“الأفعى التي لا تستطيع التخلص من جلدها لا يمكنها العيش. مثل العقل الذي يرفض تغيير آراءه .. إنه لا يعد عقلاً”
– نيتشه –
كيف يمكننا تعريف لحظتنا الراهنة ؟، وبم تختلف مفرديتها ؟ .. بما أن اللحظة، كما هي، دائماً مفردية ؟. أجعلُ، إذن، هذه المقالة مقتضبة في تعيين الملامح العامة لهذه اللحظة بحد ذاتها، وأهميتها السياسية.
هل يمكننا اليوم القول أننا في لحظية مفردية (العالم هو ما تقع عليه الحالة)، يتوجب علينا تحديدها ؟. لنضع المسألة على نحو نقاط نسقية جداً:
(1): نحن الآن في فترة ما بعد (14 فبراير 2011) التي شكلت نقطة مفصلية لكل الأطراف المتنازعة فيها. الآن هذه الفترة تشهد خسائراً فادحة للمكتسبات الإصلاحية، وبالمناسبة كان يمكن الحصول على الكثير منها لولا تهور بعض الأطراف الدينية المعروفة في توجيه هذه الحركة إلى خط سير مختلف تماماً، التي حصل عليها الشعب البحريني في عشر سنوات. الشارع الجماهيري وصل إلى حالة يأس من التغيير، وكل ما حصل عليه في المقابل هو تزايد وتيرة العنف من كل جانب. يزداد العنف العدمي حين يزداد الشعور باليأس. الآن كل ما بقي هو عدة كلمات ومطالبات مفروغة من معناها الإجتماعي التي لن تحقق شيئاً على الإطلاق .. لسبب واحد: لا يوجد تحليل سليم واحد لما حدث. المعارضة في اللحظة الراهنة، وسألزم حديثي عن اليسار وحسب، هي في موقع الضعف كقوى إجتماعية – سياسية وكقوى محركة فاعلة (الإرادية + المغامرة = هذه الخسارة بحد ذاتها).
هذه النقطة في غاية الأهمية.. من دون هذا الصدق التنظيمي لن يحدث شيئاً على الإطلاق. موقع القوة قد تغير، أو كما كان قد سيقول ماكيافيلي: انقلبت طاولة الحظ.. كان هذا الحظ ملازماً لتشيرزي بورجا طوال سعيه وراء توحيد شمال إيطاليا إلى أن أصابته الحمى ومات قبل أن يحقق مبغاه قائلاً : “إستعديت لكل شيء في حياتي إلا الموت .. الآن أنا أموت”. التصادف لم يقع، ولن تتكرر مثل الفرصة المفردية – بمثل الشروط والظروف – مرة أخرى، ولهذا تحليل اللحظة الراهنة هو مفتاح تحقيق، وهنا أيضاً ألتزم بماكيافيلي، ما لا يمكن تحقيقه.
سنكون متفائلين إذا قلنا: “ما حدث قد حدث .. نريد المزيد من الإصلاح الآن !”. اليوم، على العكس، سيكون أكثر واقعية إذا قلنا نريد الإحتفاظ بما تبقى من هذه المكتسبات الإصلاحية التي يمكن العمل عبرها، وتوليد إصلاحات أكبر. يجب علينا ألا نفهم هذه المسألة على نحوٍ مختلف، فللخطاب الإشتراكي الديموقراطي سطوة مضرة على الحركة اليسارية بشكلٍ عام. الأسلوب العام للإشتراكية الديموقراطية، أو تلك التي وجدت عند الجناح اليميني من الأوروشيوعية، هو الإنتظار من أجل الإصلاحات أن تأتي .. هذا في نهاية الأمر ما هو المقصود حين يقول تنظيم ما: “يجب أن تكون هناك إصلاحات أكثر”، “يجب أن نسعى إلى دولة شكلها كذا وكذا”، “ما نريده هو العدالة الإجتماعية” إلخ.. كل هذه الأمور، بحد ذاتها، لا تعني شيئاً من وجهة نظر الإشتراكية العلمية. الإصلاحات بحد ذاتها لا تغير من الوضع الطبقي ولا تعبر تعبيراً تحولياً للبنية الإجتماعية القائمة، ولكنها تعبر عن طبيعة الدولة الحديثة التي تأخذ شكل الإجتماعي الديموقراطي أكثر فأكثر. فليس للإصلاحات، إذن، أي معنى بحد ذاتها وإلا وقعنا في الأيديولوجيا الإقتصادوية – الإصلاحية، التي هي الوجه الآخر من اليساروية الطفولية التي تفسر كل مشكلة تنشب على أساس إنها أزمة بنيوية.
لكن إذا أمكننا أن ننظر إلى مسألة الإصلاحات برؤية آخرى، أيّ إذا تمكنا رؤية حقيقة أن اللحظة الراهنة تلزم بالعمل بما تبقى – أعني بما لم يُخسر- من المكتسبات الإصلاحية، والعمل عليها كمواد خام لتوسعة نطاقها أكثر فأكثر، فإننا سنكون في الجانب الآخر من المفهوم الطاغي للإشتراكية الديموقراطية. ليس للعمل على الإصلاحات كمواد خام، كما قلنا، غاية في ذاته. لك أن تتخيل مفاصلاً حديدية لا يمكن فكها لأنه أصابها الصدأ .. عليك أن ترخي المفاصل أولاً. طبعاً تلك المواقع المتوترة نراها ملتهبة اليوم، إذا صح التعبير .. لكن في المقابل توجد تلك المواقع، أو الفجوات، أو التكسرات، التي لم يجرِ عليها هذا التوتر الملتهب – إلى حدٍ ما – وهي تمثل مواداً خام مناسبة للعمل عليها. لم يكن لدى إيكاروس ودايدالوس إلا الشمع والأجنحة (مواد خام) للهروب من المتاهة الكبرى .. لكن على المرء ألا يحلق عالياً كإيكاروس وإلا أحرقت الشمس الشمع على جناحيه، على التحليق أن يبقي مسافة بين – بين. لفالتر بينيامين تشبيه أفضل من ذلك بكثير: التاريخ الذي يجمع فتات الماضي وتدفعه الرياح إلى الأمام.. وهو لا يستطيع فعل أي شيء إزاء ذلك.
توازن القوى ليس متوازناً .. هذا هو ما عليه الحالة في اللحظة الراهنة.
(2): هذا يعني أساساً أن اليوم ليس لليسار أية فعالية حقيقة في دراسة الواقع ولا في الإنخراط في الممارسة الواقعية، هي مسألة تبادلية من جانبين. والسبب في ذلك يعود إلى عدم فهم الحالات التي تولدها الصراعات الطبقية التي تستمر بشكل متدفق. الآن يكثر الحديث عن إقامة تحالف للقوى أو للتيار الديموقراطي – هنا أيضاً تسمية لا معنى لها – لكن من دون أي أساس ممارساتي سليم. لا شك أن التحالف دائماً يشير إلى شيء جيد.. لكن لا يجب على ذلك أن يكون فوق الجماهير، أيّ تحالف على شاكلة التقليد البورجوازي في التنظيم – تحالف ما بين أحزاب فردية. لنضع التحالف الحزبي هذا على جانب، ونمسك أهمية وجود تنظيم يعبر عن الطبقة العاملة والطبقات الشعبية الأخرى، لن يكون هناك أي معنى لوجود تنظيم منفصل ينتظر قدوم هؤلاء إليه ليشكل وحدة تنظيمية عضوية. على المنبر التقدمي أن يكون هو هو التعبير عن التحالف الطبقي هذا، ولن يتم هذا التعبير دون أن يكون هو الممثل عن النظرية الماركسية، أيّ يكون التعبير: الإنصهار ما بين التحالف الطبقي هذا والنظرية الماركسية.
ذكرنا المنبر التقدمي، ومن الملاحظ أننا أستثنينا جمعيات مهمة أخرى التي تُعتبر يسارية بشكل عام .. والسبب واضح برأيي: حين نقول “الحركة اليسارية” فإننا نقصد الوحدة المفهومية لتلك التنظيمات التي يمكن تصنيفها سياسياً تحت مسمى اليسار، وهذا ما يعنيه مصطلح اليسار بشكل عام. وإذا كان سيوجد هذا الإتحاد اليساري يوماً فهو مهم للحظة الراهنة.. رغم أن نجاحات وجوده غير مضمونة على الإطلاق. ولكننا إذا تحدثنا بشكل فردي عن المنبر التقدمي.. جمعية لها بعض أعضاء قدامى شيوعيين وماركسيين متحررين من الصبغة اليسارية والشعبوية والقومية، سيكون حديثنا حينئذ عن تنظيم يتضمن عناصر شيوعية وليست مجرد يسارية.
لذا حين نقول أن على المنبر التقدمي أن يكون هو هو التعبير عن التحالف الطبقي هذا، فإننا نقول ذلك لأن للمنبر التقدمي، دون غيره من الجمعيات اليسارية (التي طغت فيها النزعة الإشتراكية الديموقراطية بشكل محض)، الإحتمالية لأن يكون كذلك – رغم أن التوجه والنزوع نحو الإشتراكية الديموقراطية أصبح واضحاً جداً – بسبب وجود بعض هؤلاء العناصر والأعضاء الذين بإمكانهم تحويل خط السيّر نحو عمل مختلف في ظل الأوضاع الراهنة. فهذا يعني أن هذا ليس الوقت المناسب، ولا الظرف السياسي الصحيح، لأية إنشقاقات .. ولن يحتمل أي تنظيم مستقل أن يبقى قائماً على ذاته، بسبب الإختلاف في الرأي، وبسبب أيضا، من الجانب الآخر، تطبيقات خاطئة تماماً – من دون تحديث وتجديد- للديموقراطية المركزية. من دون العودة الحقيقة إلى النظرية الماركسية، أعني نظرية ماركسية حقيقية – وليست مجرد كليشيهات سوفيتية قديمة قدمت عبر شروحات ألف باء دار التقدم، لن يتحقق أي شيء من ذلك على الإطلاق .. ولمهدي عامل قول في هذه المسألة حين كتب: “متى تكتشف السياسة … حاجتها الملحة إلى النظرية ؟”.
لم تعد التحالفات الطبقية كما هي في الكليشهات السابقة: تحالف العمال والفلاحين وما شابه ذلك، حيث ليس في البحرين أو في الخليج، أو حتى في العالم العربي، فلاحون بالمعنى الإقطاعي للكلمة .. يثبت الواقع الموضوعي أن على التحالف الأساسي أن يكون ما بين الطبقة العاملة والطبقة البورجوازية الصغيرة الجديدة، وفي ذات الوقت عدم معاملة الآخر على أساس أنه مجرد جسراً لغاية “معينة”. إن مدى تحريك الطبقة العاملة بشكل سياسي هو أمر في موضع عدم الإستقرار، حيث الطبقة العاملة في بلاد مثل بلادنا ليست قوية، وليس لها وعي طبقي قوي، بما يكفي من حيث هناك غياب واضح لرأس مال محلي. التحريك السياسي هذا عادة يجري على الطبقة البورجوازية الصغيرة الجديدة بشكل عام. اللحظة التي نعترف بإستقلالية الطبقات من الناحية: السياسية، والإقتصادية، والإيديولوجية نفهم أن هذا التحالف قد ينقلب في أية لحظة. بلا شك، في أبنيتنا الإجتماعية توجد طبقات شعبية أخرى مثل: البورجوازية الصغيرة التقليدية والريفية التي لبعض فئاتها مصلحة في إقامة تحالفاتها الطبقية. بإختصار: لا يمكن أن يتم أي تنظيم يدعي الإشتراكية العلمية دون التعبير عن التحالف الموسع ما بين الطبقة العاملة والطبقات الشعبية الآخرى، من دون تعبير عن مصالحها وعن مصالح صراعاتها، ومن دون إدراك التناقضات بينها.
فوق هذا، هناك تحركات إجتماعية وثقافية أخرى يجب إدراكها وفهمها التي قد تشكل قوى إجتماعية في لحظة من اللحظات كالطلبة، أو المدافعين عن البيئة، أو المثقفين، أو المدافعين عن حقوق الأقليات ( الجندرية، والعرقية، وحتى الجنسية)، إلخ.. تلك التحركات لها توجهها الخاص وإستقلاليتها السياسية والفكرية، ولذا يجب إحترامها على أساس إستقلاليتها وإقامة هذه الروابط بينها على أساس متبادل.
من الأشياء التي لم تفهمها الحركة الشيوعية العالمية، ولا سيما محلياً، أن الموقع الإيديولوجي للطبقات، ولا شك الطبقة العاملة، غير ثابت على الإطلاق. لهذا السبب تحديداً تجد مثل الطبقة العاملة في هذا البلد تتجه نحو النازية، وفي بلد آخر تظفر بأول ثورة عمالية في تاريخ البشرية. المسألة لا تتعلق بما تقول لنا الايديولوجيات الدينية حول “الفطرة السليمة”- للعمال فطرة سليمة مهما تعددت مواقعهم الأيديولوجية بسبب الإغتراب والتلغيز. للمسألة علاقة بالتحديد الأيديولوجي المضاعف (وبذلك الموقع الطبقي) وعلاقته باللحظات السياسية الراهنة وتغيراتها.
في الواقع، لا نرى عند اليسار أي محاولة لإقامة هذه الروابط (ما بين تلك التحركات الإجتماعية)، ولا التحالفات ما بين الطبقات الشعبية (أو حتى دراستها على الأقل)، ولا التأكيد على الماركسية في النظرية والممارسة. كل هذا يعتبر طوباوياً إذا ما تفوهنا به .. ولكن اليوم، أكثر من أي وقت مضى، على هذا الأمر أن يتم.
(3): الكل يُعلن حرباً ضد التجنيس السياسي.. الكل يخاف من النمو السكاني والإختلافات الثقافية الواسعة ما بين الناس. لكن هذا ليس كافياً في تحليل ما هو حاصل بالفعل. الواقع هو أن هذا الأمر “حاصل”، والآن التوزيع الديموغرافي ثقافياً تغير تماماً عما كان معروف تقليدياً. لا نفع من النحب ولا التذمر من ذلك.. نواجه هذه الحالة بشكل مُعطى كما كان قد سيقول هوسرل، والآن هناك عدد من القوميات لا تنتمي إلى التقسيم الإجتماعي الرباعي ( العرب – العجم – البحارنة – الهولة) المعروف ضمن المكون البحريني ككل. لن يكون هناك أي معنى، بإستثناء إن شاء المرء أن يكون شوفينياً أو يعاني من الزينوفوبيا، من رفض هؤلاء المجنسين الذين قدموا، أو أقدموا، من بلدان آخرى.. ضمن التقسيم الإجتماعي للمكون البحريني.
تبقى مسألة أخرى في غاية الأهمية، وهي الحالة الإجتماعية، والثقافية، والسياسية، لجماعات ما يسميها غرامشي بالـ “هامشيين”.. هؤلاء الذين ليس لهم تمثيل سياسي، على العكس من الطبقات المستغلة كالطبقة العاملة، في البنية الإجتماعية. وهنا الحديث يخص شرائح واسعة من الطبقة العاملة الرثة، والطبقة العاملة، والطبقة البورجوازية الصغيرة الجديدة تحت مسمى “العمال الآسيويين”، أو “العمالة الخارجية”.
لا نجد بالطبع أية محاولات من قِبل اليسار لإقامة هذه الروابط التي تعبر عن هؤلاء المستغلين، أشد الإستغلال، سواءاً أكانوا مجنسين أو مقيميين دائميين أو مؤقتين. بل نجد نوعاً من نزعة غير حرة من العنصرية في التأكيد على وجود عمالة “محلية” فحسب والدفاع عنها.. لكن بذلك المعنى “العمال” أو الموظفون الذين تم تجنيسهم أصبحوا جزءاً من النسيج الإجتماعي المحلي، السبب الوحيد الذي سيجعل أي شخص يرفض تسميتهم ببحرينيين هو أنهم لا ينتمون إلى التقسيم الرباعي التقليدي المعروف، غير ذلك هم بحرينيون قانونياً وسياسياً، وعما قريب إجتماعياً. لا نجد أية محاولة في التعبير عن أحوال هؤلاء الذين يعاملون من قِبل جميع القوى، ومن ضمنهم القوى التقدمية، على أساس وجودهم المهمش بحد ذاته. لا يوجد ولو ممثل واحد يعبر عن أحوالهم في الجمعيات التي ترفع راية اليسار وما شابه ذلك.
من المهم جداً إدراك ودراسة وجودهم الطبقي والإجتماعي والسياسي، والتأكيد على مشاركتهم الفعالة في التعبير عن أحوالهم وتطلعاتهم وتوجهاتهم، وإطلاعهم على حقوقهم التي في الغالب لا يعرفون شيئاً عنها، وتفكيك المفهوم المغلوط المتركز حول التقسيم الرباعي الذي ذكرناه آنفاً. البحرين متعددة اليوم، أكثر من أي وقت مضى، من الناحية الإجتماعية والعرقية والثقافية .. وهذا الإقصاء للآخرين الموجودين لا يعبر سوى عن نزعة عنصرية متأصلة في التعامل مع هؤلاء “الهامشيين”.
من دون فهم هذه الحالة التي “وقعت” علينا، لا يمكن البدء بأي شيء سوى بدوغمائيات وكليشيهات قديمة اعتاد عليها الخطاب السياسي التقليدي دون تغيير أي شيء.
نقطة أخيرة.. وليست (4) : هذه المرحلة ليست هادئة وواضحة .. التشتت، على العكس، واضح جداً، هذه الفترة تتطلب خطوتين إلى الوراء للتفكير العميق، إنها مرحلة العودة إلى العمل الفكري والفلسفي عبر السياسة، والعكس بالعكس. المشتتون ليس لهم موطن، ولا مكان، ولا توجه واضح، لهم أدواتهم المعرفية والسياسية المتبقية لإنتاج ظروف وواقع جديد من لا شيء. فراغٌ دون إنحراف أو إلتقاء أو تصادف. حالة إقرارية يجب الإقرار بها في لعبة الرقص، والفرح، والمشاعر السعيدة .. نحو زمن الخبز والورود للجميع !