الآفة في اللغة: كل ما يصيب شيئا فيفسده، من عاهة أو مرض أو قحط. يقال آفة زراعية: أي ما يفسد الزرع من دود أو حشرات وغيرها. كما يقال آفة العلم النسيان. والدول العربية الحديثة ابتليت منذ قيامها بآفة الاستبداد السياسي التي لا زالت تأكل الأخضر واليابس وتفسد كل شيئ فيها.
والاستبداد لغة هو غرور المرء برأيه والأنفة عن قبول النصيحة أو الاستقلال في الرأي وفي الحقوق المشتركة. ويراد بالاستبداد عند إطلاقه استبداد الحكومات خاصة لأنها مظاهر أضراره التي جعلت من الإنسان أشقى ذوي الحياة.
والاستبداد صفة للحكومة المطلقة العنان فعلا أو حكما التي تتصرف في شؤون الرعية كما تشاء بلا خشية وحساب ولا عقاب محققين. وأشد مراتب الاستبداد – كما أشار الكواكبي- التي يتعوذ بها من الشيطان هي حكومة الفرد المطلق، الوارث للعرش، القائد للجيش، الحائز على سلطة دينية.
الحاكم المستبد يتحكم في شؤون الناس بإرادته لا بإرادتهم ويحكم بهواه لا بشريعتهم، ويعلم من نفسه أنه الغاصب المتعدي فيضع كعب رجله على أفواه الملايين من الناس يسدها عن النطق بالحق والتداعي لمطالبته. والمستبد يود أن تكون رعيته كالغنم درا وطاعة، وكالكلاب تذبلا وتملقا. وعلى الرعية أن تعرف مقامها أنها خلقت خادمة لحاكمها، تطيعه إن عدل أو جار، وخلق هو ليحكمها كيف شاء بعدل أو اعتساف.
ومن هذه الآفة الكبرى –الاستبداد السياسي- تتفرع العشرات من الآفات الصغرى التي تساهم في استمرار الدول العربية في تخلفها الحضاري. أولى هذه الآفات المشتقة من آفة الاستبداد السياسي هي آفة الاستبداد الديني، وهما صنوان قويان بينهما رابطة الحاجة على التعاون لتذليل الإنسان، والمشاكلة بينهما أنهما حاكمان أحدهما في مملكة الأجسام والآخر في عالم القلوب. ودائما ما تستغل سلطة الدولة السلطة الدينية ومؤسساتها في خدمة مصالحها السياسية والاقتصادية والاجتماعية.
وفي الواقع أن الدين بطبيعته مطواع أمام سلطة الدولة، وهذا ما تأكد عبر مسيرة التاريخ البشري. وأخطر ما ينتجه الاستبداد الديني تحت سيطرة سلطة الدولة المستبدة هو التعصب الديني والصراع الطائفي بين مكونات الدولة أو الأمة الواحداة أو في دائرتها الأوسع بين الأمم والحضارات، ومثالها في ذلك الحروب الصليبية التي مثلت قمة التعصب الديني والاستبداد السياسي الأوربي الغربي تجاه المشرق العربي الإسلامي في العصور الوسطى. وما ثورات الربيع العربي التي اجتاحت العديد من الدول العربية في مطلع العام 2011 وما تلاها من انتشار للخطاب الطائفي وتمدد الجماعات الإرهابية والتكفيرية وعلى رأسها داعش، إلا نتاج للاستبدادين السياسي والديني في الدول العربية.
ثاني الآفات المشتقة من آفة الاستبداد السياسي هي الاحتكار الاقتصادي لوسائل الانتاج الأساسية والتحكم بعلاقات الإنتاج، فالنفط والغاز الطبيعي مثلا يكونان في يد الأفراد أو العائلة أو الحزب، وليس في يد الدولة الديمقراطية الغائبة عن بلداننا العربية. وقس على ذلك التحكم والاحتكار في التجارة والصناعة والمصارف المالية وغيرها، مما يؤدي إلى نتيجة حتمية وهي تبديد الثروات وانتشار الفساد والسرقات للمال العام، وزيادة نسبة الخصخصة والفقر والبطالة والضرائب، ناهيك عن ارتفاع الدين العام للبلاد. إن الاستبداد يجعل المال في أيدي الناس عرضة لسلب المستبد وأعوانه وعماله غصبا، أو بحجة باطلة، وعرضة أيضا لسلب المعتدين من اللصوص والمحتالين الراتعين في ظل أمان الادارة الاستبدادية.
ينتج عن الاستبداد السياسي أنواع عديدة من الاستبداد، ذكر بعضها الكواكبي وهي كالتالي: الاستبداد والعلم، الاستبداد والتربية، الاستبداد والأخلاق، الاستبداد والمال، الاستبداد والمجد، ولا يتسع المجال هنا لشرحها.
إذا بسبب الاستبداد السياسي الشامل الذي يسيطر على كل مفاصل الحياة السياسية في الدول العربية من مشرقها إلى مغربها، تغيب الديمقراطية وجميع مفرداتها وأدواتها: الحرية والعدالة، العقد الاجتماعي والدستور التعاقدي، البرلمان والأحزاب والحكومة المنتخبة، القضاء المستقل والأمن للجميع، المجتمع المدني واحترام حقوق الإنسان وحرية الإعلام والصحافة… . بينما يسود مقابل ذلك على أرض الواقع: القمع والظلم، الفرض والقهر، الصحيفة الواحدة والحزب الواحد، الطائفية والتعصب الديني، التنكيل بالمعارضين وانتهاك حقوق الإنسان…إلخ.
إن أوربا التي تعيش اليوم أرفع مراتب الحضارة البشرية، في تقدمها سياسيا واقتصاديا وصناعيا وعلميا وعسكريا، كانت في العصور الوسطى تعيش في ظلام دامس على مستوى العقل والفكر والحقوق، ولكن بفضل بزوغ عصر النهضة والأنوار وحركة الإصلاح الديني والثورة الصناعية استطاعوا أن يستبدلوا الحكم المطلق بالحكم الديمقراطي، التعصب الديني بالتسامح الديني، الاستبداد بالحرية، الخرافة بالعلم، الفرقة بالوحدة.
هذا ما يحتاجه العرب في القرن الواحد والعشرين ليخرجوا من مأزقهم التاريخي الاجتماعي والحضاري الذي طال أمده، وليصبحوا أمة واحدة قوية متقدمة في كافة العلوم والمجالات في الحياة، بدلا من الاستمرار في ضعفهم وتشرذمهم وتخلفهم وغرقهم في الظلام.