رضيّتُ بالسلامة على عمري غنيمة
هذه حكاية وقعت لي في العام 2006 اثناء رحلة سياحية للصين، ظلّت عالقة بذهني سنوات طويلة، وأستعيدها كلما وجدت نفسي في مرحلة تتسم بالحيرة والتشوش وتقتضي اتخاذ القرار المناسب في الوقت المناسب.
كنا وقتها مجموعة من الأهل والأصدقاء وعشاق السفروهواة المغامرات، وفي أعمار شابة وإن تفاوتت نسبياً، وكان البرنامج الذي بدأ منذ الصباح الباكر ينطلق من زيارة سور الصين وصعوده، حيث خصصت وزارة السياحة في الصين عدداً من المواقع على امتداد السور لزيارات السيّاح.
قصدنا قسم موتيانيو على بعد حوالي 60 كيلومترا شمال وسط الصين، وهو أحد أكثر اقسام النصب شهرة وأقلّها ازدحاماً، والمعروف أن ارتفاعات السور تتفاوت من منطقة لأخرى، حيث يقطع صعوداً وهبوطاً جبالاً وودياناً وسهولاً وصحارى لمسافة تمتد نحو 1500 ميلاً .
قدّمت لنا المرشدة السياحية، ونحن في الحافلة ثلاث نصائح مهمة: اجراء تمرينات التحميّة تلافيا للشد أو التمزق العضلي، الالتزام بالصعود بطريقة حلزونية كمشي الأفعى كتقنية مجربة وسريعة وأخفّ وطأة على الركب، خصوصاً وأن العتبات متفاوتة الارتفاع ومتعرجة، وأخيراً أعادت تنبيهنا إلى أنّ الصعودإالى هذا العلو يقتضي التريث لمن يعاني من رهاب الارتفاعات.
أجرينا التمرينات اللازمة ووقفنا دقيقة لالتقاط صورة جماعية تحت السورعلى وعد منا أن نلتقط صورة مماثلة لها عند القمة، وانطلقنا…
في الطريق كنا نرى السياح يصعدون وينزلون ويتراجعون، وكلما توغلنا في الارتفاع استوقفتنا زوايا ومتاجر تسوق وهدايا وأعلاماً وقمصاناً تحمل صورا للسور متضمة عبارات تشجيعية “لقد بلغت ربع المسافة، أو نصفها، أو أنت على وشك بلوغ القمة”، وذلك لمنح المترددين أو المتكاسلين جرعة تحفيز إضافيّة، وهكذا مضى برنامج التسلق، ومن الطبيعي أن الاكثر شباباً ولياقة، والأصغر سناً بلغوا القمة في وقت قياسي، وراحوا من فوق ومن نقطة النهاية يطلقون الصيحات ويستحثون البقية للمواصلة، “تعالوا لالتقاط الصورة”، وأما البقية المتمهلة تحت – وأنا منهم – فراحوا يبطئون الصعود بعد أن بدأت قواهم تتضاءل شيئاً فشيئاً.
قالت رفيقتي: “ركبتي” وجلست على أقرب عتبة، نظرت فإذا امامي عتبات طويلة تبلغ ثلثي المسافة صعوداً وثلثاً اخر للنزول. تذكرت مثلا عالميا يقول “قد تبلغ نهاية الدرب اعتمادا على الكذب أو الادعاء أوالوهم لكن السؤال هو في كيفية العودة؟”، وكنت ارنو إلى ما تبقى من مسافة صاعدة، وأقيس مقدرتي الجسدية ولياقتي الصحية، وحين بدأت استشعر الرجفة في رجلي، تساءلت: ماذا لو أخفقت في المنتصف؟ هل ثمّة وسائل انقاذ ومسعفين؟ صحيح، إنه السؤال الذي لم نطرحه على مرشدتنا السياحية.
برنامج صعود السورالمفاجئ – والذي لم نحسب له نحن غير الرياضيين حساباً – يماثل تحدّيات عديدة نخوضها في حياتنا، بعضها نذهب إليه طواعية، آخر نلقاه مزروعاً بالمصادفة في طريقنا كهذا السور العالي، لذا فإن الوقفة الصحيحة مع النفس جديرة بالاعتبار.
هنا، أنت لا تتحدى الآخر أو تحاول خداعه أو الاحتيال عليه، انما تختبر نفسك وذاتك وقدرات جسدك، الحساب إن لم يكن صحيحاً ومدروساً وبناء على معطيات سليمة، فالعواقب ستكون وخيمة، وهذا ما يجري لنا في كل مرحلة من مراحل حياتنا، فحين نؤسس المشاريع ونمضي قدما في مسيرة العمل المهني ونغامر ونجازف ونتخذ القرارات ونتقافز من موقع الى آخر، فإنما نفعل ذلك تعويلاً على رصيدنا من عناصر القوة كالصحة والعلم والمعرفة والتمكن والخبرة والمال والطاقة ونزعة المغامرة في تلك المرحلة الزمنيّة.
هبطت رفيقتي عدة عتبات وتبعهتا اثنتان، قالت الصديقة نحتاج أيضاً إلى طاقة للعودة، شدّتني صيحة اخرى للواصلين تستحثنا على الحركة ،”يالله ، تعالوا ، ننتظركم لالتقاط صورة تاريخية للمجموعة فوق السور” من ضمن الستة عشر فردا تراجع أربعة فقط، وكنت آخر النازلين، قبلها منحت نفسي مزيدا من التفكير والتنفس العميق، اشتريت قميصا خُطت عليه عبارة “أنت بلغت ربع المسافة”، تذكرت أنني ركبت الصعاب الكثيرة في حياتي الصحفية والسياحية أيضاً، وغطيت حروباً ومناطق ملتهبة في لبنان والعراق في معمعة الحرب، وكنت على حاملة طائرات عسكرية في الحرب على العراق عام 2003، وكان أول تدريب تلقيناه على السفينة هو كيفية اتقاء الهجوم الكيماوي، وقيل لنا على الحاملة: أي خطر تتعرضون له من أي جهة هو على مسؤوليتكم، ولن تتلقون أي تعويض!.
وقادتني التجربة ذاتها إلى الإبحار في غوّاصة مائية حربية اشبه بزجاجة مغلقة، وانطوى كل حاجز عسكري أو نقطة تفتيش أو معبر اجتزته على الكثير من الخوف والمخاطر، وخضت ألعاباً مخصصة للمغامرين والشجعان فقط، وصعدت مناطيد هوائية ومظلات هبوط، وتسلقت أهراماً وابراجاً شاهقة وسلالم طويلة وملتوية، واقتربت من عرين الحيوانات المفترسة في رحلات السفاري في إفريقيا والهند وتايلند، وغالبت خوفي المزمن من الأماكن المغلقة بأسلوب الغمر وبالمران والتدريب.
لكن كان ذلك في عمر اصغر، حيث الحيويّة واللياقة الصحيّة والحماس والرغبة في التنافس وتحقيق الانجاز واختبار اقصى درجات التحمل، منتحتني ذكريات الماضي الجميل رضاً نفسياً وقناعة مريحة، جال بخاطري قول الشاعر العربي أمرؤ القيس: “وقد طوًفت في الآفاق حتى / رضيت من الغنيمة بالإياب”.
عدت أدراجي على العتبات الصلبة المتعبة بعد أن اختبرت نصف متعة التجربة، رددت مع نفسي قولا شعبيا مأثورا “صاحب النصيفة سالم” .
كنا قد تركنا خلفنا قبل هذا اليوم برنامجاً ناجحاً ومتنوعاً وحافلاً، امتدّ على مدى أسبوع مع مؤتمر التصوير الفوتوغرافي العالمي “فياب”، ولا يزال أمامنا يومان سياحيان في العاصمة بكين قبل العودة إلى الوطن، عبر رحلة طيران تناهز الإثني عشر ساعة، إضافة إلى عدّة ساعات عبور في مطار هونج كونج ليلاً. نعم كان قرار التراجع صائباً وحكيما في قبال المجازفة المحفوفة بالمخاطر.
حين التأم فريق الرحلة بعد عودة الجميع إلى الحافلة، قالت لنا المرشدة: “ما لم أقله لكم قبل ان تصعدون هو أني صعدت السور مرة واحدة في حياتي، ومن نقطة أقلّ ارتفاعا وسقطت مريضة اسبوعاً ولم أكرر التجربة”.