لم ير التاريخ البشري حدثا مدويا، مجلجلا، جذريا ومصيريا كالثورة البلشفية، التي شهدتها روسيا القيصرية، في نهاية الأسبوع الأول من نوفمبر1917 (25 أكتوبر حسب التقويم الروسي وقتئذ)، مباشرة بعد ثورة فبراير البرجوازية الديمقراطية من نفس العام. ولعل الأغرب أن ثورة أكتوبر كانت بيضاء تقريبا، بلا إسالة دماء تذكر. حيث لم يكن إطلاق المدمرة ” أفرورا” لمدافعها، في فجر السابع من نوفمبر 1917 (25 أكتوبر حسب التقويم الشرقي الروسي القديم) سوى عمل رمزي! . من هنا.. فهل هي كانت إنقلابا، قفز فيه حفنة من الجنود البلشفيين عنوة إلى السلطة؟!.. أم إنتفاضة على يد مجموعة من الثوريين الروس وغير الروس؟!.. أم انها بالفعل كانت ثورة بكل ما تعنيها هذه الكلمة من معنى؟!
للوصول إلى تصورأقرب إلى الواقع التاريخي، الذي نحن بصدد الإحتفاء بالذكرى 99 لتلك الثورة، لابد لنا من إستعادة الأجواء السياسية في حينه، إن من جانب الحراك الإجتماعي للجماهير، أو من جانب ميزان القوى وحجم كل حزب سياسي وقوته في الدوما (البرلمان الروسي). والأهم من كل ذلك القوة الفعلية لمجالس السوفييت والميزان الحزبي فيه. من المعروف أن الثورة البرجوازية، بقيادة ” كيرنسكي” وحزبه (الإشتراكيون الثوريون) أطاحت بنجاح بالحكومة القيصرية، لكنها تلكأت بالسير قدما في شتى المجالات الإقتصادية والإجتماعية والثقافية، خاصة موقفها من الحرب الدائرة، التي كانت روسيا غارقة فيها ومن موقع المهزوم.
عودة إلى الوراء قليلا.. وحتى قبيل ثورة فبراير. لم يكن وارداً أصلا، حتى في برنامج الحزب البلشفي، القيام أوحتى التفكير في ثورة إشتراكية قريبة وقادمة في روسيا المتخلفة عن الركب الغربي، حين كانت السمة الغالبة لإقتصادها زراعية إقطاعية، مع قطاعات رأسمالية صناعية ضعيفة في الحواضر؛ موسكو وبطرسبورغ، وحيث البروليتاريا الروسية كانت تتسم بضعف واضح – عدداً وعدة – ضمن بحر واسع من طبقة الفلاحين في كل أصقاع روسيا.. ولكن مع قوة نسبية ملحوظة تتعزز- رويدا- على صعيدي الانتليجنسيا الثورية وأحزابها السياسية السرية العمالية والطليعية.
ولعل حزب العمال الإشتراكي الديمقراطي الروسي يشكل مثالاً ساطعاً هنا (حزب عمالي ماركسي أسس بقيادة مناضل وألمعي ومنظر ومروج ماركسي من الدرجة الأولى، عرف في وقته بأسماء سرية عديدة واشتهر لاحقا بـ “لينين”). ليس هذا فحسب.. بل أن التنظير الماركسي السائد حينئذ كان ينطلق أساسا من ملاحظات ماركس الأولى والأساس؛ من أن الثورات الإشتراكية ستندلع؛ بل يجب أن تندلع، في المنظومات الرأسمالية المتطورة (المانيا وإنجلترا مثالا) وفي مجموعة من البلدان الرأسمالية الاقوى. بالرغم أن ماركس ومن ملاحظاته المتاخرة، بعد تباطؤ الحركة الإجتماعية في القارة العجوز، إلتفت يسرة إلى أمريكا في البدء (كانت حاضنة لحركة النقابات العمالية العالمية خاصة)، وحينا إلتفت يمنة إلى روسيا الشاسعة والمتخلفة.. ولكن حيث “الأرض ملكية عامة” مقارنة مع الدول الأوروبية الأخرى، كدأب بعض الدول الآسيوية (نمط الانتاج الآسيوي)!
(بتقديري من المفيد للباحث السوسيولوجي مراجعة ما كتبه ماركس عن هذه المسالة بالذات). من هنا فإن ماركس وأنجلز ولينين كنوابغ، لم يكونوا من بين النخب الفكرية والثورية، التي تاخذ المسلمات على عواهنها.. فهم يدركون بالطبع، أكثر من غيرهم، تعقيدات حركة التاريخ والإستثناءات غير المسبوقة!
عودة إلى اللحظة التاريخية الحاسمة.. ظل البلاشفة وعلى رأسهم لينين مشدوهين لفترة، وهم في انتظار مخرج من الوضع الغريب وغير المسبوق لروسيا!.. أضحت هناك في الواقع سلطتان: سلطة الحكومة المؤقتة وسلطة السوفييت (فترة إزدواجية السلطة). ظلَّ البلاشفة في البداية أقلية في مجالس السوفييت وفي الدوما على ما أعتقد. لكن مع إشتداد ضغط الحرب الخاسرة، وخاصة مع عودة الجنود الروس من المعارك، تبدل تدريجيا المزاج الجماهيري. لاحظ لينين بنظرته الثاقبة أموراً عديدة تصب في مصلحة مشروعه الذي يختمر في ذهنه منذ بعض الوقت؛ التحول الثوري للمزاج الجماهيري وغضب الجنود المهزومين وإلتحاقهم أفواجا افواجا بمعسكر الثورة. هذا مع تردد وتلكؤ الحكومة البرجوازية المؤقتة وإنزوائها عن اتخاذ قرارات فعالة. بل اصبحت مستعدة للتراجع والعودة لأحضان القيصرية، ورافق ذلك تحول في ميزان القوى لصالح البلاشفة، خاصة في مجالس السوفييت حيث باتوا الآن الأكثرية! هنا طرح لينين برنامجه الشهير المفاجئ؛ وهو الإستيلاء على السلطة وعدم التردد (أمس كان باكراً، غداً سيفوت الأوان اليوم. هو يوم الحسم!)
تاريخيا.. ” لينين” هو أول من حاول تطبيق فكر ماركس على الأرض بشكل خلاق غير نمطي، طارحاً مشروعه الاستثنائي والغريب في وقته؛ وهو الاستيلاء على السلطة، منطلقا من ابتكارات جديدة وشجاعة ثورية وفهم عميق للاستثناءات الضرورية لحركة التاريخ والتواءآتها في المنعطفات المصيرية، منسجماً مع “روح” ماركس كما لم ينسجم أحد معها. لم يرضخ لينين لأهوائه، حسب منتقديه وخصومه الكثر. ولم يصب بمس من الجنون حسب رفاقه وحتى زوجته، قبل إقناعهم الصعب بفكرته غير العادية والاستثنائية القادمة من ظروف استثنائية لن تتكرر أبدا؛ وهي تكملة الثورة البرجوازية أولاً (الثورة البلشفية كانت ضرورة تاريخية وأولوية الأولويات.. وكانت عبارة عن ثورتين متتابعتين!)، ثم الشروع في البناء الأولي للاساس المادي للإشتراكية من خلال خطة الـ – نيب – (رأسمالية الدولة الضرورية) لتشييد الأساس المادي لرأسمالية متطورة! تخلص لينين بجسارة منقطع النظير من كل -المساطر- الجاهزة والقياسات – الدقيقة – والجمل التنظيرية العائدة لأفكار محترفي الماركسية كـ “كاوتسكي” و”برونشتاين” وغيرهما، الذين أضحوا الناطق الرسمي للماركسية بعد موت أنجلز.
أبتكر على يد هؤلاء نمط من الفكر الماركسي النمطي “الخشبي”، بدون أن ياخذوا بعين الإعتبار الحالات المعينة لكل بلد. والظروف الإستثنائية لمراحل تاريخية محددة. بل أصرت هذه النخب الفكرية على التفسير الأحادي للماركسية المركون على جدلية شكلية، الأمر الذي يفضي – لامحالة – إلى التردد والتذبذب والإنتظار، حتى يكتمل أولا؛ “الوضع الثوري الخالص” والموقف -الأنموذجي- للثورة (أشبه بإنتظار غودوت)! وضرورة اكتمال العوامل الموضوعية الشاملة (وهو أمر مستحيل حدوثه في عالم الواقع) قبل التفكير بإستيلاء البروليتاريا على السلطة (حدث هذا في المانيا وقد دفع الثوريون الألمان ثمناً غالياً لترددهم). فها هنا الظرف الإستثنائي القاهر، الذي لمحه “لينين” لوحده قبل غيره، كقائد ومنظر فذ، قل أن يأتي الزمان بمثله.
لم يستخدم “لينين” المسطرة لتفسير وفهم معنى أفكار ماركس الخلاقة وتطبيقها على الأرض. عرف متى يعارض القواعد – إن كانت هناك قواعد محددة – والعموميات والتنظيرات المكتبية. لم يسقط في متاهة انتظار الوضع الأنموذجي للثورة، على أهمية ذلك موضوعيا. كان لينين نابغة، عرف الاستثناءات كما عرف القواعد والقوانين (ماركس لم يكن بإمكانه أن يفتي بأوهام خيالية ولم يكن من أصحاب الطوبى والتنبؤات!) ومن ناحية أخرى لم يقم لينين بثورة أكتوبر، لأنه كان على عجلةٍ من أمره. وأراد ان يرى الثورة في حياته ويحقق ذاته. العكس هو الصحيح. بجانب الإرادة الفولاذية، كان لينين يملك عقلا نفاذاً، باستطاعته معرفة حركة الواقع المعقد بدقة، وبدون هنات ذاتية. من الممكن أن ندعي أن تعقيدات العالم اليوم – بتقديري – في حاجة إلى عبقري من وزن ماركس وزعيم من طينة لينين!؟
مع ذلك .. كم هو لئيم الموت المبكر، الذي يقطف عبقرياً قبل أوانه (تتكرر هذه الظاهرة السلبية في التاريخ البشري مرارا وتكرارا). فمن حسن حظ ثورة أكتوبرأن قائدها كان لينين، ومن سوء حظها أنه ذهب قبل الأوان. سادت في عهده حياة حزبية ديمقراطية حقيقية، اتسمت بعلاقات رفاقية راقية ومساءلة دقيقة، الأمر الذي أفضى إلى بروز دستة من خيرة النظريين الماركسيين في العهد اللينيني – قبل الثورة وبعدهها – بجانب قادة سياسيين وعمليين مرموقين، لعل أعظمهم كان “يعقوب سفيردلوف”، منظم حزب البلاشفة الأول. كان لينين يرى فيه خليفته الموثوق. غير أنه توفى فجأة في سنة 1919 . لكم حزن قائد الثورة على الموت المبكر لـ ” سفيردلوف”، قال لينين في تأبينه قولته الفلسفية الشهيرة: (الثورة تقتل خيرة أبنائها!).