سجين الغرفة 101
ربما يكون الكاتب البريطاني جورج أورويل من اوائل الكتاب الذين تنبأوا في أعمالهم بالمصير الذي سيؤولإاليه عالمنا المنكوب بالاستبداد والقمع وسيطرة الاحزاب الحاكمة والنظم الشمولية والقلة المسيطرة وتدخل أجهزة الاستخبارات في جميع أنشطة الانسان وقولبة فكره ومسخه وتحويله الى كيان آخر، منزوع الاستقلالية، ومسلوب الإرادة ويساوي صفراً، أو ممسوخا ومغسول الذهن ومجيّر في الغالب لصالح النظام وفرد تابع وخاضع له، وكلما عرف العالم كارثة انسانية جديدة من صنع بني البشر كالكوارث المالية والصحية والمناخية الانقلابات والابادات الجماعية وحروب الفقر والتجويع والكذب والتضليل، وكل الحوادث التي تبدو في ظاهرها طبيعية وتحدث من تلقاءها، ثم يتبين لاحقاً أنها مصطنعة وتخفي التآمر والخديعة، أقول: كلما جرى ذلك كلما تذكّر القراء روايات أورويل “مزرعة الحيوانات” ورواية “1984” المعبرتين عن شقاء ومحنة الانسان الواعي والعارف أو الفالت من أسر التبعية وتيار القطيع والاعلام الموجه الذي خسر سيطرته راهناً امام المد الجارف والكاسح للأعلام الالكتروني .
بطل رواية 1984 موظف يعيش في العام 1949 لكنه تخيّل عالم الثمانينات وما بعده ورسم صورته بدقة ونتبأ فيه بسيادة الفكر الاستبدادي وأساليبه المتطورة، هذا النظام الذي اذا اعتراه خلل او صادفته مصيبة، فإنه لا ينقلب على ذاته ولا يغير مجراه، انما هو فقط يتخلص من نقاط ضعفه ويعزز دعائم قوته ويكسب أعضاءً جدداً، ويبتكر أساليب جديدة يسيطر بها على العامة وعلى كل احتمال بالتغيير أو الثورارت أوالانقلابات التي قد تحدث مستقبلا.
يصف ونستن سميث بطل الرواية البلد التي يعيش فيها والتي يسميها “أوشانيا” كناية عن بريطانيا، بأنها محكومة من أربع وزارات، وزارة الحقيقة، وزارة السلام، وزارة الحب ووزارة الوفرة. ولاحقاً يكتشف القارئ أن الأولى هي وزارة الإعلام والثانية وزارة الدفاع والثالثة وزارة الداخلية والرابعة وزارة المال، وأما وزارة الحقيقة التي يعمل فيها البطل، فمهمتها مراقبة الشعب ونشر الأخبار الملفقة والتصنت على المواطنين وتحطيم العلاقات الأسرية وافناء كل ولاء غير موجه للحزب، ووسيلة هذه الوزارة تقوم على السيطرة على اللغة (التربية والإعلام والدين) واقناع العامة والسيطرة على العقول وتدميرها وإعادة تركيب الكلمات والمصطلحات المتداولة، بل وصنع لغة جديدة، ونستون يرى بعد فترة أن وزارته تقوم بين الحين والآخر بمراجعة التاريخ وحرق وحذف وتغيير وتعديل ما لا يناسبها وما لا يتوافق مع المعتقدات والحقائق التي تريدها وتتفق مع سياساتها .
يبدأ البطل بتدوين مشاهداته وأفكاره فيصير تحت مراقبة شرطة الفكر منذ تلك اللحظة، يقع في الحب بعد فترة مع فتاة اسمها جوليا، ولأنه مراقب ومكشوف بسبب اجهزة التصنت وشاشات المراقبة بحكم معارضته وشكوكه في عقيدة الحزب وانتماءه لجماعات مناوئة، تقبض عليه شرطة الفكر ويقتاد إلى وزارة الحب حيث يجري استجوابه وتعذيبه ومعالجته من كراهية الحزب، وفي إحدى الجلسات يتضح له أن تعذيبه ليس بغرض الحصول على المعلومات أو الاعترافات ولكن بهدف تغيير طريقة تفكيره، يؤخذ الى الغرفة 101 والتي تعد الغرفة الأكثر رعبا حيث يسلط على السجين أكثر شئ يخافه كي تتحطم قدرته على الصمود والمقاومة، وتقوم فكرة الرقم 101على أن الفرد يدخل وهو يشكل رقم واحد ثم يُصيرونه صفراً، ثم يعاد خلقه من جديد ليصبح واحداً جديداً لكنه واحد نافع وغير مضر للحزب بل ومؤيد له، وفي حالة ونستون يسلطون عليه الفئران التي يخشاها، وهنا يصرخ البطل “لاتفعلوا ذلك بي افعلوه بجوليا”، فيدركون أنه انتهى وأوصلوه إلى مرحلة تحطيم اعماق القلب والوجدان، عندها يتوقفون عن تعذيبه ويخرج من السجن، يعود مرة ثانية إلى المجتمع انساناً جديدا معافى من ذلك الرجل الذي كانه في السابق، مغسول الدماغ ومعادة تربيته ومعتقداته ونظرته إلى الحزب .
في المشهد الأخير من الرواية يلتقي ونستون بحبيته بالمصادفة، يتحدثان ببرود ، يصف كلاهما احاسيسهما القديمة السابقة “بالسيئة” ، يقر كلاهما بخيانة الآخر، يفترقان بلا مبالاة، ويعود الصحفي إلى حياته السابقة بدخل أكبر ووضع مهني أفضل وبمصالحة مع الحزب وباتفاق على الاستمرار في عمله كصحفي مزَور للحقائق حفاظا على لقمة عيشه وتلافيا لتهديدات الحزب له بإعدامه .
الرواية التي تحولت إلى فيلم سينمائي شهير اختارتها مجلة “التايمز” قبل عدة سنوات كواحدة من أفضل 100 رواية كتبت بالإنجليزية، وترجمت إلى 60 لغة، وكانت تعد رواية خطرة ومنعت من التداول في الكثير من الدول، ولكن بقيت المصطلحات الواردة فيها ك”الأخ الأكبر”، “لا تفعلوا ذلك بي افعلوه بجوليا”، “والغرفة 101″ و”وزارة الحب”- التي تحّول السجين من انسان كاره للحزب أو السلطة إلى انسان محب ومتصالح معهما – تحولت الى مفردات سياسية عامة ومتداولة في الشارع السياسي.
لقد أراد اورويل في أعماله استعراض رؤيته وتنبؤاته لمستقبل عالمنا قبل رحيله ملخصا أساليب النظم الاستبدادية التي كرهها، وأتيح له اثناء عمله كمراسل صحفي وموظف في الشرطة الاستعمارية أن يكشفها عن قرب، فيقوم بفضحها وتحليل غاياتها والتنبؤ بمصائر البشر الواقعين تحت قبضتها .
العودة إلى روايتي “مزرعة الحيوانات” و1984″ تعطي اجابة وافية على بعض مجريات الأحداث في ايامنا الراهنة. إن كاميرات المراقبة التي تجتاح العالم اليوم أمر تنبأت به الرواية قبل 60 عاما .
نشرة التقدمي العدد 126 مايو 2018