-ألو، مرحبًا عبادي.
-هلا حسون. ويش صاير!
-عصفور طاير فوق المناير. اسمع عبادي، عندي ليك خبر.
– ويشهو هالخبر؟
– حوطة البونيان.
– ويش لك بهم، هالبكوان.
– ما علينا من ديانتهم، بكرا عيد عندهم.
– زين. واحنا نعيّد وياهم يعني!
-لا… لكن نحشر روحنا معاهم، ماسمعت: حشر مع الناس عيد.
– حسون. مافهمتك زين.
– بكرا مر علي العصر وبتفهم السالفة.
أعرف حسون، حياته كلها مغامرات. هذا الصديق المنبسط دائمًا، مشرق الوجه، يتحيّن الفرص ليؤثث فضاءات الفرح في نفسه وصحبته.
قصير، رأسه مزروع وسط كتفيه، حتى ليكاد يلتصق، أظن أنه بدون رقبة! أسمر البشرة، عينان سوداوان لا يغادرهما الفرح. شعر قصير، أنف مضحك.
كأنه نبع فكاهة لا ينضب. حتى في لحظات الحزن، يصطاد دعابة من هنا وأخرى من هناك. يعيش الحياة يومًا بيوم، فلسفته البسيطة..استمتع بيومك وكفى.
للمغامرات طعم ومذاق آخر بمعيته. هو إيقاعها الموسيقي.
اليوم الجمعة عصرًا، موعدنا. ها أنا أطرق بابه.. طق طق طق، هذه أيضًا شفرتنا المشتركة.
يُفتح الباب، يُصافحني وجهه:
هلا بالعُبِد.
أخذني بالأحضان كعادته. لحظات ودلفنا معًا أزقة ودواعيس المنامة. مسجد الباخشة أمامنا وعلى اليسار البيت العود، جزيرة صغيرة وسط المكان، يحيطه شارع، يتفرع إلى طريق، فداعوس. الزقاق الضيق يلقينا بمواجهة ماتم الحاج عباس، نتجه إلى الأمام، ماتم النساء على يسارنا، بضعة أمتار ونتخطى المسجد والماتم الآخر. هنا بضعة بيوت، بعدها دكان سلمان حمادة على الزاوية. شرب الشربت هنا يعادل في مشهديته آيسكريم بكداش في سوق الحميدية بدمشق. حيوية شارع الشيخ عبد الله تبدأ فورة مُمَيزة عند هذه الزاوية.
من هنا تبدأ دكاكين الذهب. تسبقنا أرجلنا للداعوس المؤدي لورش الصياغة. رائحة زنخة وحادة تنبعث، أحد الصاغة يُقلب كرات صغيرًا في آنية كربونية. نغطي أنفينا ونحن نسير. مسجد بشمي على يميننا. دواعيس تسلمك لأزقة ضيقة. تكثر الجالية الهندية في هذا المكان، إنه بومباي مصغرة.
باعة الثياب، بقالات، مطاعم، دكاكين متنوعة. يسارًا، بعد مسافة بسيطة تربض مكتبة العائلة في الزاوية. هذا الزقاق يؤدي إلى معبد الهندوس. اعتدنا تسميته بحوطة البونيان.
أرض خلاء على شماله، مرتفعة قليلًا، هنا مزرعة المفاجآت، بعد الاحتفالات تنبت الألعاب فيها كبراعم متفتحة تحت ضوء الشمس.
زحام على البوابة المشرعة. ضحكات النساء والرجال. النساء بالساري الهندي المميز. الوجوه السمراء. النقطة الحمراء على الجباه.
قفز حسون عند اقترابنا، أصبح قردًا مشاكسًا، شبك يده بيدي، ولجنا المعبد. ألوان الزينات المتدلية من الحبال، خزان القصدير بحنفية نحاسية، نفتحها وإذا بسائل أبيض يتدفق.. حليب.. حليب عبادي!
نشرب حليبهم، كأننا نشرب من ضرع بقرتهم المقدسة. لم نكن نعلم عن ديانتهم شيئًا سوى أنهم يعبدون الأصنام ويقدسون البقر. إنه عيد الأضواء الهندوسي أو الديوالي.
قرع طبول، نهر من الأجساد يتدفق في الداخل، رطنات مختلفة، بوق يضحك فوق سارية، أقمشة متوهجة، لون الفلفل الأحمر والكاري الأصفر.
أغنيات هندية تحوم فوقنا. دخان أعواد البخور تتصاعد إلى السماء، يتفاخر المعبد بحضوره ويتألق. هيكل بشري يلتف بإزار أبيض وتتدلى من رقبته قلادة غريبة، شعر لحيته الكثيف، وشعره المنكوش يوحي بأنه كاهن. أنفه مشكوك بإبرة ذات شكل غريب.
ابتلعتنا الحشود، أتلفت يمنة ويسرة، أبحث عن حسن. أخذت في مناداته:
– حسون. حسون.. حسون.
فجأة انبثق قرب مظلة برتقالية، أعلام هندوسية، قلائد زهور صفراء وياسمين، أوراق شجرة الموز الكبيرة. كان وجهه ملطخًا بالألوان، يتقافز كالسبال ويلوّح أمامي بيديه:
-عبادي. عبادي.. تعال، وحين اقتربت صفعني بورقة مطوية، تناثر منها مسحوق الألوان! أخذت أتقافز معه، نسينا أنفسنا؛ تركناها للمرح، أو ربما هي تركتنا وذهبت تتسكع معهم.
حلّ المساء؛ فرقعت “البواريت”، الألعاب النارية تُشعل السماء. خلطة مُميزة، ألوان، أصوات، وروائح، علقت بنفسينا كما بثيابنا. هذه من ثمرات مغامرات حسون الرائعة-قلت في نفسي- وأنا أتشقلب فوق الدعامات الخشبية.
صدح أذان المغرب ونحن نلهو. عبادي أخذ يمسح وجهه وهو يسحبني للمغسلة. غسلت وجهي معه. رجعنا سعداء. عندما دخلت البيت رآني أبي ففزع.. رائحة البخور، آثار الألوان فضحتني. تلقيت صفعة أدارت رأسي:
– هايم والأذان أذّن والناس صلّت. وجهك مخربش بالألوان.. كم مرة قلت لك لا تتسكع معه. هذا ما يفهم كوعه من بوعه.
– رحنا الاحتفال.
– أي احتفال؟
– صوب حوطة البونيان.
اتسعت عيناه وتطاير الشرر، لطمة أخرى تلقيتها:
– رايح تحتفل مع الهندوس.. أسود الوجه.
لا زلت أشعر بالصفعة، رغم مرور السنين. ربما كان والدي مُحقًّا يومها. أقول في نفسي: لو قرأ الكتاب الذي في يدي، لصفعته دهشة “أمة من العباقرة”، هؤلاء هم البونيان يا أبي.