الواقع السياسي والاجتماعي للعرب بعد (ثورات الربيع العربي) أصبح أكثر سوءاً وتمزقاً. الصراعات والحروب مستعرة في سوريا والعراق وليبيا واليمن، بينما الانتهاكات الحقوقية والاضطهاد الطائفي والاستبداد السياسي والتخلف الاقتصادي والحضاري تسيطر على أغلب الدول العربية.
عدد الدول الديمقراطية في العالم في تزايد، بينما العرب يغردون خارج السرب الديمقراطي. والسؤال الذي يطرح نفسه هنا: لماذا لا توجد ديمقراطية عربية؟ التفسيرات السائدة حول غياب الديمقراطية في الوطن العربي متعددة، يتم إرجاعها لعوامل: سياسية، اقتصادية ،دينية، ثقافية ، تاريخي ، اجتماعية.
وفي هذا الإطار تأتي الدراسة التي أعدّها لاري دياموند مدير مركز الديمقراطية والتنمية في جامعة استانفورد ونشرتها دورية الديمقراطية Journal of Democracy في يناير 2010 تحت عنوان: ” لماذا لا توجد ديمقراطيات عربية؟ يرى السيد دياموند بأنه “لا يمكن الجزم بأن الثقافة السياسية المحدد الأساسي لتعثر عملية التحول الديمقراطي في العالم العربي فالقيم النابعة من المعتقدات الإسلامية لم تمنع عددًا من الدول التي يعتنق غالبية سكانها الدين الإسلامي من تحقيق ديمقراطية سياسية مستقرة خاصة ألبانيا وماليزيا والسنغال. حيث يصنف مركز فريدم هاوس حوالي 8 دول إسلامية غير عربية باعتبارها دولاً ديمقراطية، بما يعني أن المعتقدات الدينية لا تعد محددًا لمسار التحول الديمقراطي”.
أما فيما يتعلق بالثقافة وغياب الممارسات الديمقراطية عن التقاليد ذات المجتمع العربي ورفض الشعوب العربية للديمقراطية وعدم تقديرهم للانتخابات كآلية لتداول السلطة، فهو افتراض غير صحيح بالنظر إلى ما كشفت عنه استطلاعات الرأي التي تم إجراؤها في الجزائر والأردن والكويت والمغرب والأراضي الفلسطينية والعراق من أن نسبة لا تقل في المتوسط عن حوالي 80% ممن تم استطلاع آرائهم يعتقدون أن الديمقراطية هي أفضل نمط للحكم على الإطلاق.
بيد أن المعضلة تكمن من وجهة نظر دياموند في الانقسامات والشكوك المتبادلة بين التيارات السياسية العلمانية من جانب والتيارات الإسلامية المعتدلة والراديكالية من جانب آخر، وتأكيد حوالي 56% ممن تم استطلاع آرائهم في عدد من الدول العربية علي ضرورة التوافق بين الممارسة الديمقراطية والشريعة الإسلامية.
نختلف هنا مع الكاتب دياموند بأن المعضلة الأساسية والأكبر والتي تعطل التحول الديمقراطي في الدول العربية ليست في الشكوك المتبادلة بين التيارات العلمانية والتيارات الإسلامية، بقدر ما هي في البنية الاجتماعية القائمة بمعناها الأوسع(سياسياً واجتماعياً واقتصادياً وثقافيا)ً وهي بنية تسيطر عليها الأنظمة العربية الرسمية والتي هي تابعة للبنية البرجوازية الرأسمالية الغربية.
في جانب آخر يرى السيد دياموند أن السبب الأول لعدم وجود ديمقراطية عربية يكمن في هيكل النظم الاقتصادية العربية وليس مستوى التنمية الاقتصادية في تلك الدول، حيث أن حوالي 11 دولة عربية يمكن تصنيفها كدول ريعية تعتمد على صادرات البترول والغاز كمصدر أساسي للدخل القومي وفي بعض الحالات تمثل تلك الصادرات حوالي 90 % من قيمة الناتج المحلي الإجمالي ومن ثم تتضاءل حاجة الدولة لفرض ضرائب على دخول المواطنين في مقابل تصاعد اعتماد المواطن على الدولة للحصول على الدخل والخدمات العامة، ويسبب ذلك خللاً في العلاقة بين السلطة السياسية والمواطنين وعلى حد قول هنتجتون في كتابه الموجة الثالثة للديمقراطية ” إذا كانت مقولة لا ضرائب دون تمثيل مطلب سياسي فإن مقولة لا تمثيل دون ضرائب تصبح حقيقة سياسية في الدول الريعية”.
و يؤدي اعتماد الاقتصاد الوطني على الصادرات النفطية لعدة تداعيات على المستوي السياسي أهمها مركزية السلطة السياسية وإيلاء الأمن والاستقرار قدر كبير من اهتمام النظام الحاكم فضلاً عن انتشار الممارسات القمعية في مواجهة الإضرابات والمظاهرات بما يؤدي لإضعاف وتهميش مؤسسات المجتمع المدني في مقابل تضخم الجهاز الإداري والتنفيذي للدولة.
وفي ما أسماه الكاتب دياموند ب”سياسات التكيف السياسي السلطوية” يشير إلى أن احتكار السلطة السياسية أحد أهم السمات المشتركة بين دول المنطقة العربية في ظل تأييد القوى الخارجية لاستمرار التسلطية السياسية حفاظًا على الاستقرار السياسي، ومما يعزز سلطوية النظم الحاكمة في العالم العربي استغلالها لاحتكار الدولة لأدوات القهر السياسي المتمثلة في قوات الشرطة والمخابرات وتوظيفها لقمع المعارضة السياسية للحفاظ على بقائهم في السلطة، بحيث تصنف غالبية الدول العربية ضمن أعلى دول العالم من حيث مستوى الإنفاق على الأمن، بيد أن النظم العربية الحاكمة لا تمارس القمع السياسي بصورة دائمة وإنما تعتمد على عدة آليات بصورة متزامنة مثل استقطاب بعض قيادات المعارضة والسماح بقدر محدود من التمثيل السياسي وإجراء انتخابات بصفة دورية حتى وإن كانت غير نزيهة.
أخيراً يخلص الكاتب في دراسته لعوامل عدم وجود ديمقراطية عربية: بأن مستقبل الديمقراطية في العالم العربي ليس قاتمًا كما يبدو للوهلة الأولى، لأن التغير في السياسة الخارجية الأمريكية بين عامي 2003 و2005 باتجاه تصعيد الضغوط على الدول العربية لدفع عملية التحول الديمقراطي قدمًا قد أسفر عن نتائج إيجابية جزئيًا، كما أن الدعم الشعبي للديمقراطية يعد مؤشرًا آخر على أن التغير السياسي باتجاه الديمقراطية لم يعد ممكنًا تفاديه خاصة مع توظيف تكنولوجيا الاتصالات وإفادة المعارضة السياسية من المنتديات الاجتماعية مثل الفيسبوك وتويتر والمدونات كمساحات افتراضية لحشد الرأي العام ضد الركود السياسي الراهن في الدول العربية، أما إذا انخفضت أسعار البترول أو تم إيجاد بدائل للطاقة تتسم بانخفاض التكلفة، فإن النظم الحاكمة للدول المنتجة للنفط ستجد ذاتها مضطرة لإبرام عقد اجتماعي جديد مع شعوبها تقوم على التشارك في السلطة والتمثيل السياسي بما ينهي فترة احتكار تلك النخب للسلطة السياسية.
ونختلف هنا مرة أخرى مع السيد دياموند حول الدور الأمريكي في الضغط على الأنظمة العربية للمضي قدماً باتجاه التحول الديمقراطي ، بل أثبتت التجارب والسنوات إلى السعي الدائم للولايات المتحدة الأمريكية والدول الأوربية الكبرى في تحقيق مصالحها السياسية والاقتصادية على حساب المصالح الطبيعية للشعوب العربية.
أختم مقالي هذا بما ذكره المفكر والأديب الراحل عبد الرحمن منيف حول الديمقراطية (الفريضة الغائبة) وحاجة العرب إليها: “ان الأداة-الشرط وسيلتنا للدخول إلى عالم شديد التعقيد والتشابك، وبدون هذه الأداة – الشرط سنبقى ندور حول المشاكل، نتوهمها، نؤجلها، نحتال عليها، نراها من بعد، وأيضا نغرق في سلسلة من التجارب والأوهام التي نفرضها على أنفسنا، أو يفرضها علينا الأخرون”.