الآن، وبعد أن أكرمنا الله بأضخم اكتشاف من النفط والغاز في تاريخ البحرين، وفي هذا التوقيت الحرج اقتصاديًا وماليًا، وبعد كل التحليلات والتصريحات والتوقعات والكلام الجميل الذي قيل في شأن مردودات وعوائد هذا الاكتشاف الاستثنائي على التنمية والرخاء والتعمير والازدهار وتطوير البنى التحتية في هذا البلد، وكيف أنه يشكِّل عنوانًا لمرحلة قادمة، وهو الكلام الذي توّج بما أكد عليه جلالة الملك بأن عهدًا جديدًا لمواصلة التطوير والتنمية في البحرين قد بدأ، وبدأت معه قصة نجاح جديدة بقدرتنا على تطويع التحديات..!
بعد كل ذلك، وبعد 86 عامًا تفصل بين الاكتشاف الأول للنفط فى البحرين «1932» وبين إعلان الاكتشاف الأكبر «3 أبريل 2018»، وبعد كل جرعات الأمل التي تحملها هذه الاكتشافات التي قيل إنها ستغير خارطة احتياطات الطاقة في البحرين، لا نريد، بل لا مجال لاستعادة ما قيل، وهو كثير ومهم ويستحق القراءة المتأنية، فذلك يعني في مجمله أنه لم تعدْ بعد اليوم منطقية للشكوى من أن ليس لدينا نفط ولا موارد ولا ثروات طبيعية كجيراننا، صحيح أننا نحتاج الى وقت، لكي تكون عوائد هذه الاستكشافات ضمن إيرادات الدولة، فالمدى الزمني غير واضح، وإن قدره البعض بنحو عامين او أكثر قليلًا ولكن لابد من المسارعة في دراسة آفاق بناء المستقبل بناءً على الواقع الجديد الذي ستفرضه هذه الاستكشافات على المدى المتوسط، وحتى البعيد، ولا نقول القريب، وفي هذا السياق لابد من إجراء معاينات فورية شفافة ومدروسة للضغوطات وفهم واعٍ للتحديات التي تعترضنا وبالشكل الذي يؤدي بنا الى بيئة مؤاتية أفضل لا تجعل تمنياتنا وتطلعاتنا تتعثر، او تخضع لتنظيرات سئمناها لوجود فائض كبير منها بتنا على يقين بأن محصلتها النهائية لا شيء ملموس..!
نعلم بأن هناك تراكمًا وتشابكًا لجملة من التحديات، وأنه علينا أن نعلم الى أين نتجه لمواجهة هذه التحديات، من ناحية المالية العامة، وتطوير أساليب إدارة الدَّين العام كهدف استراتيجي للخروج من الحلقة المفرغة ومحورها الرئيسي المتجسد في هذا المستوى المرتفع من الفوائد، الى جانب تحديات تتصل بالإصلاح الاداري وبالحوكمة التي تعني ضمن ما تعنيه الشفافية، والإدارة النزيهة والفاعلة والسياسات المتسقة، في كل ما يحفظ الأصول والممتلكات والاستثمارات مع تفعيل آليات المحاسبة ومكافحة الفساد وكل ما يشجع الجو الاستثماري والتوظيفي بالشكل الصحيح والمفيد للاقتصاد بكل قطاعاته..
ولا ننسى أنه في خضم التحديات تأتي تحديات أخرى تتصل بتوفير فرص عمل للبحرينيين وإعادة الاعتبار للبحرنة، وتحسين معيشة المواطن، وبوجه عام كيف نحسن من استغلال الموارد الجديدة وإيراداتها، أم أننا سنستمر في نفس المعالجات التي اتبعت في السابق، نفس المراوحات، نفس المعالجات القاصرة، نفس العقلية، نفس النتائج، نفس التدخلات في الشأن الاقتصادي، وكأن ذلك إقرارًا بأنه ليس هناك تخطيط ولا إدراك للمشاكل المطلوب حلها، لذلك لم يكن غريبًا ان نستشعر أن بعض القرارات كانت تتخذ لشراء بعض الوقت، والمشكلة أحيانًا ليست في القرار بل في الإدارة والتخطيط للمستقبل، ومع الاحترام للجميع أودّ أن أتساءل وبمنتهى الصراحة، هل يعقل أن نعيش وسط معركة اقتصادية تراجعت فيها الموارد المالية الأساسية للدولة بشكل غير مسبوق وأدت الى عجز فادح في الميزانية العامة للدولة، والى دَيْن عام استثنائي، وفوائد مرهقة على هذا الدَّين، دون أن يظهر من يفترض انه معنى يشرح لنا بكل شفافية حقيقة وضعنا المالي والاقتصادي، دون أن ننسى أن هناك حالات كثيرة وجدنا فيها فجوة بين ما يعلن وبين ما يحدث على أرض الواقع، او أن الأولويات الحقيقية ليست الأولويات نفسها المعلنة..!
من حق المواطن والتاجر والمستثمر، حاليًا او لاحقًا، قريبًا او بعيدًا، أن يكون مطمئنًا الى صوابية الأولويات، ومعرفة كيف يتحقق أفضل عائد ممكن من عوائد هذه الاستكشافات الاستثنائية من النفط والغاز، كيف نجعل هذا المستجد الإيجابي في واقعنا دافعًا للعمل والإنجاز والأمل، من حق الجميع معرفة السياسة المالية والاقتصادية المستقبلية للدولة، السياسة التي تصمم على ضوئها الأولويات والمراحل التي تتضمنها للوصول الى الأهداف المنشودة، والتي من أهم نجاح عناصرها أن تقتنع الفعاليات السياسية والاقتصادية والمجتمعية، والرأي العام بصوابية وشفافية هذه الأولويات والمراحل، وأحسب هنا أننا لسنا في حاجة الى التذكير بأهمية تجاوز حالة البقاء في دائرة الشعارات، مع ملاحظة لا ينبغي أن تغيب عن البال، إنه ليست هناك شعارات صالحة لكل الأوقات والظروف والأوضاع..
ندرك أنه ليس من الصواب توقع نتائج فورية وسريعة لعوائد هذه الاستكشافات، والمواطن إن توقع ذلك لا يلام والأسباب معلومة، وأن العملية تتطلب وقتًا، سنة او اثنتين او ثلاث حتى يتم الاستخراج والإنتاج والبيع وجني ثمار العوائد على التنمية والاقتصاد، وتحسين معيشة المواطن في التقاعد، الإسكان، التعليم، الصحة، وفرص العمل، وتعزيز قدرة البحرين على الصمود في أصعب الظروف وتخطي حالة التأزم المالي، وليكن في صدارة الأولويات تبني أهداف استراتيجية معلومة، في المقدمة منها التخلص من كابوس المديونية وأعبائها، يحمّل بلادنا أثقالًا تفوق قدرتها بكثير، وأي كلام عن عدم وجود مشكلة مديونية وأعباء فوائد المديونية وبلوغ ما يضمن سلامة أوجه الإنفاق بحيث يكون وفق سلم أولويات التنمية الحقيقية وليس أوجه إنفاق تعتبر تخبطًا او إهدارًا او تبديدًا للمال العام مع مراعاة حماية هذه الثروات وصيانتها من كل أنواع العبث، بما في ذلك العبث الناجم عن سياسات غير واقعية وغير فعّالة، او إجراءات مكلفة ومعرقلة، دون تجاهل العبث الذي تفرزه لعبة شبكة المصالح..!
ليس لدينا أجوبة على أي من التساؤلات التي تفرض نفسها على إثر هذه الاكتشافات المبهجة، الأجوبة عند المعنيين بالشأن المالي والاقتصادي، كل ما نتمناه طاقات بشرية تحديثية تمتلك كل مقومات الكفاءة والنزاهة، وأن يكون هناك مناخ إيجابي في بلادنا على كل الصعد المالية والاقتصادية والاجتماعية والسياسية بما ينعكس على الأداء الاقتصادي العام، وعلى النمو السليم والقابل للديمومة لمسيرة الاقتصاد والتنمية وأهداف رؤية البحرين 2030.
صحيفة الأيام البحرينية
العدد 10593 الثلاثاء 10 ابريل 2018 الموافق 24 رجب 1439