بديهيات مكررة باتت جزءًا من أساسيات التعاطي مع أكثر من ملف، يهمنا منها اليوم ملف سوق العمل، ما آل إليه وضع السوق، ووضع العمالة البحرينية، والخلل في هيكل العمالة، وتحديات توظيف البحرينيين، والنمو المطرد في اعداد العمالة الوافدة، والأنظمة والسياسات والتوجهات التي توالت تباعًا بذريعة مواجهة بعض التشوهات والممارسات السلبية التي يزخر بها سوق العمل..!!
مؤسف أننا لم نكتفِ بالمراوحة تجاه هذا الملف، بل وجدنا أننا نمضي نحو حالة من التخبط والتوهان تزداد في ظلها الهواجس والمخاوف والتحديات التي باتت تداهمنا بأسرع مما نظن، وفرضت إجراءات وسياسات استهدفت تحرير سوق العمل من بعض القيود والضوابط والاعتبارات التي صبت بالنهاية في التخلي عن هدف جعل العامل البحريني الخيار المفضل للتوظيف وجعلت بالنهاية العمالة البحرينية هي العمالة السائبة..!!
نعم.. العمالة البحرينية هي التي تكاد أن تكون عمالة سائبة، إن لم تكن قد أصبحت كذلك وانتهى الأمر، وهذا كلام طرح في أكثر من ندوة انعقدت مؤخرًا لوحظ غياب حضور أي جهة رسمية معنية فيها، رغم الدعوة التي وجهت الى إحداها، في واحدة من هذه الندوات وجدنا من عبَّر وبأكثر من شكل عن قناعة، بل واقع بأن ما جرى تحت مظلة إصلاحات سوق العمل والحرية الاقتصادية وما فرضته من متغيرات في سوق العمل جاءت متوافقة مع شعار «دعه يمر، دعه يعمل»، وهذا يعني ان هذه المتغيرات تمت على حساب العمالة الوطنية، وخلقت قدرًا كبيرًا من المزاحمة لها، كان نتيجتها ان البحريني لم يعدْ يحظى لا بالحماية اللازمة ولا بأولوية التوظيف، ولم يعدْ الخيار الأمثل، بل بات الأكثر عرضة للتسريحات، واذا كنا نذكر ونذكر بمشروع إصلاح سوق العمل وثيقته المرجعية التي أطلقت في عام 2007 وما تلاها من إعلان للخطة الوطنية لسوق العمل وكيف أنها تضمنت اهدافًا عدة تركز على تحقيق التوافق الوطني بين الأطراف الثلاثة لسوق العمل، والتركيز على العمالة الوطنية وتمكين البحرينيين ليكونوا الخيار المفضل في السوق وجعل نسبة البطالة في أدنى مستوياتها، الى جانب هدف الحد من العمالة السائبة، ونستطيع كذلك ان نمضي في التذكير بمشروع توظيف وتأهيل 15 ألف بحريني، وبنظام إلغاء الكفيل، وقبلهما نذكر بمبادئ الرؤية الاقتصادية 2030 التي أطلقت في 2008، وبالمبادرات التي أعلن عنها، ومعها الاجتماعات التي تمت على أكثر من مستوى والتصريحات الرسمية التي أريد منها تأكيد التناغم والتوجهات المحددة والخطط المرسومة التي تجعل البحريني الخيار الأمثل للتوظيف، وأحسب انه يمكن وبسهولة الرجوع الى كل المبادرات والخطط، وكل التصريحات وكل ما كان يصب باتجاه التأكيد على أهمية ذلك الخيار والالتزام به، واعتباره خيارًا وطنيًا لا تفريط فيه..!
إلا أن الوضع اليوم بات مختلفًا، وأصبح علينا أن نتابع وبتوجس، بل وبقلق غير مسبوق هذه المستجدات المتسارعة والمعاكسة التي طرأت في سوق العمل في الآونة الأخيرة وبقدر غير قليل من الإصرار كأنها حكم القدر المحتوم، اصرار في ابتكار ما يوأد او على الأقل يشوه هدف البحرنة والخيار الذي لم يعد الأمثل، وإلا بماذا نفسر شرعنة وجود العمالة السائبة تحت مظلة نظام العمل المرن، وهو النظام الذي يستهدف 48 ألف عامل وافد من العمال الذين يتواجدون بشكل غير نظامي ولا يحملون رخص عمل سارية المفعول، بمعدل 200 تصريح عمل كل شهر، وقبل ذلك ماذا نفسر نظام البحرنة الموازي الذي يمنح الشركات التنصل من نسب البحرنة المقررة بإعطائها المزيد من تصريحات العمل لغير البحرينيين لقاء مبالغ إضافية على كل تصريح، وعلينا أن نلاحظ أن ذلك يحدث في الوقت الذي تشح فيه فرص العمل أمام البحرينيين، ومنهم حملة شهادات عليا من أطباء ومهندسين ومحاسبين، وقد تابعنا يوم الاحد الماضي تلك المناشدة من مجموعة من الاطباء العاطلين عن العمل من خريجي الطب للاعوام 2013 – 2014 – 2015 يناشدون فيها ادراجهم في برنامج التدريب تمهيدًا لانخراطهم في الحق الطبي، كل ذلك وغيره موثق ومنشور، ايضًا تمعنوا في أرقام التوظيف للعمالة الوطنية والنمو المطرد للعمالة الوافدة، وحللوا ما يعنيه تصريح وزير العمل بأنه لا توجه لوضع سقف للعمالة الأجنبية، وتصريح رئيس هيئة تنظيم سوق العمل بأن “ما يجري يأتي في إطار نظرة جديدة لتطوير سوق العمل ومده بأدوات النهوض والنمو وفق معايير عالمية حديثة”..!!
جيد إقرار المسؤولين المعنيين بأمر سوق العمل بأن من أكبر التحديات التي تواجه هذا السوق هو القدرة على توليد الفرص الوظيفية النوعية للمواطنين والمحافظة على معدلات البطالة في حدودها الطبيعية الآمنة، كما هو جيد أن يبشرنا وزير العمل في تصريح له لهذه الجريدة بأن معدلات البطالة في البحرين هي في حدود آمنة جدًا ولا تتجاوز%4.2 وتنخفض أحيانًا الى%3.8، ولكن سيكون أكثر من جيد لو أدركنا أن سوق العمل في البحرين أصبح حقلًا للتجارب، وأن العامل البحريني هو من تقع عليه هذه التجارب وهو أولًا وأخيرًا ضحيتها..!!
تبقى تساؤلات مهمة أثيرت في الندوات وفي أكثر من مناسبة: لماذا نعالج الفشل بالفشل..؟ لماذا لا يحاسب من عجز عن تحقيق هدف «البحريني هو الخيار الأفضل»..؟ والى أين نمضي بسوق العمل في البحرين..؟ ولماذا كل المتغيرات في هذا السوق لا تؤدي إلا الى تقليص مساحة فرص العمل للبحرينيين..؟ ولماذا يكون هؤلاء هم الحلقة الأضعف..؟ وهل جرى في كل ما اتخذ من إجراءات تخص تنظيم سوق العمل تطبيق مبدأ التشاور مع العمال وأصحاب العمل، او على الأقل هل أخذ برأيهم..؟ ثم هل من جهة قيمت ودرست وبحثت في تبعات إصلاحات سوق العمل وتقهقر البحرنة..؟ ثم لماذا هذا الصمت المطبق ازاء من استقدموا العمالة الوافدة، وتاجروا بها «فوق اللزوم»، هؤلاء الذين كان استقدامهم للعمل بطرق شتى للمتاجرة بهم متحايلين على القانون وكل الضوابط الموضوعة، ومنهم متنفذون، وكل هذا معلوم ومعاد ومكرر، كما هو الحال مع القول إن حماية العمالة الوطنية، وجعلها الخيار الأول في التوظيف وتنمية البلد لا تتحقق بحسن النوايا، ولا بعقد ملتقيات (للشو الإعلامي العابر) او افتتاح مكاتب للتوظيف في شتى المحافظات في الوقت الذي تتقلص فيه مساحة فرص العمل النوعية والمجزية ونشهد بطالة في صفوف من يفترض ان تتوفر لهم هذه الفرص، أحسب أنها تتحقق بالارادة الحازمة والجدية الكافية والرؤية الواضحة لجعل المواطن الخيار الأول حقًا وفعلًا.