حين كتب القاص والروائي العماني سليمان المعمري روايته (الذي لا يحب جمال عبدالناصر)( ) فقد رسم خريطة الرواية وبناءها الهندسي تجاه المكان والزمان، وحركة الشخصيات المتنقلة في مكان محصور وإن كانت تذهب بين الحين والآخر أحداث الرواية إلى أمكنة وأزمنة تعود بنا إلى بداية القرن العشوين ومنصفه، هكذا حاول الروائي بلغته الإبداعية والتخييل الفني الذي استطاع عبره تسطير أحداث النص بجدارة وإتقان، إنها رواية تناولت أحداثًا مهمة في وقتنا الحاضر، والزمن الذي لم يبتعد عنا أكثر من عشر سنوات، وهي أحداث التي وقعت في العالم العربي ضمن ما أطلق عليه من قبل البعض بالربيع العربي، الذي جاء نكبة على العديد من شعوب المنطقة وأنظمتها، أكثر من تحولها إلى ما هو أفضل، ومن ضمن هذه الدول التي عانت منذ اشتعال أول شرارة التحرك الشعبي إلى عام أو يزيد، هي مصر التي كانت ولا تزال محاطة بصفتها التاريخية بأنها (أم الدنيا)، مصر التي أخذت في يد الإخوان المسلمين، ثم عودتها إلى ما كانت عليه.
والروائي حين أراد الحديث عن تلك الأحداث التي طرأت على العديد من الدول العربية بما فيها سلطنة عمان، المكان الذي انطلق منه الكاتب لنسج أحداث روايته ونموها، جعل المنطلق الرئيس الأسبق لمصر، الإنسان الذي استطاع أن يجمع الدول العربية حكومات وشعوبًا بظله السياسي والقومي، إنه جمال عبدالناصر، وكيف كان حب الناس في العالم العربي يتشكل بطرائق مختلفة، الناس التي كانت متعطشة بقلوبها وأفكارها إلى هذه الشخصية التي كانت ولا تزال تحظى بالحب العربي، الشخصية التي تشكلت باسمها حزب بعد رحيلها، متعطشة إلى أفكاره وتوجهه العروبي تجاه قضايا الأمة العربية، في مقابل تيار الإخوان المسلمين الذي نشأ في تلك الفترة، وما وصل إليه عبر منتسبيه حتى وصلوا إلى السلطة السياسية في العام 2011، ورأي هذا التيار وموقفه من جمال عبدالناصر، وكرهه واللعنات التي يبوح بها بين الحين والآخر، وفي هذه الفترة التي لا تتجاوز عدة سنوات حاول الكاتب بيان الواقع المعيش في العالم العربي عامة وفي مصر بشكل خاص، وبين الحين والآخر ما كان يحدث في مسقط.
وقد انطلقت أحداث الرواية من خلال رغبة جمال عبدالناصر الخروج من قبره، واللقاء بأي شخص حتى لو كان عدوًا له، ولا يكن أي تقدير له، كما أشار حارس القبر بأن الشيخ متولي الشعراوي طلب اللقاء بجمال عبدالناصر، وهنا يؤكد عليه عبدالناصر بتكرار رغبة اللقاء بأحد، إلا أن الحارس أشار إلى أن ” تلك كانت زيارة في منام الشيخ.. هذه نقطة أولى.. والنقطة الثانية هي أن الشعراوي نفسه هو الذي طلب لقاءك في لا وعيه ولست أنت الذي طلب اللقاء.. والنقطة الثالثة والأهم أن سبب إجابة طلب الشيخ هو كونه أحد أعدائك التاريخيين ” ص12، أو لما أنجزه في حياته حينما كان رئيسًا لمصر، ولا يحبه، بل يكرهه ويبغضه، وبعد محاولات مع حارس القبر، وإقناعه بتحقيق رغبته، أكد الحارس أن بالإمكان الخروج ولكن لمقابلة أحد أشد الأعداء الذي يسكن خارج مصر، ” إنه مصري ولكن يقيم في عُمان.. سنسمح لك بخروج مؤقت من القبر لزيارة هذا الرجل، إن استطعت أن تسل من قبله 1٪ من حقده الشديد عليك فستكون مكافأتك العودة إلى مصر حيًا معززًا مكرمًا ” ص15.
خرج الرئيس من قبره ذاهبًا بجسده الحامل لروحه عبر فضاء المكان خارج مصر ليحل في مسقط، ذاهبًا مباشرة إلى إحدى الشخصيات المصرية الحاقدة عليه، والمملوءة كرهًا وبغضًا، الشخصية التي كانت تعمل هناك منذ زمن طويل قارب على الثلاثين عامًا، إنه الأستاذ محمد بسيوني سلطان، معلم اللغة العربية، ثم المنتقل إلى وظيفة مصحح لغوي في جريدة المساء، هكذا يأخذ الراوي جمال عبدالناصر من القاهرة بمصر، إلى مسقط في عمان، ليستمع إلى موجز النشرة التي كان يقرأها محمد بن مرهون الحسني قائلاً: ” السلطنة تحتفل اليوم بذكرى الثالث والعشرين من يوليو المجيدة يوم انطلاقة النهضة المباركة ” ص17 والقصد هنا النهضة العمانية التي انطلقت بقيادة السلطان قابوس رحمه الله في سنة 1970، وليس المقصود ثورة يوليو المصرية. وعبر سيارة الأجرة أخذه السائق مباشرة إلى تلك العمارة التي يسكن فيها السيد بسيوني، لكن المفاجأة التي حولت بسيوني إلى كتلة هامة لا حركة فيها بدءًا من هذه الموقف حتى نهاية الرواية، ويتمثل في قيام السيد بسيوني ليفتح باب الشقة بعد قرع الجرس، ليتفاجأ بمشاهدة جمال عبدالناصر واقفًا عند الباب، فيسط أرضًا مغشيًا عليه وفاقدًا للوعي، ويدخل في غيبوبة قاربت الستة أشهر، هي مدة أحداث الرواية، ” ففي منطقة الحمرية توقف التاكسي عند عمارة سكنية كبيرة.. وهناك قرع باب الشقة رقم18.. فتح بسيوني سلطان الباب فرأى جمال عبدالناصر أمامه بشحمه ولحمه.. شهق شهقة قوية وسقط مغشيًا عليه ” ص17.
وبهذا الحدث المؤلم الذي تعرض له السيد بسيوني تبدأ الأحداث التي جلها كانت تدور بين أروقة الجريدة، وبين موظفيها والصحفيين من جهة والسيد بسيوني من جهة أخرى من خلال الاسترجاع والذهاب بالذاكرة إلى الماضي الذي عاشت فيه مصر أيام عبدالناصر وما جاء بعد ذلك حتى ثورة مصر في يناير 2011، وما بعدها. وهنا جعل الكاتب محور الحديث والنقاش والمماحكات تأتي من قبل عدد من الشخصيات في مقابل شخصية بسيوني، أي لم يقف الروائي على شخصية واحدة لتكون هي الراوي أو السارد لأحداث الرواية، وإنما جعل الرواية تتصف بتعدد الأصوات، تلك التي تعبر عن رأيها لما كان يحدث في العالم العربي من وقائع وأحداث معاصرة، أو أحداث وقعت في أيام جمال عبدالناصر، وكل هذا موجه إلى بسيوني بأساليب مختلفة، بعضها استفزازي، وآخر أسئلة، وثالث استطلاع رأي، وهكذا، ولكن جميع الأحداث لا تخرج عن حضور جمال عبدالناصر الذي يكرهه بسيوني حتى الرمق الأخير، بوصه إخوانيًا، ذلك التيار الذي كان خصمًا لذودًا مع جمال عبدالناصر.
ولكي يتناول أحداث ما سمي بالربيع العربي، فقد نوع من جنسيات الشخصيات التي تعمل في الجريدة، بل منطلقًا من معرفة حقيقية مفادها، أن معظم العاملين في الصحف والجرائد والمجلات هم من جنسيات مختلفة، لذلك لا غرابة في حضورها في أحداث الرواية. ولكي يؤكد حضور أحداث الربيع العربي في بعض الدول، وبخاصة تلك التي نتج عن الاحتجاجات مصير آخر لدولها في العام 2011، حاول أن يأتي بشخصية مصرية لتتناول الحديث عما وقع في مصر، وشخصية تونسية، للحديث عما وقع في تونس، وكذلك عمان، ومع هذه الشخصيات أعطى كل شخصية ملامحها الثقافية والأيديولوجية والفكرية من ليبرالية إلى دينية إلى إخوانية، إلى غير محدد الهوية الفكرية، ومن هنا تبدأ مناكفة السيد بسيوني تجاه مجموعة من القضايا ذات العلاقة بجمال عبدالناصر، وحكمه وقوانينه، منها: السكن المؤجر، إذ كان حديث عن مالك الشقة والسكن وكيفية الخروج منه، وبين هذا وذاك في الحوار ومشاهدة مسلسل تلفزيوني يناقش القضية نفسها، قال المصحح العماني مبارك المقبالي: ” من حقه ما يطلع.. صاحب الشقة طمّاع، ومصرّ يزيد الإيجار عليه خمسة أضعاف.. هنا هاج بسيوني وصرخ بانفعال” اخرس انته. وما تحشرش نفسك بين المصريين.. الكلب ده مش عاوز يخرج من الشقة لأنه مستقوي بقانون اللي ما يتسماش الله لا يرحمه ” ص32، بل مع كل موظف في الجريدة له حكاية مع بسيوني، فله مع المصحح السوداني حكايات حول مصر والسدوان، وحول التصحيح، وحول العلاقات بشكل عام، هكذا في خضم الحوار المتشنج بينهما قال بسيوني: ” طب سيبك من الكلام ده.. إحنا بنسمي الجمع بتوعنا جمعة الغضب، جمعة النصر، جمعة الفرصة الأخيرة، جمعة تقرير المصير، وحضرتكم ما لقيتوش تسموا جمعتكم إلا (لحس الكوع) ” ص59. كما كانت له جولات متعددة مع رئيس القسم الديني داوود الخراصي، ومع رئيس القسم الثقافي الذي يغضب في كل مرة على تدخل بسيوني لتغيير بعض مفردات المقالات الثقافية، ولكن بسيوني لم يفعل هذا اعتباطًا وإنما من خلال مقولة لخوسيه ساراماغو.
ومن ذلك الحوار والمجادلة السفسطائية نظرة بسيوني إلى قصيدة النثر، إذ دخل في حوار مع رئيس القسم الثقافي، قائلا: ” إزاي نجمع في نفس الجملة قصيدة ونثر مع بعض، ونقول قصيدة نثر، ده زي لما تقول تفاح البصل.. – يرد عليه المتحاور – ولكن اسمح لي.. ما أظنك قريت الأدب العالمي بشكل جيد. استشاط غضبًا وصرخ في وجهي: تقول أيه؟! انته بتهيني؟! أنا اللي ما قريتش الأدب يا حداثي يا متخلف؟! هي دي بقا أخلاق العمانيين…. ” ص83، وما كان يفعله سالم الخنصوري تجاه بسيوني كفيل بمعرفة الشخصية الكارهة إلى عبدالناصر، وها هو رئيس التحرير يقول: ” أما سالم الخنصوري فيكفيني منه صداع جمال عبدالناصر.. فلا يكاد يمضي يوم دون أن يكتب لي بسيوني رسالة شكوى ضده، مرة قال أنه قال له إن عبدالناصر هو زعيم الأمة العربية، ومرة لأنه وضع له صورة عبدالناصر في درجه، ومرة لأنه وضع في هاتفه خطبة جمال عبدالناصر كنغمة، وتعمد أن يطلب من أحدهم يتصل به وهو بالقرب من بسيوني ليسمعه النغمة….. ” ص102-103.
ومع تلك القضايا التي طرحتها الرواية ذات العلاقة بالسياسة والفكر والتغييرات في المجتمع العربي عامة والمصري بخاصة، في شكل فكاهي ونقد يتمظهر بين مفردات النص الحواري أو السردي، فإن الرواية لم تتجاهل الحديث عن بعض القضايا المجتمعية الأخرى التي لا مفر من مناقشتها وطرحها بين الحين والآخر، مثل: تلك الأوهام التي لم يستطع الأدب العماني الحديث التخلص منها، وهي السحر، وما يقوم به المشعوذون، فبعد غيبوبة بسيوني، حاولوا الذهاب إلى إحدى الشخصيات التي يعتقدون أنها تملك العصا السحرية لصحو بسيوني وعلاجه، ” جارنا ناصر أقنعني أن في الأمر سحرًا عمانيًا، وعلينا أن نذهب إلى عراف يسميه العمانيون باصر… “ص22، وتعدد الزواج الذي تمثل في شخصية رئيس التحرير، الذي كان يستخدم المقويات من المصحح التونسي، ويعتقد أن زوجته لا تعلم عنه شيئًا، ولكن الأمر مختلف، حيث تقول عن موهون زوجها، ” كان يتهمني بالبرود ولعل هذا الذي جعله يبحث عن الحرارة خارج البيت مع تلك العاهرة الحقيرة.. قد تستغربون كيف كشفت خيانته لي.. إنه حدس الأنثى.. لا يمكن لرجل أن يبيت مع زوجته وفؤاده معلق بامرأة أخرى دون أن تشعر زوجته بذلك ” ص203. حيث جاء التناول بطريقة غير تقليدية وما هو في العديد من الأعمال الروائية العربية، كما ناقشت موضوع الوعي الصحفي عند ممتهن الصحافة، وثقافته، وكيفية تناوله الموضوعات، أو ما يطرحه الملحق الديني.
كما تناولت الرواية العلاقات التي تبنى على المصالح والنفوذ التي تسهم في تزكية بعض الشخصيات حتى لو لم تكن على درجة من الكفاءة والمستوى العلمي والمهني، كما أن الكاتب لم يترك دور المرأة الواعية القادرة على المساهمة الحقيقية والفعلية وقوفًا مع الرجل حتى لو كان يخدعها، كما هو رئيس التحرير الذي أخفى عن زوجته زواجه الثاني، وهي تعلم بذلك من دون أن تخبره، أو دورها في بعض مؤسسات الدولة الذي بينه الكاتب من خلال الجمعية المعنية بحقوق الإنسان التي تأسست في عمان، أو دور زينب الموظفة في الجريدة وعلاقتها بالمجتمع العماني عامة والحراك الذي حدث في العام 2011، والحوارات التي كانت تدور بينها وبين بسيوني الذي كان متأملاً الزواج منها سريًا إلا أنها صدته بكل لباقة وسلوك أخلاقي ينم عن تربية ومكانة للمرأة العمانية التي مثلتها في الرواية.
أعتقد أن الكاتب سليمان المعمري، المتعدد في مجال موهبته بين كتابة القصة القصيرة، الرواية والعمل الصحفي والإذاعي بنى شخصيته الثقافية والمعرفية والحوارية، تلك التي برزت في فضاء أحداث الرواية، وتميزها عن العديد من الأْعمال السردية الخليجية، لأن الكاتب استخدم أسلوب التهكم والفكاهة والهزل في طرح كل القضايا في الرواية التي دارت حول محور الشخصية (بسيوني)، وحين وظف الكاتب هذا الأسلوب، وهو الداخل في الأدب الساخر، فإنه يعي تمامًا ما ينطوي عليه هذا المفهوم الذي يتطلب حضور الضحك مع البكاء، وحضور الفطنة والذكاء مع القدرة على السبك والتخييل، هذا الفن الذي عمد إليه الكاتب في الرواية جاء ليقول للقارئ أمورًا ويدعوه إلى الاستبصار في أمور أخرى خفية بحاجة إلى نبش وبحث وتقصي بين السطور والكلمات، بين سردية هنا وحوار هناك، بين وصف لحالة ماضوية ما في المجتمع، وربطها بالواقع المعيش، فالكاتب يرمي لا شك إلى نقد الواقع المجتمعي المعيش، وأساليب الناس الاجتماعية، التي تراوحت بين ما هو مدح أو ما هو ذم من دون أن يقف الكاتب أو يميل إلى هذا أو ذاك، بل على مدى أحداث الرواية لك يكشف الروائي عن وجهة نظره فيما يطرحه، بل ترك الأمر معلقًا، ومتروكًا للقارئ، وبخاصة أن ما قدمته الرواية من أفكار ومعلومات وحكايات، وعرضها بهذا الأسلوب الهزلي النقدي للواقع، جعل الرواية أكثر قربًا من القارئ، وبخاصة أن القارئ العربي تكمن قراءته في الغالب نحو الجدية التي تصل أحيانًا إلى التعقيد والسأم، أما سليمان المعمري الذي خرج من النص وبدأ راويًا باسم شخصية أخرى كان مكتفيًا بالمراقبة دون التدخل، بل تعمد أن تتعدد الأصوات بحيث أعطى كل الشخصيات التي ذكرت مساحة كبيرة للتعبير عن رأيها فيما يحدث في المجتمع القريب منها، وعلاقتها بالسيد بسيوني الذي من خلاله تنطلق منه أحداث أكبر.