبية ذاتها عندما تقطعت سبل الاتصال التنظيمي المباشر كما حدث أثناء وبعيد ضربة 1986. ويمكن للصحافة الحزبية أن تلعب الدور نفسه في ظروف أكثر رحابة عندما يكون الحزب واسع الجماهيرية. ففي ظرف كهذا كتب فلاديمير لينين : ” لا يمكن تحقيق قيادة الحزب في ظروف نمو حركته المتعاظمة حاليا إلا عن طريق الصحافة الحزبية” ( ف. إ. لينين، المؤلفات الكاملة، الطبعة الخامسة، المجلد 47، ص 100).
وفي ظروف علنية الأحزاب السياسية ( الجمعيات السياسية) التي أتاحتها مبادرات جلالة الملك الإصلاحية منذ بداية الألفية تحسنت كثيرا ظروف وإمكانيات وطرائق عمل الصحافة الحزبية. لكن المرحلة الجديدة فرضت على الصحافة الحزبية مهام وتحديات جديدة إضافة إلى قسم كبير من القديمة. لم تعد مهمة الصحافة الحزبية تحريضية ضد الفساد والمفسدين وعمليات النهب المنظم واستغلال الإنسان وتدمير البيئة وتغيير التركيبة السكانية وانتهاكات حقوق الإنسان واستخدام العنف والعنف المضاد والحريات العامة والخاصة والتمييز بين البشر والمناطق الجغرافية فقط، وإنما شرح وتوضيح البرامج والرؤى البديلة التي يطرحها المنبر التقدمي في مجالات الاقتصاد والقانون وقضايا العمل والعمال والسكن والأجور والأسعار وتوسيع الحريات الديمقراطية. والتعبئة من أجل إتاحة الفرص لهذه المبادرات لتجد طريقها إلى الواقع العملي وتفتح الطريق أمام الاشتراك الفعلي في عمليات البناء الإصلاحي وتحمل المسؤوليات. وبحكم طبيعة تركيبتنا الحزبية التي لا تعرف انتماءا طائفيا أو قبليا أو مناطقيا فإن صحافتنا الحزبية من بين الأكثر تأهيلا لرفع راية الوحدة الوطنية والدفاع عنها دون شبهات.
بعد خمس سنوات من الصحافة الحزبية العلنية التي تشكل امتدادا لخمسين عاما من الصحافة السرية يجب أن تظهر نشرة “التقدمي” ( “أخبار المنبر” سابقا ) وموقع المنبر الجديد على شبكة الإنترنت www.altaqadomi.com ( بدلا من القديم www.almenber.com) لا بحلل أجد وأجمل فقط، بل وبمستوى أرقى ومحتوى أعمق من السابق أخذا بعين الاعتبار إخفاقاتنا قبل نجاحاتنا في المجال الإعلامي. إن أمامنا من المهام السامية في خدمة شعبنا وكادحيه ما يوجب على صحافتنا الحزبية أن تكون على قدر تلك المهام.
الصحافة الحزبية القوية إحدى أهم أدواتنا من أجل التغيير.
نشرة التقدمي
يناير 2008