هناك ميل واضح في المشهد السياسي، في كل بلدان العالم المعاصر تقريبا – خاصة الدول المركزية الرأسمالية الغربية – إن على مستوى النخب السياسية المسيطرة أوالحاكمة، أو على مستوى الوعي الإجتماعي لدى الرأي العالم الشعبي، نحو التوجه نحو اليمين، بمدرستيه؛ المحافظ الديني (النيوليبراليزم) والمتطرف العنصري (الفاشي).. بدأ هذا الرجحان في الوعي والثقافة منذ العقود الماضية (بدأ بتفكك المنظومة الإشتراكية)، غير أن مفهوم الليبرالية التابعة لما يسمى بيسار الوسط ظل لفترة عقدين مسيطراً بعض الشيء، متقاسماً حيناً مع المحافظين الهيمنة السياسية.
إلا أن العقد الأخير شهد تغيراً واضحاً في المزاج الشعبي نحو الفكر اليميني الواضح. لعل مرد ذلك فشل سياسات التقشف جراء الأزمات المالية المستعصية من قبل النخب الحاكمة الشرهة والإنتهازية، الأمر الذي أدى إلى قبول متزايد من المواطنين للأفكار المتطرفة في العالم الغربي من ناحية وإلى تسييد الفكر الإرهابي الإسلاموي في المنطقة العربية والإسلامية من ناحية أخرى.
كل هذا يعني أن ثمة تراجعاً تاريخياً في الرأي العام العالمي في الوقت الحاضر وحتى الأمد المنظور، قد يطول أو يقصر، معتمدا على الحراك الشعبي العالمي وتوجهاته الفكرية والثقافية. سنناقش أدناه أسباب هذه الظاهرة محاولين استشراف المآلات القادمة.
لنبدأ بتفكيك مصطلحي اليمين واليسار. تاريخيا فإن “المصطلحين” السياسيين المفارقين حديثان نسبيا، بالرغم من أقدمية كلمة ” اليمين” في التاريخ البشري. معروف للمتابع؛ حادثة جلوس أعضاء الجمعية الوطنية الفرنسية (البرلمان) من الارستقراطيين، الموالين للملكية والقوى التقليدية المحافظة، المسايرة؛ على اليمين. وجلوس القوى الحداثية، المتمردة والراديكالية على الجانب الأيسر من منصة رئيس البرلمان (في الاجتماع الأول لمجلس الطبقات سنة 1789)، ومنذ ذلك الوقت أضحى مصطلحا “اليمين” و”اليسار” يتعزز استخدامهما في عالم السياسة والعلوم الاجتماعية، وكفيصل يقسم القوى السياسية بين تقدمي متحرر ورجعي محافظ.
غير أن للمسألة تفاصيلها الإشكالية، التي يجب فهمها بشكل صحيح. من المؤكد أن مصطلح أو كلمة “اليمين” قديم قدم البشرية (حلف اليمين.. ما ملكت أيمانكم .. الخ). وقد كانت تنم في الماضي السحيق عن القيم الاجتماعية المحترمة والمنسجمة مع تقاليد العصور القديمة والعصور الوسطى، حسب مفهوم قيم النبلاء في وقته.
ويجب ملاحظة أن غالبية الناس يكتبون باليد اليمنى أو يركلون الكرة بالقدم اليمنى.. وهكذا. لذا كان هناك دائما نوع من التبجيل بالأعضاء اليمنى لبني البشر. بينما كانت هناك نظرة سلبية (فأل سيىء) لأعضاء البشر اليسرى، إلى درجة أن بعض التعاليم الدينية تشيطن اليد اليسرة والقدم اليسرى في حين أنها تبجل، واضعا هالة من التقديس لليد اليمنى! استمرت الأمور هكذا حتى وصولنا إلى العصور الحديثة، حينما حدث – صدفة أو قصدا- اصطفاف اليمين واليسار في البرلمان المذكور!. ومنذئذ دخل المصطلحان القاموس السياسي. حيث بدا اليسار وكأنه يجسد روح التمرد والثورة على الأوضاع التقليدية المحافظة القديمة، التي صارت تمثل اليمين في مختلف الصعدحينما دخل العالم مرحلة الثورات البرجوازية في القارة الأوروبية في العصور الحديثة، ضد المنظومة الإقطاعية، التي شاخت بعد أكثر من ألف عام، ابتداء من القرنين الخامس عشر والسادس عشر، كانت البرجوازية في أوج نشاطها وتقدميتها. ومن الطبيعي أنها اعتبرت “يسارية” في حينه مقارنة باليمين المجسد لمصالح الملاكين الإقطاعيين والممالك الاوروبية والعالم القديم. قضت البرجوازية على الإقطاع في العالم المتمدن، مؤسسة منظومة رأسمالية متقدمة على صعيد الانتاج والصناعات الحديثة (الثورة الصناعية)، الأمر الذي أدى إلى وتيرة سريعة من التقدم الاقتصادي والاجتماعي والثقافي بجانب ازدهار المدن الحديثة، كسوقٍ لتصريف المنتوج بجانب مواقع للمصانع والانتاج.
ها هنا انبثقت طبقة جديدة (البروليتاريا) التي كانت ضرورية لنمط الإنتاج الرأسمالي، حيث القطبان الرئيسان والندان والطبقتان الأساس ( البرجوازية الصاعدة/ والبروليتاريا الناشئة). فلم يكن في الامكان لأحد القطبين الاستغناء عن الآخر، بغية استمرارية مسيرة الحياة والتطور المجتمعي وازدهار ثروة الأمم (ادم سميث).. ابو الإقتصاد السياسي .. و”ديفيد ريكاردو”… نشأ على يد الاقتصاديين المذكورين علم جديد يبحث العملية الإنتاجية المعقدة الحديثة (الاقٌتصاد السياسي).
ألف “ادم سميث” كتابه المرجعي (ثروة الأمم)، محاولا اكتشاف سر تكدس ثروة الرأسماليين ومضاعفتها، من جراء عمل طبقة العمال واستغلالها بصورة مركزة، لكنه لم يستطع الوصول إلى كنه اللغز المحير، أوالكنز الذي يجلب الثروة. سبر غور السر الدفين لم يكتب إلا لألماني (كارل ماركس)، الذي اكتشف نتيجة تأملاته العميقة وبحوثه لسنوات طوال؛ قانون “فيض القيمة” أو”القيمة الزائدة”، المدر لربح الرأسمالي، صاحب المصنع أوالمنشأة، من جهة تزايد ثروته تباعا (الرأسمال المتحرك).
لم يستطع أحد غير ماركس أن يرى بأن الرأسمالي يسرق في الواقع جهد العامل أوجزء من قوة عمله. نحن الآن في القرن التاسع عشر، حين بدأت تدق باب التاريخ ثورات نوعية من نمط آخر؛ وهي الثورات البروليتارية/ الإشتراكية – ابتداء من كومونة باريس- لدك المنظومة الرأسمالية، التي شاخت وصارت عنواناً لليمين والرجعية والجشع المرضي. في الوقت، الذي أضحى نضال الطبقة العاملة يعبرعن قلب قوى اليسار والتقدم والعدالة الإجتماعية.
الآن.. لندخل موضوعنا المطروح للنقاش؛ وهو ظاهرة تراجع وانحسار قوى اليسار في كل مكانٍ تقريبا. وتبوؤ اليمين ساحة الحراك الاجتماعي في أغلب الدول، خاصة في الغرب والمنطقة العربية الاسلامية (اليمين الديني/ الإسلام السياسي). هنا يجب ملاحظة أن هذه الظاهرة كسمة للعصر؛ جديدة وغير مسبوقة. ففي الماضي القريب، ابتداء من ثلاثينات القرن الآفل تصدرت ولأول مرة قوى سياسية يمينية متطرفة، عرفت في إيطاليا بالحزب الفاشي وفي المانيا بالحزب النازي. غير أن ذلك الصعود والاستيلاء على السلطة (ديمقراطيا اوعنوة) من قبل اليمين المذكور توازى بتوازن القوى، مع القوى السياسية اليسارية. بمعنى ان الظاهرة المستجدة الحالية مفارقة، بل هي ظاهرة غير مسبوقة، مقارنة بفترة قبيل الحرب العالمية الثانية، حيث اتسمت قوى اليسار بقوة جماهيرية كبيرة.. كان من الممكن أن تجابه اليمين الفاشي في حينه، لو لم تتشتت قوى اليسار (نقصد هنا الحزبين الألمانيين؛ الشيوعي والاشتراكي الديمقراطي). ولم تدخل في خلافات وصراعات حادة مع بعضها البعض (مثال المانيا وصعود هتلر …… )
تشابه واختلاف.. محاولة للبحث عن الأسباب
نعم هناك شيئ من التشابه بين المرحلتين، لسالفة والحالية، من ناحية أن الرأسمالية كمنظومة “مستبدة” ومستغلة لجهد العامل؛ لا تستطيع الإستمرارية بدون حروب وتدخلات بغية التحكم في موارد الطاقة والمواد الأولية. ويحدث أن القوى البرجوازية وأجنحتها التقليدية – عادة – والإشتركية الديمقراطية – حينا- ونتيجة لتناقضاتها الداخلية، المعبرة عن الازمة البنيوية للرأسمالية، تسلم السلطة طواعية لليمين المتطرف للقيام بمغامرات محسوبة أوغير محسوبة النتائج والويلات (الحروب)، بغية القضاء على مكتسبات القوى العاملة وتجديد منظومتها المهترئة، كالثعبان الذي يغير جلده على الدوام! لكن هناك أيضا إختلاف كبير بين الفترتين. حيث أن شعار “يمينا در” الذي نلاحظه في الدول الرأسمالية المتقدمة (الغربية) الآن، ليس بالضرورة انتقال السلطة لليمين الفاشي الواضح.. بل ليمين محافظ ومتدين أساسا، ذي حساسية تجاه النازحين من المسلمين والملونين والأعراق المختلفة، من مناطق عديدة من العالم، خاصة المنطقة العربية والشرق أوسطية.. هذا سياسيا. أما على الصعيد الإقتصادي فهذا اليمين الجديد يعادي العولمة المالية الحالية، وهو أساسا ضد الإتحاد الأوروبي (يلتقي اليمين واليسار في هذا المسعى كل لأسبابه!). محاولا استعادة مجمعاتها الصناعية من الدول الصناعية الصاعدة كالصين والهند ..الخ (هذا على الأقل ما يبدو أنه البرنامج الإقتصادي لترامب).
نعم قد تشكل الحكومات اليمينية المتطرفة، لو اتحدت في الغرب، خطورة على الوضع العالمي المتدهور والملتبس أصلا. غير أن سمة الوضع العالمي الحالي تعبر عن مرحلة انتقالية موضوعية صعبة، قد تأخذ بعض الوقت حتى يستقر العالم على شكل جديد؛ عبارة عن “منظومة عالمية متعددة الأقطاب”.. حينئذ لابد أن تتفق مختلف الدول الكبرى على الحد الأدني للمصالح المختلفة للاعبين الكبار خاصة ( روسيا.. الصين … بريكس/ شنغهاي … الخ ) بغية الحفاظ على التوازن الدولي المنبثق من منظومة تعدد الأقطاب الحتمية القادمة، الأمر الذي يصب –لامحالة – في مصلحة دول التخوم الأضعف، التي تحاول الخروج على التبعية والهيمنة الغربية
كلمة حول تراجع وانحسار اليسار
التراجع بدأ مع تفكك المنظومة الأشتراكية وتداعياتها المستمرة، على الصعيد العالمي، الأمر الذي أدى إلى احباطات مجتمعية وحتى طبقية. بمعنى أن هناك تراجعا واضحا في قوة الطبقة العاملة – كما وكيفا – يتجسد في ما يمكن ملاحظته وهو؛ عملية إعادة توزيع جديد للعمل، وتموضعات طبقية جديدة.. حيث تتشكل قوى بروليتارية جديدة في الدول الصاعدة، مع ضمور للطبقة العاملة في الرأسماليات الغربية القديمة (بسبب قانون ماركس / تراجع معدل الربع).
من الطبيعي والحال هذه أن احزاب الطبقة العاملة (الطليعية الاشتراكية والشيوعية) في تراجع وتهميش وحتى تخبط فكري، ليس فقط بسبب الجانب الإقتصادي، بل نتيجة ضياع بوصلة “الدياليكتيك” وتراجع النظرة التحليلية العلمية على الصعيد السياسي، حيث أضحت “الضبابية” سيدة الرؤية والتحليل، المؤدية بالضرورة إلى عدم الفهم الصحيح لتضاريس الواقع المعاصر، والسمة الإنتقالية للعصر. بجانب القصور في فهم الأسباب الموضوعية للتراجعات الحالية.. حيث ” القديم” مازال بإستطاعته تجديد نفسه. و”الجديد” لم يتشكل بعد بكامل عنفوانه. والأدهى أن هناك – كما اسلفنا- ضعفا معرفيا (فكريا/ نظريا) بيناً لدى القوى الطليعية المذكورة، أدى إلى تمترس تقليدي/ نمطي في الطرح، بعيداً عن إبتكارات تنظيرية جديدة وضرورية. فمثلا مافتئت غالبية الاحزاب الشيوعية، الخارجة من معطف الأممية الثالثة، تعتبر أن سمة العصر -مازالت وكما كانت – “الإنتقال من الرأسمالية إلى الأشتراكية”. وكأن شيئا لم يحدث؟! وكأن العالم لم يتغير منذ فترة القطبين الجبارين؟!
المآلات المستقبلية
لا أحد لوحده وبجهده الذاتي، يستطيع التنبؤ بما سيكون عليه شكل العالم في العقود الأربعة أوالخمسة القادمة مثلا (2050). فالوضع العالمي معقد إلى درجة أنه يحتاج إلى نقاشات وبحوث لاتنتهي من قبل أصحاب الشأن المعنيين، والمنشدين لعالم أكثر عدلا مقارنة بالنظام العالمي “المتوحش” الحالي. أي أن الحاجة تستدعي جهوداً جماعية جبارة، بغية تقريب وجهات النظر، فيما بين القوى الطليعية، الأمر الذي يؤدي إلى عمل مشترك بين القوى التقدمية والإشتراكية، في سبيل درء الحروب والتدخلات واستعادة المبادرة والعافية، إن لجهة إعادة القوة والنفوذ السياسيين للقوى الطليعية ذاتها، أو لجهة التشكل النوعي الجديد للطبقة العاملة واصطفافاتها على صعيد العالم. هنا يجب ايضا دراسة المتغيرات، التي مست بنية الطبقة العاملة.. وهي بالطبع في حاجة إلى آليات عمل جديدة للنضالات الطبقية القادمة، وأشكال أخرى غير مسبوقة ومبتكرة، بغية التهيؤ لولوج جديد للمجتمعات البشرية، نحو منظومة ما بعد الرأسمالية؛ أي الإشتراكية.