على نهج “تشيخوفي” في حدث صغير، عادي، ومكرر، وقد يحدث كل يوم في أي مكان، يتنامى إلى أن يصبح حدثاً رئيسياً كبيراً، يبدأ عرض “نعال النوخذة” من عائلة بو يوسف (حسن العصفور)، الذي تلحّ عليه زوجته بالاقتراض من النوخذة بوسالم (عادل شمس) من أجل إكمال إجراءات زواج ابنهما. يتردد بو يوسف في مسألة طلب المال، ويماطل زوجته، حتى يلجأ إلى التحجج بعدم وجود “نعال” مناسبة ليقابل بها النوخذة ويطلب منه ما أراد، ويتطور الأمر إلى سرقة نعال من المسجد.
في الجهة الأخرى، هناك النوخذة الجشع (بوسالم)، الذي يفتقد وجود العمالة المناسبة لسفينته، حيث دخل (الغاز) البترول، وانخرط الكثيرون ممن كانوا يمتهنون البحر -برزقه المتعثر وعبوديته المميتة- إلى فضاء العمل ذي الدخل المنتظم. الرابط بين هذين الحدثين: أن “النعال” المسروقة هي نعال النوخذة الذي أتي من الجنوب إلى الشمال من أجل إقناع الناس هناك بدخول البحر، مستخدماً أية سلطة وحيلة تمكنه من نيل مطلبه، وقد كان بالفعل، حين استغل حادثة سرقة نعاله من أجل إحالة الموضوع إلى فعل متآمر من أهل الجنوب عليه شخصياً.
ما يميز عرض “نعال النوخذة”، إضافة إلى كونه بات شكلاً غريباً لتقديمه الشكل الشعبي، في مجمل عروض مسرحية تتخذ أشكالاً أخرى، أن له خصائص خليجية مشبعة ومعتنى بتفاصيلها، سنأتي على أبرزها لبيان أهمية أن يكون العرض المحلي محل تقدير ومنافسة بهويته وهيئته أيضاً. وأول ما يمكن ملاحظته في هذا العرض: كتابة الشخصيات بتفرّد مرسوم، يسرد للمتلقي تاريخ الشخصية، بغض النظر عن الفعل على الخشبة. فالنوخذة -على سبيل المثال- هو مالك السفينة، أو قائدها، أو الاثنان معاً، وبكل الأحوال هو مالك لسلطة كبيرة يخنع لها البحارة، الذين يقضون وقتاً طويلاً من أعمارهم في خدمته، والحصول على فتات ما يجلبونه من قاع البحر.
لذلك قامت الدراما بشكل عام بتصوير صورة النوخذة بصفتها الشخصية المتسلطة الجشعة، والتي تعيش على بسطاء الناس، وتورث أولادهم الديون والعبودية المبطنة أيضاً. ورغم أنها صورة عامة، إلا أنها مكتسحة، لذلك لن يبذل النوخذة جهداً كبيراً، إلا ما يعادل الدلالات المؤكدة على هذه السيرة، وقد كان. لم تحتج شخصية “بوسالم” إلى توضيح توجهها للمتلقي كثيراً. فالحوار الأول، الدائر بينه وبين خادمه “مرزوق”، يبين حاجته لعودة البحارة إلى سفنه الراكدة أمام شاطئ البحر دون تشغيل، لاتجاه العمالة نحو الجبل/البترول. أيضاً، في شخصية الخادم “مرزوق”، راشد العازمي، ذي البشرة الداكنة، الذي صنفه المجتمع في هذه الطبقة، ولازال البعض يفعل ذلك، وهو الخادم النمطي، المستعد لفعل أي شيء يرضي به سيده، حتى لو كان على حساب نفسه. وبينما يتعامل الجميع معه على أساس تبعيته للنوخذة الكبير “بوسالم”، تأتي شخصية “مجدم” (أمين الصايغ)، المثيرة للجدل، لتعامل مرزوق بشكل طبقي حاد، مكنونه عنصري، وغير متخفٍّ، بدليل تكرار الجمل الدالة على ذلك، مثل:
“مرزوق: عندكم بعد من مدة أسبوع واحد من أهل سترة
مجدم: (مقاطعاً) ههههه أي.. اللي طاح في البالوعة.. هذي سلمكم الله..
بو عيسى: (مقاطعاً): الله يهديك يا مجدم، خل الرجال يكمل سالفته.
مجدم: أي رجال يا بو عيسى.. هذي إلا مرزوقوه” (1)
كما ورد أيضاً في حوار سابق موضوع العبودية الذي يتكلم فيه مجدم على مرأى ومسمع من الجميع، الذين لا يوافقونه –كما يتبين من العرض- ويأتي كالتالي:
“ملا راشد: اسكت يا مجدم، وخل سالفة لنعال اللي شفتها لي بعدين. (لمرزوق) علمنه إيش صاير يا مرزوق؟
مجدم: أوه أوه.. بعد العبيد لهم كلمة في ميلس الرجاجيل
ملا راشد: اذكر الله، وصل على النبي يا مجدم,, كلنه عبيد الله يا مجدم”.
واستخدم مجدم لفظة “مرزوقوه” و”العبيد” كمرادف للتحقير والتصغير المتعلق باختلاف لون البشرة، دون أن تكون هناك أية إشارة على وجود خلاف شخصي أو مشكلة تستدعي الإهانة بهذا الشكل الصريح، إلا محاولة إثبات أنه أفضل منه طبقياً، كما يوجد أفضل من مجدم نفسه طبقياً، ويعامل بذات الأسلوب الذي يعامل به الخادم، ولا يبدو أن مجدم يكيل التهم لشخص مرزوق بذاته، حيث يخاطب حميد (السكران) بذات الاعتزاز غير المبرر. ومن طريقة الحديث في المجلس ما قبل الصلاة، تتضح ملامح هذه الشخصية التي تودّ أن تتصدر أي حديث، مهما كان، لتبين المعرفة والأفضلية، وتصنع لنفسها صورة غير واقعية لتعويض نقص ما، كحواره مع حميد في مجلس بو سالم:
“حميد: آنه شمجيبني حق هالرجال.. آنه ويني او وينه؟
مجدم : صدقت يا حميدو ,, إنت وينك او وين بو سالم ..أنت كفو تجلس في ميالس لكباريه ,, إنت حدك البراحة
حميد: يعني اللي الحين يسمعك يقول هالرجال ما يجلس الا معا الخديوي الشاهنشاه.. إنت حدك عتبة القهوة.
مجدم: لعلمك (باعتزاز) آنه ما اجلس الا معا الرجاجيل السنعة، وسوالفي ما أقولها إلا حق الكفو منهم، وإلا الطرطنقيه اللي إنت واحد منهم ما لهم أي اعتبار عندي”.
وتعد شخصيات: مجدم، ومرزوق، وبوسالم، وبويوسف، وبوراشد أيضاً نماذج تمثل أنماطاً مجتمعية موجودة، تعامل معها العرض كما هي دون الحاجة إلى تطويرها. فالخادم المحبوس داخل لونه وتقييم المجتمع له، لا يحاول إلا الإمعان في خدمة سيده، محاولاً تهيئة أي سبل ترضيه، مثل استدعاء شهود زور، أو تلفيق تهمة لمجدم وشخص آخر على سبيل الانتقام من سوء معاملته من قبل الأخير، إضافة إلى تبديد غضب بوسالم. ولن نجد رجل الدين، الملا بوراشد (محمد الصقر)، يقوم بدور مخالف من السكينة والهدوء وضبط النفس، بالإضافة إلى الشكل الخارجي الملتحي، الورع، لنموذجه.
وبهذه الشخصيات الحاضرة/الجاهزة في الوعي العام، شابك النص بينها لخلق حدث، جدل بعناية في أداء تمثيلي أخذ قالبه في كل الشخصيات التي قدمت؛ (حسين العصفور) هذا “الجوكر” في دور بو يوسف، القادر على التوغل في كل الشخصيات التي يؤديها باقتدار، كأنّ الشخصية مرسومة له بذاته، ومجدم (الصايغ) الذي يبتكر نبرة الصوت المناسبة لشخصية المدعي، المضطرب، والمتصدر بنفس الوقت، والنوخذة (شمس) الرأسمالي، المتضرر من الوضع الجديد، وهو خارج الشخصية الشريرة المكررة النمطية، رغم الأفعال غير المستساغة منه، ومعظم ممثلي هذا العرض، بما فيهم المجاميع، لم يغرد أحدهم بعيداً عن الكتلة المجتمعة لإبراز قدراته التمثيلية، إلا بالشراكة مع الآخرين.
أما المسألة الرئيسية التي اتكأ العنوان عليها، فهي في رمزية “النعال” الحذاء/المداس، الذي يقال – أدباً واحتراما – للمخاطب به في جمل اعتراضية مثل: أعزك الله/ حاشاك، بينما هو قطعة هامة تلبس مكملة للملابس، لكن لكونها تلامس الأرض عند المشي، وتقارب التراب والقذارة، كما تقارب باقي الأشياء، أقرنت بالتحقير، ودلالة هبوط المستوى، ونزول المكانة. أما ارتباط لفظة النعال بالنوخذة، فتحمل –فرضياً- النقيضين؛ بين وضاعة وفخامة. حشد المؤلف في متن نصه استناداً لعنوانه مضامين حية مثل: الرأسمالية المتمثلة في النوخذة بوسالم، التكافل الاجتماعي والحفاظ على المصلحة العامة، خاصة تلك المربوطة بالمصائر الجمعية، الطبقية التي يمارسها النوخذة على الجميع، ويقوم الأفراد باستعمال نفس الحق، ولكن بشكل مصغر، كما شخصية مجدم مع الآخرين.
وكذلك أيضاً الدلالات التي منحها العرض منذ البداية، وهي أن الحدث في بيئة خليجية، إذ يستدل على ذلك باللهجة، والزي، وطبيعة العلاقات. أما الفترة الزمنية، فتقع في بداية الثلاثينات، مع اكتشاف النفط الذي سيطر على الأيدي العاملة، ونقلها من حياة البحر، والغياب الطويل، والمخاطر إلى مثلها، ولكن بظروف فضلها الكثيرون. لكن العرض كذلك يمنح مفارقة تدعو إلى التأمل. فبينما يسمي المكان والمنطقة الجغرافية، وهي البحرين، عبر ذكر جزيرة سترة وأهل سترة، وماعدا ذلك فكل الإشارات مشتركة خليجياً: الغاز (البترول)/ تحول العمال من البحر للجبل/ اللهجة المتقاربة/ الزي المتشابه/ وغيرها من العلامات التي لا تضع مكاناً للشك في المكان، ويتحدث بالإشارة إلى أهل الشمال والجنوب، وكان من الأولى -إخراجياً- التنبه لهذه الدلالة، بالذات أن مفردة سترة لم تذكر في سياق مهم أو خاص بها، وكان يمكن الاستعانة بأي اسم رمزي، كما كانت الإشارات السابقة لأهل المناطق المسمية بالجهات. يحسب للرؤية الإخراجية للعرض أيضاً: العمل على تداخل اللهجات بسلاسة لا تحتاج لتبرير، طالما أن العمل بحريني، ومعروف تعدد اللهجات في الدولة بحسب المناطق.
فاستثمار اللهجة الأصلية لبو يوسف وأم يوسف (عبير مفتاح) أحدث كوميديا نابعة من الاختلاف، دون الالتفات بعمق إلى ما وراء هذا الاختلاف، والتركيز في الموضوع الأساسي، وهو توفير مهر يوسف لتسريع زواجه بابنة خاله. في هذا السياق، يلاحظ المتلقي اختلاف نطق اسم مجدم إلى “ميدم” أو “مقدم” حسب المنطقة، وهي إشارة ثانية إلى تنوع اللهجات في البحرين، مما يعيدنا إلى مسألة إصرار النص، والعرض لاحقاً، على استخدام الإشارة في توصيف ناس الجنوب وناس الشمال، الذين يمكن تسميتهم بالمناطق حسب الخريطة، وحسب جهة سكنهم المشار إليها. ويستخدم عرض “نعال النوخذة” أيضاً الثيمة الخليجية لتكبير وإجلال المنادى عليه، من خلال عدم معرفة أسماء الشخصيات، إلا بإقرانها باسم الابن الذكر الكبير، مثل: بوسالم، أو بو يوسف، مع الإشارة إلى أن هذا العرف لا يخضع للحالة المادية، أو الاجتماعية، للفرد.
لابد من الإشارة أيضاً للدور الذي لعبته السينوغرافيا، بكل مكوّناتها، في التنقل السلس من حي الجنوب وحي الشمال، إلى بيت بو يوسف بطل الحدث، عبر قطع ديكور، وموسيقى، وأزياء، تهيئ المناظر واحداً تلو الآخر للحقبة الزمنية المقصودة، وفي انتقال سلس، ومستغل بشكل جيد، مع تظافر أكثر العناصر في العرض لإظهاره بشكل شعبي قريب للشكل الجماهيري، الصالح، والمهيأ لكل الفئات العمرية التي تخوله لليالي عرض أكثر من عرض الليلة الواحدة في مناسبة مسرحية، كما عرف بها مسرح أوال منذ التأسيس في بداية السبعينات، وحتى انتعاشه الكبير في الثمانينات، وبداية التسعينات من القرن الماضي، وحتى الآن.
(**) لمشاهدة العرض كاملا
_ حصد “نعال النوخذة” على جائزة أفضل عرض في مهرجان البحرين المسرحي الأول 2019 وهو من تأليف يعقوب يوسف وإخراج جمال الغيلان