يروي الكاتب الباكستاني المعروف إقبال احمد انه كان في إحدى صباحات يناير من عام ٣٩٩١ في معية المفكر الفلسطيني الراحل ادوارد سعيد في شقته في حيس ريفر سايدس يحتسيان القهوة، حين رن جرس الهاتف.
استغرق سعيد في المحادثة الهاتفية الحامية التي كانت باللغة العربية نحو أربعين دقيقة على ما يروي إقبال احمد، قبل أن يعود إلى ضيفه وامارات السخط والغضب بادية عليه وكانت حبات من العرق عالقة على جبينه.
صمت برهة ثم قال: »سينتهي بهم المطاف إلى حراسة اكبر سجن في العالم: غزة«.
لم يقل إقبال احمد مع من تحدث ادوارد سعيد ذلك الحديث الحامي كل ذلك الوقت، ولكن المقصود بعبارته التي قالها بعد انتهاء الحديث كانت قيادة منظمة التحرير الفلسطينية التي انزلقت إلى التوقيع على اتفاق »أوسلو« دون أن تتمعن في المزالق التي سيقود إليها.
احدهم نصح الفلسطينيين في حينه بأن يقرأوا قبل أن يوقعوا، لا العكس، أي يوقعوا ثم يقرأون ما وقعوا عليه، ليكتشفوا كم من الفخاخ انطوى عليها.
الشاعر الكبير محمود درويش قال في حينه: لعل »أوسلو« أوجدت حلا لقيادة منظمة التحرير التي أجهدتها المنافي، لكنه لم يوجد حلا للقضية الفلسطينية، إنما زادها تعقيدا على ما هي عليه من تعقيد أصلا.
وفيما كان هناك مزهوون بالاتفاقية التي صوروها نصرا مبينا، فان ذوي البصيرة الحاذقة مثل ادوارد سعيد تنبأوا بالمشهد الآتي كاملا.
قريبا من الوضع الراهن في غزة، التي يحاصرها الإسرائيليون، في ما يشبه العقاب الجماعي لنحو مليون ونصف المليون من الفلسطينيين الذين يسكنون فيها، دافعين القطاع وأهله إلى كارثة إنسانية مؤلمة، وبعيدا عن ملابسات الصراع الدامي والعبثي بين حركتي »فتح« و»حماس« الذي انتهى إلى ما انتهى إليه، والمؤكد انه ليس الفصل الأخير، فان السيناريو الذي توقعه ادوارد سعيد يتحقق بحذافيره، مذكرا إيانا بالعبارة النابهة لأناتول فرانس والقائلة: »إن نبوءات القلوب الكبيرة تتحقق بكل دقة وجلال«.
شر البلية ما يضحك كما تذهب الحكمة العربية البليغة، فالرئيس الأمريكي جورج بوش الذي جال المنطقة مبشرا بدولة فلسطينية وشيكة، لكن مهمة هذه »الدولة«، هذا إن قامت، فلن تكون سوى حراسة السجن الكبير الذي عنه تحدث ادوارد سعيد.
صحيفة الايام
27 يناير 2008