يخيب ظن القارئ بشكل كبير عندما يقرأ بداية سيرة جان بول سارتر الشخصية ليكتشف أنه كتاب يهاجم الكتاب ويزدري مهنة الكاتب بحد ذاتها. هو الذي أصر على أن يصبح كاتباً منذ صغره، يشيخ ليعلن عدم جدوى الرواية، ويشكك في إمكانية الأدب على التغيير ليخبرنا فيما بعد أنه قرر ترك الكتابة للتركيز على العمل السياسي: “ماذا يستطيع الأدب فعله؟ هل كنت أعرف أن بعض الكتاّب كادوا يموتون من الجوع؟ وأن بعضاً آخر، من أجل الحصول على شيء من الطعام، باعوا أنفسهم؟ إن كنت أريد الاحتفاظ باستقلاليتي، يجب عليّ أن أختار مهنة أخرى”.
هكذا اختار سارتر أن يضع قلمه على الطاولة ويستبدل الكلمات بالأفعال.
لكن ماذا عن إنتاجه الأدبي والفلسفي؟ ما الذي دفع سارتر لأخذ هذا الموقف من الكتابة؟
البعض يزعم بأن جان بول مرَّ بموجة صادمة سببها قرب ساعة الوالدة، ومن ثم موت واختفاء أصدقائه الفلاسفة كألبرت كامو و موريس ميرلو بونتي. كل هذه الأحداث دفعت سارتر إلى التفكير ملياً في التغيير الذي أحدثه عبر فلسفته الوجودية ورواياته كالغثيان، والحائط وطريق الحرية. لمساعدة عقله على استيعاب ما حصل و كيف أصبح على ما هو عليه، يرجع سارتر إلى طفولته ليحكي لنا عن أول علاقة أنشأها مع الكتاب.
يروي لنا في بداية “الكلمات” عن انتماء عائلته لنخبة فكرية راقية، يملك كل فرد فيها كنزاً من الكتب و الأفكار. يسعى سارتر الطفل ، أو “بولو” كما كان يسميه جده إلى تعلم القراءة من أجل منافسة والدته التي كان يغار عندما تهمله من أجل إنهاء كتاب. يأتي يوم يلتقط فيه سارتر رواية “محن صيني في الصين” التي لم تكن لراوٍ آخر غير الفرنسي جول فيرن، فيحاول سارتر التركيز على الكلمات المتلاصقة التي لم تشكل بالنسبة له غير خطٍ أسود، و لكن يزعم في الوقت ذاته قدرته على القراءة أمام أفراد أسرته. تلاحظ الأسرة فضول سارتر فتقرر تعليمه القراءة، تبدأ الحصص و لكن سارتر لا يكتفي بذلك : “وصلت الى مرحلة أدرس نفسي بنفسي”. يروي لنا سارتر فيما بعد مشاعره الفرحة عندما تعلم القراءة: “لم أحفر في التراب كباقي الأطفال، لم أبحث عن أعشاش الطيور لأقذف الأحجار على ساكنيها لأن الكتب كانت طيوري و أعشاشي، كانت ريفي الخاص، كانت المكتبة عالم في مرآة وكنت أرى فيها اللانهائي و اللامتوقع”.
عندما أنهى سارتر سرد قصته مع القراءة، وجه قلمه لاستذكار قصته مع الكتابة ليعرف من أين ورد قرار: “أريد أن أصبح كاتباً” . في هذا الفصل، يروي الكاتب مواقفه مع الجد الذي اهتم بتعليمه أسس الكتابة عندما لاحظ بأن حفيده ينتحل الآراء و يسرق كتابات الغير من أجل واجباته المدرسية. سارتر أقبل بعدها على الكتابة بكثافة غير متوقعة، ليقرر الجد المتسلط السيطرة على زمام مهنة سارتر المستقبلية، التي لا تجب أن تكون الكتابة، يا للمفاجأة! و إنما التدريس، لإيقانه بأن الكتابة لا توفر خبزاً. كان من وجهة نظر الجد، أنه يجب على سارتر أن يصبح مدرس أدب فرنسي وأن يكتب في جريدة الأحد إن أحبب. كبر سارتر ليصبح كاتباً ويحمي نفسه مما أراد الآخرين أن يصبح: “لم أختر إسمي وشخصي، كل هذا كان في يد الكبار؛ تعلمت رؤية نفسي من خلال أعينهم، كنت طفلاً، كنت وحشاً ناتجاً عما لم يستطيعوا انجازه”.
لا نعجب إذاً إن وجدنا الفلسفة الوجودية تجتاح كيان سارتر في مرحلة يستوعب فيها تسلط الأسرة على قراراته، فيستنتج فعلاً أننا نتاج ما أراد الآخرين أن نصبحه. هذا بالضبط ما دفع سارتر للتمرد على سلطة الجد باختيار مهنة الكتابة حتى أصبحت سلاحاً و جزءاً منه: “اتخذت القلم سلاحاً منذ وقت طويل. الآن فقط بت أعرف نقطة ضعفنا، أنا والقلم. في الحقيقة، لا يهم كل ذلك… سأكتب، الكتابة نافعة في كل الأحوال. الثقافة قد لا تنقذ أحداً وقد لا تجد الحلول العالمية، لكنها إنتاج الكائن البشري، من خلالها يتعرف المرء على نفسه ويجدها.
وحدها الثقافة، تلك المرآة النقدية التي تستطيع إعطاءنا صورة لذواتنا”. يستنتج سارتر وهو يكتب بأن الكلمات ليست مذكرات تعلن نهاية علاقته مع الكتاب وإنما تأكيد بأن حياته ستنتهي مع الكتاب: “بدأت حياتي مثل ما سأنهيها بالتأكيد: بين أوساط الكتب و الكتابة”