قبيل أيام شاهدت بالصدفة لقاء تلفزيوني قديم بُث على قناة دبي زمان، استضافت فيه الإعلامية بروين حبيب الممثل السوري أيمن زيدان، شدّني اللقاء وتابعته حتى النهاية، ذُهلت حقا من براعة ضيفها في الكلام، وتمكنه من الإجابة بمنتهى الرشاقة على كل سؤال ُطرح عليه. بدا كمن يصد السهام عن نفسه دون أن ترمش له عين. اللافت في أجوبته الواثقة هو أنها إما ذات قيمة معرفية، أو بها إشارة ثقافية فنية أو تاريخية مهمة، حتى وإن وجه إليه سؤال شخصي عن طفولته وذكرياته كان يجيب عليه بشكل أخاذ.
بعيد هذا اللقاء رحت أستذكر بعض المقابلات التي شاهدتها على مدى أعوام وماهي الانطباعات والأقوال التي ظلت في ذاكرتي لتلك الشخصيات. وهذا شأن الذاكرة ولا دخل لي بذلك، هي تخلد ما تختار وتحذف ما لا تجده مثيراً! تأملت كيف كان الكلام يتسلل من أفواه الفنانين أو الشعراء أو الأدباء أو حتى بعض السياسيين.
إن اللقاءات التلفزيونية الحوارية والتي تتم وجهاً لوجه، كلاسيكية وقد لا تثير أبناء هذا الجيل، لكنها تبقى وسيلة تواصل مهمة بقدر ما تكشف عن جوانب، نوايا، ومعلومات تسكن فكر ووجدان المرء، معلومات قد لا تلمسها في الكتب، لكنها تنساب من بين أطراف الكلام.
لطالما وجدت متعة كبيرة في مشاهدة الحوارات مع العديد من الشخصيات باختلاف توجهاتها ومستوياتها الفكرية. حوارات تكاد تنقرض في عصرنا الراهن، مما يضطرني الأمر للتفتيش عنها عبر اليوتيوب أحياناً. وكم أستأنس حينما أقود السيارة وحدي، ويبث صدفة حواراً قديماً عبر البي بي سي الإذاعية.
بالرجوع لزيدان، استطعت مثلا أن ألتمس مدى اطلاعه وخبرته في مجال الفن والحياة بشكل عام. وبهذا بدا لي أكثر اقناعا كفنان لأن دوره لا يتمثل في تقمص الأدوار المسنده إليه فقط، بل في كونه يفهمها جيداً، ويدرس ظروفها وما يحيط بها اجتماعياً وسياسياً، معتبرا كل دور أداه بمثابة رسالة هامة يجب أن تصل المشاهدين وتؤثر بهم.
في أحد ردوده قال زيدان متهكماً: (نعم، لم يلق مسلسل “أخوة التراب” سيطاً واسعاً لأنه يبدو أن الناس غير مهتمة بقضايا التاريخ العربي، لكنهم وجدوا أموراً أكثر أهمية لعرضها على الشاشة). وفي تحدثه عن نشأته قال: (أنا تربيت ونشأت ضمن نسيج اجتماعي بسيط، حياتنا كانت تتسم بالبساطه، لدرجة أنه عندما فتح محل لبيع الساندويشات في الحي الذي كنت أقطنه، اعتبر أهل الحي هذا أمر جلل، فإذا تمّ ضبطك تشتري ساندويشه من ذاك الكشك المغطى بالستائرفأنت في عداد المتكبرين.. وروايتي لهذه القصة ليست غزلاً في الماضي لكن بي حنين شديد إليه).
لا شك أن كلاماً كهذا يجعلك واقعاً في شباك هذا الفنان، وستحظى أعماله عندك باحترام وفضول كبيرين. يحضرني أيضا هذا القول من إحدى مقابلات المفكر إدوارد سعيد قال فيه: (أنا أعيش في أمريكا منذ أكثر من خمسين عاماً، لكني لا زلت لا أشعر بأي انتماء لهذا المكان). لعلي نسيت جزءاً كبيراً من هذا اللقاء لكني احتفظت بهذه العبارة، وكما أشرت سلفاً ذاك شأن الذاكرة.
من بين اللقاءات الجميلة التي لا تمل كانت مع الفنان الراحل عمر الشريف، حوارات صريحة بلا تزييف أو مبالغة في القلق من الكلام، يتحدث بكل شفافية عن تجربته ولا يتوانى في ذكر بعض قصصه الشخصية بشكل كوميدي خفيف بلا أي تصنع، وتبرز (مصراويته) في أغلب لقاءاته رغم إنه فنان عربي نجح في بلوغ هوليود، لكنه لا يتوانى أبدا في الحديث عن مصر الأم ومدى فخره، وولعه بها. كما أستذكر حواراً قديماً للشاعر الأمريكي الراحل بيكوفسكي، سألته فيه المذيعة: “ماهو الحب؟”، فرد قائلاً: (الحب: هو الضباب الذي تلمحه في السماء قبل شروق الشمس، لكنه يحترق، يختفي ما إن يظهر أول ضوء في الصباح).
على ضفة أخرى هنالك لقاءات مخيبة للآمال، تحوّلت شخصياتها عندي لحالات غير مقنعة بعد الكلام. في أحد اللقاءات قال الفنان الراحل ملحم بركات عندما سألته المذيعة عن المرأة وكيف لها أن تحافظ على علاقتها بزوجها، ردّ بنبرة متعصبة وساخرة: (المرأة هي التي تحافظ على جمالها وتعمل رياضة وتنظف ورا أذنها، نعم المرأة هي نظافة وجمال!!) وكأنه بهذا الرد مندوباً يعمل لصالح شركة صابون الجسم.
وفي ردّ مستفز آخر أجابت الفنانة نجوى كرم عن سؤال حول حقوق المرأة فقالت: (أيه ما لازم حقوق المرأة تزيد عن حدها، المرأة الحقيقية هي اللي بتنظف البيت وتشتغل ببيتها وتطبخ لزوجها وتلبي طلباته وتشوف الأولاد!). والحق يقال إني لا أستطيع تجاوز هذا النوع من التصريحات، ولا فصلها عن شخصية الفنان الذي يغني مزهواً بنفسه على المسرح لكنه يعاني خواء على المستوى الفكري. عندي هو سبب كافي لأن يتجرد هذا الفنان من رداء الفن.
وكما قال سقراط: (تكلم حتى أراك).. نخلص إلى القول بأن أهمية الكلمة تبرز في ترسيخ مكانة الفرد، سيّما إذا ما أراد لنفسه أن يكون فناناً أو شاعراً أو أديباً. ما يعني أنه سيكون فريسة سهلة للانتقاد، كل جملة سيتفوه بها قد تخلق انطباعا حسناً أًو سيئاً عنه، وعليه أن يدرك كيف له أن يستغل موقعه في التأثير بالكلام. هذا الكلام الذي قد يرفع من شأنه، ويعزز صورته الإعلامية.
الحقيقة أن مشاهدة الحوارت رافد ثقافي جيد للتعرف على شخصيات كثيرة عن قرب، سيما حين لا تتيح لك انشغالات الحياة مجالا كافياً لقراءة الكثير من الكتب. تلك محاولة لقراءة وفهم تفكير شخصيات متنوعة، التعرف على فلسفتهم في الحياة، أرائهم حول قضايا واعتبارات تجري على الساحة. لكن الحديث مهارة، والكلمة قوّة، ولعل سبب عزوف بعض الشخصيات عن إجراء حوارات هو الجهل أو الخوف من سحر الكلام.