وُلدت فكرة تنظيم وإدارة المجتمعات بواسطة آليات مبتكرة (بفتح التاء) ليست الديمقراطية سوى شكلها الأعلى والأرقى - في القرن السادس قبل الميلاد في مجتمع أثينا على أيدي حكماء وفلاسفة عظام لعل أبرزهم على الإطلاق أفلاطون وأرسطو. وقد عرف هذا ‘الابتكار’ التنظيمي الإداري الكلي، فيما بعد، طريقه إلى التطبيق بأشكال شتى على مر التاريخ والحقب، وذلك تبعاً لمستوى التطور المحرز في كل مجتمع من مجتمعات هذا العالم المنكمش مساحةً بفضل ثورات العلم والتكنولوجيا.
وهذه الوسيلة التي اهتدى اليها عقل الإنسان الحضري (بدءاً من مدينة أثينا الحضرية الراقية وليس من إسبارطة الفلاحية المتخلفة)، كوسيلة مناسبة لإعادة توزيع المداخيل والثروات، ولو بشيء من العدالة الاجتماعية والإنصاف، تطلب تطبيقها على أرض الواقع اجتياز دروب آلام وعرة مضرجة بالدماء والدموع والنكبات والحسرات، قبل ان تستقر على ما هي عليه اليوم في المجتمعات بالغة النضوج والتكامل الاقتصادي والاجتماعي والثقافي الداخلي، وأيضا قبل ان يجري تصديرها واستنساخ ‘موديلاتها’ في بقاع العالم المختلفة، بنسب توفيق ونجاح متباينة، وذلك تبعاً ‘لإملاءات’ الظروف الموضوعية ومدى جدية وحصافة أسلوب ‘النقل والتوطين’.
فكانت الحصيلة خبرات عالمية متراكمة وزاخرة بكل أنواع التجريب والتطوير، جنباً إلى جنب مع التحايل و’التلويص’، والتطبيق الرشيد والآخر المفرط في الحذر والتوجس. ولكنها في نهاية المطاف حصيلة رائعة بكل المقاييس، فقد أسهمت هذه الآلية الإدارية الحداثية في نقل المجتمع الإنساني من حالة التوحش والصراعات الضارية وأنماط الحياة الموحشة والعلاقات البشرية المتربصة والمريبة، إلى الحالة الحضرية والمتمدنة والمنفتحة التي نحن عليها اليوم.
فكان أن غدت الديمقراطية الآلية المتوجة عالمياً بلا منازع لإدارة المجتمعات وتنظيم شؤونها وشجونها بغض النظر عن كل تفريعات انتماءات أكانت قومية أو عرقية أو دينية أو ثقافية. وكان من الطبيعي أيضاً أن تتمتع هذه الآلية برسوخ متين وقبول مجتمعي عام شبه تام في المجتمعات التي كانت سباقة في الاهتداء إليها وتجريبها وتطبيقها حتى غدت أسلوباً للحياة لا تستقيم نواميس كافة مناحيها بدون مفاعيلها، وصارت جزءاً من تقاليدها. وهو رسوخ تحصَّل بفضل تراكم تجربة وخبرة تطبيقاتها التي تمتد لأكثر من مائتي سنة في البلدان ‘صاحبة الامتياز’ في زراعة بذرتها وتأسيسها تأسيساً مؤسسياً هيكلياً مادياً وثقافةً سائدة وممارسة (بفتح الراء) عبر كافة خطوط المجتمع وخلاياه وفئاته المختلفة.
القصد ينصرف هنا بطبيعة الحال إلى البلدان الغربية الأوروبية والأمريكية الشمالية التي تكاد تكون ‘جزراً معزولة’ بديمقراطيتها التوافقية المجتمعية المستقرة والرائدة.
هي نتاج متراكم لخليط من التجريب المختبر ممارسةً بمؤدى خضوعه للتعديل والتحسين، والتطوير إن استدعى الأمر، قبل أن يبلغ مستواه ‘الناجز’ والناضج. والذي لا شك فيه أن ذلكم التجريب هو الذي أفضى بتلك الدول (دول المركز الديمقراطي - إن جاز التعبير) إلى استلهام الرؤية الافلاطونية والأرسطية (نعم ما قبل الميلادية) البصيرة والثاقبة بشأن التطبيق الأمثل للأوالية الديمقراطية، وذلك بالمزاوجة بين الديمقراطية الشعبية (صناديق الصوت الواحد - لكل مواطن - الاقتراعية) والنخبوية (إنشاء هيئات تمثيلية، برلمانية، من غرفتين، بصلاحيات متقاربة). وهذه الأخيرة، كما نعلم مقاربة أرسطية (نسبة إلى أرسطو) بامتياز. وهي مقاربة تستهدف التغلب على التعسف في استخدام الأداة الديمقراطية والإسفاف في ممارستها.
واليوم ورغم نقل هذه ‘التقنية’ الإدارية الكلية من مواطنها الأصلية وأسواق رواجها إلى خارج الحدود نحو آفاق أرحب، وتعميم تجربتها بأشكال انتقائية ومستويات شتى، إلا أن الديمقراطيات الغربية تظل منفردة بعمق ‘أسواق رواجها’ واستقرارها وانتظام صيرورتها التاريخية. ولكن، وبما أن الديمقراطية الغربية هي الوليد الشرعي للرأسمالية الغربية كنظام اقتصادي اجتماعي قائم على الحرية الاقتصادية والأسواق الوطنية غير المقيدة (Deregulated)، باعتبارها وسيلة التنظيم والتوازن.. تنظيم العلاقة بين جهاز التسيير الكلي (الحكومة) التي يُفترض أن تمثل مصالح كافة المواطنين على اختلاف انتماءاتهم الطبقية، وبين السوق الخاضع لقوانين الدورات الاقتصادية وقواه المندفعة لحد الجموح أحياناً نحو قطف أينع الثمار وأكثرها وأسرعها، وتوازن علاقات القوى المجتمعية صوناً للاستقرار والسلم الاجتماعي…. وإذ نزعم، اعتقاداً، أن للسياسة دورة (Cycle)، كما للاقتصاد، فإنه يصير من اللامعقول، ولم يسجل تاريخ التطور النهضوي والحضاري العالمي، إن هذا التاريخ يسير في اتجاه واحد صعودي مستقيم.
فلقد بدأت الديمقراطية في الغرب بأشكال تمثيلية متواضعة، سرعان ما تطورت وتمأسست وتشعبت مصادر وأدوات ممارستها، إلى أن وصلت إلى الشكل ‘المثالي’ لإقامة وتنظيم علاقة واعية، حضارية، بين الفرد والمجتمع وبين هذا الأخير والدولة، علاقة يضمن ثباتها واستدامتها نسق متناغم (نسبياً) من الأطر والتقاليد المتراكمة الذاهبة أعرافاً لا يقدح فيها عدم التقنين، والقوانين الخاضعة للتقويم والتصحيح بواسطة أواليات هذا النسق.
ولما كانت الاستدامة ليست كلية أو مطلقة، رغم الحضور الفاعل لآلية التصحيح الداخلية داخل ‘السيستم’ (النظام)، فان ترجيح كفة منطق السوق في عديد الحالات على كفة منطق ‘السيستم’ الذي يمثله جهاز التسيير الكلي وآلية عمله المركزية المتمثلة في الديمقراطية، لابد وأن يجعل الأخيرة تخسر نقاطاً لصالح قوى السوق التي يمثلها طواغيت رأس المال، وإن يعتور الضعف بعض مفاصلها، فتصدر القوانين والتشريعات بوحي من مصالح هذه القوى، محدثة اختلالاً في شروط التوازن والاستقرار والاستدامة.
يحدث ذلك في ظروف تتميز بطغيان فاحش لأصحاب رؤوس الأموال الكبيرة وسيطرتهم التامة على مرافق حيوية مثل الإعلام وإمدادات الطاقة والنقل وقطاعات مفتاحية مثل القطاع المالي الذي يعيد انتاج الظاهرة الاوليغارشية، والبيروقراطية الحكومية غير الديمقراطية الموالية لمصالح رأس المال أكثر من تمثيلها وموالاتها لمنطق الدولة التي تدفع مرتباتها ومنطق المصلحة العامة بالإجمال.
وفي ظل هذا الاختلال بين الاواليتين .. أوالية الدولة المستندة إلى أداة حكمها الديمقراطية وأوالية السوق الجامحة بجشع روادها، لاغرو أن تهدر هذه الدولة مبادئها الديمقراطية والحقوقية الإنسانية فتعقد صفقات تسلح وتبرم عقود اقتصادية بمليارات الدولارات مع أنظمة طالما صنفتها كأنظمة دكتاتورية وتعاملت معها على هذا الأساس، وأن تتغاضى عن انتهاكات حقوق الإنسان على نحو سافر ومستفز في بلد آخر لقاء التمتع بحظوة وأسبقية الفوز بحصة من عقود التلزيم، وأن يتم التغاضي أيضاً عن حصار شعب بأكمله (غزة مثالاً وحسب) بينما تعاقب قوانين الديمقراطية الأوروبية من يترك كلبه داخل سيارته لوهلة ريثما ينهي معاملة له داخل أحد المصارف.
واقع الحال أن الديمقراطية الغربية قد تعرضت في العقدين الأخيرين لسلسلة من الاختراقات المهمة من جانب مراكز قوى رأس المال المالي، ما أثر سلباً على قدرتها في ممارسة وظيفتها الحقوقية الأصلية، الأمر الذي يُتوقع أن يؤدي إلى تنشيط جبهة العمل النقابي في مواجهة نهم رأس المال وتعدياته غير المسبوقة. ولذلك لربما تطلب الأمر أن تتواضع الديمقراطيات الغربية قليلاً وتخفف من غلواء اعتدادها بنفسها، وان تعيد تقييم دورها التاريخي في ظل العولمة الكاسحة التي تتسم بعض افرازاتها بتنمر الرأسمالية على الديمقراطية داخل المعاقل الرئيسية للنظام الرأسمالي العالمي. ففي ظل هذه العولمة لم يعد مسوغاً الفصل بين الوطني وفوق الوطني، ولن يعد أمراً معقولاً أو مقبولاً أن يكون النظام الرأسمالي ديمقراطياً داخل حدود مراكزه وغير ديمقراطي خارجها!
صحيفة الوطن
26 يناير 2008