من ليس متخصصا فى علم الاقتصاد وأصول هذا العلم وليس له خبرة او معرفة او تجربة احسب انه يدرك بشكل او بآخر معنى هذا الخبر المنشور مؤخرا عن طرح وزارة المالية مناقصة لتكليف شركة استشارية لتطوير استراتيجية إدارة الدين العام، وهو الخبر الذى اقترن بالاشارة الى تكليف شركة أمريكية متخصصة فى وضع الاستراتيجيات وإعادة الهيكلة للحكومات والشركات والمؤسسات.. وربما، نقول ربما من باب الشفافية، او من باب لزوم ما يلزم تم الكشف عن ذلك وعن اسم الشركة، ولكن علينا ان نلاحظ انه لم يكشف عن قيمة المناقصة، ولا المأمول من هذه الخطوة او ما تخبئه فى أبعادها وطياتها، وربما علينا ان نلاحظ بانه لم يظهر لنا ولا مسؤول واحد يشرح للناس فى هذا البلد تفاصيل هذا الخبر وموجبات هذه الخطوة المثيرة لكثير من التساؤلات وعلامات التعجب..!!
ليسمح لنا المعنيون بالأمر فى البداية بتساؤل مباشر، بل اكثر من تساؤل، هل تعنى هذه الخطوة اعترافا ضمنيا ان سياسة إطلاق العنان للدين العام التى اتبعت طيلة الفترة الماضية لتغطية عجز الموازنة العامة، او تمويل الإنفاق على مشاريع هى سياسة قاصرة او غير مدروسة كما يجب، او لنقل انها لم تحقق التوليفة المطلوبة من المعالجات المستهدفة..؟، والسؤال بعبارة اخرى هل يعنى الاتجاه الى سوق الديون فى الفترة الماضية رغم كل التحذيرات من بلوغها الى مستويات مقلقة وتصاعد عبئها على الدولة والمواطن قد تم دون رؤية وخطط واضحة فى المنطلقات والآليات والتدابير التى تضمن تجنب اي اختلالات او انحرافات عن المعالجات الصائبة لتداعيات هذا التوجه على واقع الاقتصاد البحرينى، والسؤال بشكل مباشر، هل تعنى تلك الخطوة بان السياسة المالية كانت متعثرة ان لم نقل فاشلة..؟!، وهل الإستدانة أصبحت الأداة لتمويل الإنفاق العام، والرسوم والضرائب أداة رئيسية من أدوات سداد الديون والفوائد المترتبة عليها..؟!، أليس ذلك أمر باعث على قلق لم يعد يكتم حتى فى أوساط من هم فى خانة النخبة، قلق من ان تكون النتائج فى أحسن الأحوال معاقة..؟!
يمكن ان نجزم بأننا لن نحظى بأي اجابة واضحة وشفافة ومقنعة من اي جهة كانت، او من اي طرف كان من اصحاب الشأن فى دوائر المسؤولية على تلك التساؤلات ولا غيرها التى تفرضها تحديات المرحلة، ويبدو ان كل التطمينات، وخاصة تلك التى صبت باتجاه التأكيد بان مكتسبات المواطن لن تمس بدأت تسحب من التداول، فالعجز المالي كبير فى موازنة الدولة وشكل 14% من اجمالى الناتج المحلي فى 2016، وبحسب معهد المحاسبين القانونيين فى إنجلترا و ويلز (ICAEW) فى تقرير نشر قبل ايام فى هذه الجريدة من المتوقع ان يصل هذا العام الى %11 رغم الخطوات المتواضعة التى اتخذت لخفض النفقات، فى الوقت الذى يتصاعد عبء الدين المحلى الى مستويات خطرة من %42من اجمالي الناتج المحلي فى 2014 الى %70 فى 2016 والى %85 بحلول 2018، وهذه أرقام مقلقة ومزعجة بكل المقاييس، ويخشى ان يعنى ذلك كله اننا امام توجهات اقتصادية مرتبكة، ولا نقول خطط، توجهات جعلت استعداداتنا أقل بكثير من التحديات الراهنة والمستقبلية، ويبدو جليا ان هذه التوجهات ترتكز حتى الآن على الإجراءات التقشفية وإعادة هيكلة الإيرادات وتحرير عدة سلع مدعومة وفرض الرسوم والضرائب وتخصيص بعض الخدمات وتقنين النفقات، ناهيك عما قد يكون رابضا خلف الأكمة..!!
المشكلة تكمن فى غياب الشفافية ذات الصلة بالتوجهات والسياسات المالية والاقتصادية، هى غير واضحة المعالم حتى الآن، وهو أمر ليس بحاجة لشرح واستفاضة، يكفى اننا لم نجد لا وزير المالية ولا غيره قد ظهر للملأ ليعلن وبوضوح وبدون مداراة او مواربة طبيعة هذه التوجهات والسياسات والخطط الاستراتيجية ان وجدت، ولا كيف سيتحقق الاستقرار الاقتصادي الكلي فى ظل تحديات ضاغطة غير مسبوقة، وعلاوة على ذلك لا احد يعلم حتى الآن تفاصيل الموازنة العامة للدولة لعامي 2017 و2018 وقد انقضى اكثر من 5 أشهر على الموعد الدستوري المقرر فيه احالة الموازنة الى البرلمان، والميزانية هى التى يفترض ان تعكس ولو نزرا يسيرا من هذه التوجهات، ولا احد يعلم ماذا حققت سياسات تنويع مصادر الدخل، وأين أوجه النجاحات والإخفاقات، وإذا كان هناك من يرى بأن القلق ليس من الاستدانة فى حد ذاتها ولا فى الفوائد المترتبة عليها وإنما القلق بل الخطورة فى عدم وجود خطة مدروسة ذات موثوقية فى مواجهة المشكلات والتحديات ومعالجتها بمهنية عالية لا تجعل المواطن الضحية الاولى او عرضة لضرر اكبر غير معلوم لأي معالجات مستهدفة.
نحن الآن امام خطى اعادة هيكلة الحكومة، وأنظار الناس تتجه الى هذه الخطوة، وهم يتساءلون، وهم محقون فى كل تساؤلاتهم، هل سيأخذ هدف اعادة الهيكلة تلك الهواجس والاعتبارات وممارسة فن الممكن..؟، هل ستختلف الحكومة عما كانت قبلها بأشخاص استثنائيين يمتلكون الكفاءة والقدرة على تبنى سياسات وأفكار جديدة فى ضوء الحقائق المستجدة..؟، وهل اعادة الهيكلة ستقتصر على الوجوه والأسماء فقط أم انها تعنى أفكارا وسياسات حصيفة ومقدرة على معالجة أوجه الضعف التى يعانيها الاقتصاد البحرينى، بقدر ما يعنى تخطيط يعي تحديات الحاضر ويحمل رؤية للمستقبل، ويعد على أساسه الخطط المدروسة للتنمية والاقتصاد وإدارة موارد الدولة والشعب وتعزيز القدرة على مواجهة التحديات بشكل لا يجعل الذيول والمسؤليات تقع فوق رؤوس المواطنين وخاصة الذين لا هم لهم الا توفير ما تيسر من كفاة يومهم فى ظل تحديات تتطلب رؤية واضحة تؤسس على حقيقة اوضاعنا وتأخذ العبرة من تجارب الآخرين ودروس السنوات الماضية وتتبنى اجندة محاربة الفساد والعدالة الاجتماعية ووضع الرجل المناسب فى المكان المناسب، المطلوب باختصار إرادة تعيد الحسابات ولا تعيد او تجتر ما كان، ارادة تعي مكامن الخطأ وأساس المشاكل وتمضي نحو المعالجات الصحيحة التى يعتد بها فى الشكل والمضمون، فهل نحن جاهزون..؟!