ما أن انتهت صلاة الجمعة في يوم الجمعة 30 مارس/آذار 2018، حتى خرجت فلسطين، كل فلسطين، عن بكرة أبيها، في يوم العودة الكبرى، في تظاهرة مليونية، كانت غزة المحاصرة، مركزها، وكانت المدن والقرى في الضفة وفي باقي فلسطين التاريخية، مواكبة لهذه الهبة الفلسطينية المتجددة، حيث شارك مئات الآلاف من الرجال والنساء والشيوخ والأطفال فيها، إحياءً ليوم الأرض الذي يصادف يوم الثلاثين من آذار/مارس من كلِ سنة، والذي تَعود أحداثه لآذار/مارس 1976 حين قامت السلطات «الإسرائيلية» بمصادرة آلاف الدونمات من الأراضي الفلسطينية، وعم الاضراب العام والمسيرات مناطق الجليل والنقب. واندلعت مواجهات أسفرت عن سقوط ستة فلسطينيين وإصابة واعتقال المئات.
سيطر القلق على قادة الاحتلال، فنشروا جنودهم ومعداتهم الحربية على طول الحدود مع قطاع غزة، ومعهم 100 من القناصة بهدف القتل العمد للمتظاهرين السلميين عن سابق إصرار وترصد، ووصل بهم الغرور والصلف أن هاتفوا الأمم المتحدة وأنذروها بأنهم سيطلقون النيران بكثافة على المتظاهرين الفلسطينيين. ونفذوا تهديدهم، كما يفعل الجبناء حين يواجهون العزل، فكانت الحصيلة ارتقاء سبعة عشر شهيداً و1480 جريحاً.
هذه المجزرة وتلك المشاهد التي تذكِّر بمرحلة الفصل العنصري في جنوب إفريقيا، وبجرائم النازي الألماني، للقناصة «الإسرائيليين» وهم يقنصون بدم بارد فتيان وأطفال فلسطين العزل إلا من لافتات هتافات جماهيرية غاضبة، وإطارات محروقة لحجب رؤية هؤلاء القناصة مجرمي الحرب، لم تجد لها أي صدى يذكر في الإعلام الغربي الذي يؤكد مرة تلو المرة، تواطؤه مع المستعمر «الإسرائيلي»، ولا حتى إدانة صريحة من منظمة الأمم المتحدة ولا أمينها العام الذي اكتفى بترديد تلك الكلمات المتلعثمة والمرتجفة، التي تعكس مدى جبن وخوار المنظمات التي نجح الغرب في الاستيلاء عليها وعلى مقدراتها واختيار وتنصيب الشخصيات التي تأتمر حرفياً بأوامرها وتتقيد بأجنداتها وتنفذ ما يُطلب منها. وإلا أين يصرف الشعب الفلسطيني تحت الاحتلال، وسكان غزة المحاصرون منذ عام 2006، تلك الكليشة السمجة «مطالبة الطرفين بضبط النفس»، التي إن دلت على شيء فإنما تدل على الحالة الخطيرة التي تردى إليها الضمير الإنساني بعد أن تمكنت القوى الشيطانية التي تمسك بمفاتيح القوة (المالية والعسكرية تحديداً) في العالم، من تدجينه وتحييد مشاعره.
«قيامة» فلسطين الجديدة، المتجددة عنفواناً وعزةً وكرامةً ومهابة، أدهشت الجميع وعقدت ألسنة الكثيرين، هنا في بلاد العرب، الساهدة، والتائهة في اللغط المتقطع بشأن ما يجري التحضير له بشأنها وبشأن شعبها القابع تحت طغيان الاحتلال، تحت عنوان مثير اسمه «صفقة القرن»، وهناك في أمريكا وأوروبا، الراعيتين الأصيلتين لدولة الاحتلال مذ كانت مشروعاً استيطانياً قيد التأسيس. الأخيرتان سارعتا لمد «إسرائيل» بالتغطية الدبلوماسية في مجلس الأمن للحيلولة دون إدانة مجزرتها، وسياسياً واعلامياً، لمحاصرة الحركة الفلسطينية الجديدة وحرمانها من مسمع ومرأى الرأي العام العالمي.
أما هنا في العالم العربي، فلم نسمع سوى بضعة أصوات رسمية مكتومة صدرت من أربع جهات عربية هي الأردن عبر وزير خارجيته أيمن صفدي، ومصر عبر بيان وزارة خارجيتها، وجامعة الدول العربية (عبر المتحدث الرسمي باسم الأمين العام وليس الأمين العام نفسه)، تدين الجريمة «الإسرائيلية» وتطالب الأمم المتحدة بتوفير الحماية للشعب الفلسطيني. دولة الكويت وعبر وزارة خارجيتها ذهبت الى تجاوز التنديد بالمجزرة الى المسارعة لطلب عقد جلسة طارئة لمجلس الأمن الدولي. حتى أمريكا نفسها اضطرت للتعليق على المجزرة «الإسرائيلية» في الجمعة الأولى من مسيرة العودة الكبرى، حيث كتبت المتحدثة باسم وزارة الخارجية الأمريكية هيذر نويرت في تغريدة على توتير «نشعر بحزن بالغ للخسائر في الأرواح في غزة». لكنها أوضحت بشكل لا لبس فيه أن الأمر لا يتعدى القيام بإجراءات لتحسين حياة الفلسطينيين».
الأكيد أن هذا تكتيك غير عادي ابتدعه الفلسطينيون ليضيفوه الى أشكال نضالاتهم المختلفة من أجل إنهاء الاحتلال. والأكيد أنه سبب ويسبب قلقاً وارباكاً للطغمة الحاكمة في «إسرائيل» ولحماتها في الولايات المتحدة وأوروبا الغربية. ونحن الآن في الجمعة الثالثة من هذه الحركة التي ستتوج بحراك ضخم يوم 15 مايو القادم ذكرى احتلال فلسطين وإقامة الكيان الغاصب.
جريدة الخليج الاماراتية العدد 14208 –
الجمعة 27 رجب 1439 هـ ، 13 ابريل 2018 م