قلنا في مرة سابقة إن كثيرا من الشوائب قد علقت بجسم الديمقراطية الغربية وصار لزاما عليها المبادرة سريعا لتنظيف الأجزاء المتسخة من جسمها كي يستعيد هذا بعض بهائه المتلاشي بفعل الزمن الذي جارت فيه الرأسمالية بصورة فجة على احدى ماكنات حيويته، وهي هنا الآلية الديمقراطية. رئيس الوكالة اليهودية المختصة بأعمال تهجير اليهود وأنصاف اليهود من بلدانهم الأصلية إلى فلسطين المحتلة منذ ما قبل قيام إسرائيل في عام ,1948 يعلن بملء فمه، وبكل تبجح وتباهٍ، بأن وكالته نجحت مؤخرا في تهريب 40 يهوديا إيرانيا من إيران إلى إسرائيل عبر دولة ثالثة لم يشأ الإفصاح عن اسمها، ما يرفع إلى مائتين عدد اليهود الإيرانيين الذين استطاعت الوكالة اليشهودية تهجيرهم من إيران إلى إسرائيل العام الفائت (2007)، وذلك مقارنة بعدد اليهود الإيرانيين الذين رتبت عملية نقلهم سِرًّا من إيران إلى إسرائيل في العام قبل الماضي (2006) والبالغ 65 إيرانيا.
وكانت إسرائيل قد شرَّعت لنفسها، منذ قيامها، حق منح كل يهودي في العالم، أينما وُجد، حق الهجرة إلى إسرائيل والاستيطان فيها والحصول على جنسيتها. ومن يومها والوكالة اليهودية، وهي هيئة حكومية مكلفة بترتيبات تهجير يهود العالم إلى إسرائيل، ما انفكت تعمل بكل شراسة من أجل دفع اليهود المتواجدين في مناطق العالم المختلفة، للهجرة إلى إسرائيل. وتتمتع هذه الوكالة اليهودية بحظوة ونفوذ خاصَّين ليس لدى أوساط الطبقة الحاكمة الإسرائيلية وحسب، وانما لدى أساطين المال والسطوة والجاه في أماكن التواجد اليهودي عبر العالم، لاسيما في البلدان الغربية التي يتعاطف معظم طبقتها السياسية مع إسرائيل ومع ترحماتها وبكائياتها ومناحاتها على ما تعرض له اليهود من بطش على يد النازي الألماني إبان العقبة الهتلرية.
ولعل هذا هو ما يفسر حالة الخرس التي تصيب الساسة الغربيين حين تتناهى إلى أسماعهم أنباء أنشطة الوكالة اليهودية، المحمومة، الخاصة بإعداد وإنهاء ترتيبات تهجير مواطنين يهود من بلد ما إلى إسرائيل.
ورغم وقاحة وبجاحة تصريحات رئيس الوكالة اليهودية المتباهية بنجاح وكالته في نقل الدفعة الأخيرة من المهاجرين اليهود الإيرانيين إلى إسرائيل، ورغم طابع التهريب (Smuggling) والقرصنة (Piracy) الذي اتسمت به عملية التهجير السرية، والتي لا تختلف كثيرا عن الطرق التي تتبعها العصابات الإجرامية المنظمة المشتغلة في مجال الاتجار في الرقيق (Trafficking in slavery) الذي صارت الخارجية الأمريكية تفرد له تقريرا سنويا خاصا يرصد لما تعتبره واشنطن انتهاكات لحقوق الإنسان متمثلة في هجرة واستغلال هجرة العمالة الرخيصة عبر العالم في وظائف شتى لا تتوفر فيها شروط الكرامة الإنسانية – رغم ذلك فان أحدا في العواصم الغربية لم ينبس ببنت شفة تعليقا على ما قامت وتقوم به الوكالة اليهودية.
أيضا، وعلى الصعيد نفسه قد يتساءل البعض وكيف لهؤلاء المهاجرين أن تطاوعهم قلوبهم وتسعفهم على ترك الوطن الذي تربوا وعاشوا وتعلموا في كنفه والتوجه، عوضا عنه، للعيش في بلد غريب ومع أناس أغراب، حيث لا أهل ولا أحباب ولا مكان الطفولة والصبا الأول الذي لا تاريخ للواحد منا بدونه، اللهم الوعد بحياة أرغد وأهنأ؟
في عديد الحالات، وليس جميعها، ليس مستبعدا أن يكون الافتقار للعيش الكريم والكرامة الإنسانية في البلد الأم، هو المحرك الاضطراري لدفع البعض للهجرة هربا من واقعه المأزوم، ليس اقتصاديا واجتماعيا وثقافيا وحسب وانما نفسيا أيضا، وهو الأخطر على الذات الإنسانية بطبيعة الحال.
بيد ان هنالك من حالات الهجرة، العديدة أيضا، التي يقف وراء محفزاتها ابتلاع طعم الأوهام، أوهام الوكالة اليهودية في الحالة التي نحن بصددها. فكم من اليهود وأنصاف اليهود الروس والأوروبيين الشرقيين وغيرهم، ذهبوا ضحية هذه الأوهام، حيث انتهى بهم الحال في إسرائيل إلى مواخير الدعارة وتجارة المخدرات.
ولأن معسول الوعود لا يتطابق دائما مع حقائق الواقع على الأرض، فقد كان لابد وأن تصل أنباء إخفاقات الموعودين برغيد العيش في كنف البلاد التي تدين بديانتهم، العائدين بخيباتهم، إلى أولئك الذين ينتظرون أدوارهم للانضمام إلى من سبقوهم إلى تلك ‘الواحة’ الموعودة، فتأتي النتيجة بما لا تشتهي سفن الوكالة اليهودية، حيث أعرب رئيسها زئيف بيلسكى عن قلقه من التراجع المستمر في اعداد المهاجرين اليهود إلى إسرائيل بعد ان أظهرت أرقام نشرتها وزارة الاستيعاب الإسرائيلية يوم الرابع والعشرين استمرار تراجع هؤلاء المهاجرين في عام 2007 وبلوغ عددهم 19700 مهاجرا، وهو أدنى مستوى يسجل منذ حوالي 20 عاما. وفي حين بلغت نسبة التراجع الإجمالية 6٪ مقارنة بعام 2006 فإنها سجلت انخفاضا حادا من دول الاتحاد السوفييتي السابق نسبته 15٪، علما بأن المهاجرين اليهود من هذه الدول يشكلون 30٪ من اجمالي اليهود المهاجرين إلى إسرائيل.
الآن.. أين هي المنظمات الدولية المعنية بمكافحة تهريب البشر والاتجار بهم.. أين هي من أعمال القرصنة والتهريب التي تقوم بها الوكالة اليهودية بعلم الجميع وإن تم بعضها تحت جنح الظلام؟
وهل يعقل ان يسمح للغرباء بالاستيطان في وطن ليس وطنهم في حين ترفض إسرائيل الحديث حول حق اللاجئين الفلسطينيين الذين هُجّروا قسرا من ديارهم؟!
صحيفة الوطن
20 يناير 2008