في عام 1986 أصدر الاتحاد العام للكتاب والصحفيين الفلسطينيين الطبعة الثانية من ديوان الشاعر الشهيد سعيد العويناتي: “إليك أيها الوطن.. إليك أيتها الحبيبة”، الذي كانت طبعته الأولى قد صدرت في البحرين عن دار الغد عام 1976، أي في نفس العام الذي استشهد سعيد في نهايته، وقدّم للطبعة الثانية الشاعر العراقي الكبير سعدي يوسف الذي توفي الشهر الماضي، ويذكر أنه أضيفت إلى هذه الطبعة ثلاث قصائد، كتبها سعيد بعد صدور الطبعة الأولى، ويعتقد أنها آخر ما كتب.
في استذكار للشاعرين سعدي وسعيد، تعيد “التقدمي” نشر المقدّمة التي كتبها سعدي يوسف للطبعة الثانية من “إليك أيها الوطن.. إليك أيتها الحبيبة”.
المحرر
في أواسط السبيعينات، وببغداد..عرفته.
أيامها، كنتُ في “المركز الفلوكلوري”، بعيداً عن الضجيج منصرفاً عنه إلى ضجيج خفىٌ في الروح ربما كان أعلى صوتاً.
أتذكر أن سعيداً نشر آنذاك قصيدة في صحيفتنا اليومية، وكان للقصيدة مفاجأتها، لديٌ، أنا الذي اعرف من أهل الشعر في البحرين أسماء محدودة عزيزة، ليس بينها اسم سعيد العويناتي.
أسررت لصديق رغبتي في التقاء الشاعر الشاب. ولم تمرٌ ايامً عديدة، حتى التقيته، حيث كنت أعمل. كان ذا صوت واضح خفيض، وعينين مستقرتين، وتواضع مكتملٍ. تحدثنا عن الشعر في البحرين، وعدني بأن يزودني مما لديه من مطبوعات متصلة بحديثنا. وقد برٌ بوعده، بل قدٌم لي أكثر مما اقتضى الوعد: ديواناً من الشعر الشعبي أيضاً.
وتوالت لقاءاتنا حتى تواترات، وحتى أخذ يطلعني على قصائد له جديدة، وكنا نتداول أمرها، ونتداول الأمور بعامة، ثقافة وسياسة، وأنباء عن البلد المحتدم.
وكنت أعجب لهدوئه واستقراره وثقته، في وقت لم تكن الأيام، هناك، مدعاة هدوء واستقرار وثقة.
قال لي يوماً إنه سيذهب إلى أوروبا، أوروبا الاشتراكية في الغالب، ليتابع دراسةً، وكان النبأ مفرحاً.
ثم جاءني يوماً، مودعاً.
إلى أين؟ أللدراسة؟ قال نعم، لكني سأزور البحرين زورةً قصيرةً، أرى فيها الأهل والأصدقاء، وبعدها أذهب إلى حيث استكمل دراسة. وكان حدثني عن صحيفة هناك كتب فيها.
سألته إن كان مطمئناً إلى رحلته. قال، انه لن يطيل المكث في البحرين:
هكذا كان الوداع.
سعيد العويناتي أطال المكث في وطنه.
سعيد العويناتي قتل في 12/12/1976
سعيد العويناتي هُشمّ رأسه تعذيباً.
في ديسمبر 1976، كان شاعر هو عبد اللطيف اللعبي، سجيناً في السجن المدني بالقنيطرة (المملكة المغربية) يقول في رسالة موجهة إلى ولده ياسين، مؤرخة في الثامن والعشرين من ديسمبر1976: “أن تكتب معناه في العمق، أنك تتقاسم مع الآخرين شيئاً ما. كما لو أنك توجه الدعوة للتفاهم والمحبة والإقدام على فعلٍ ما”.
سعيد العويناتي في ديوانه الوحيد (اليك أيها الوطن….إليك ايتها الحبيبة)، يحقّ له أن يعتبر ما كتبه عبد اللطيف اللعبي موجهاً إليه، فهو، شأن شأن الناس، يتقاسم مع الآخرين شيئاً ما، إلا أن ما يتقاسمه مع الآخرين هو الأمر الصعب، هو الاختيار العذب والقاسي في آن. هذا الاقتسام يستغرق المجموعة، ابتداء من “زويا” حتى القصيدة الأخيرة “للخروج من الصمت”، ولسعيد مدخله الأثير هنا، مدخله الذكي؛ انه يعتمد الشخصي أولاً، لينطلق منه. من هنا يأتي الإقناع في النص الشعري.
حين أدقّ عليك الباب فتفتحه
ادخل مرتعشاً، في عينيك كتابك
أو مبتلاً بالمطر النازل من سعف النخل
ومن زرقة ماء البحر
هل تذكر ذلك؟
“حين اردٌ الماء مرتعشاً”
حتى في الموضوع الذي يستلزم صراحة اكبر، وتعجُّلاً نحو العام، نجد سعيداً يتأنى، ويظل أميناً إلى مدخله الأثير، قد تنتهي القصيدة بالهتاف أو الصرخة، لكن هذين لا يأتيان إلا بعد جهد بذل، قدر الإستطاعة، بحيث تجد الانتقالة تبريرها. في قصيدة “أغنية إلى الكوكب المتواري” يكون المدخل المشترك ذكرى الطفولة.
هل تذكر تلك الريح البريّة
يا من كنت معي فوق رمال البحر
وفي الطرقات تغني
والأطفال عصافير تسرح فيما بين العامين.
وترسم لوحات للنخل المتمدد من آلاف السنوات
بهذي الجزر المملؤة بالأصداف..
ويتدرج في تصعيد الذكرى، وتوظيفها، لينتقل إلى الحدث، إلى “الإقدام على فعلٍ ما” كما يقول اللعبي، ويأتي التصريح تلميحاً ذكياً في نهايات لقصيدة؛
هاك سماء بلادي
خذها لك
يامن كنت على مقربة منا
والفتيات يطفن بباب البحرين
يرددن هتافاً يحمل اسمك ..
على أي حال، لا أريد أن أحمّل سعيداً فوق طاقته. لا أريد ان أقول إنه شقّ طريقه حتى النقطة التي نتوقف معه، عندها، طويلاً. لقد استشهد، وهو في أوائل بحثه الشعري. أقول: بحثه الشعري، لأنه كان يبحث، حقاً، عن قصيدته. وفي ديوانه أمثلة قليلة على بحث متجرد طموح، قصيدته “لحظة تأمل في الذاكرة” أنموذج لما كان يمكن أن يُشكّل (بعد جهدٍ طويل) ملمساً متميزاً لأنامل الشاعر.
في إحدى قصائد ستيفن سبندر، نجد المقطع الآتي:
نظرتُ من النافذة.
إلى خواء عالمٍ يتفجر.
الأحجار والحصا، مقذوفة، نافورة إلى اعلى
تميل بها الريح
جفّ من ذهنك كل احساس
سوى أنك وحيد
لاشيء ثابت لتثبت عليه العينُ
صرت، ثانيةً، طفلاً.
يرى للمرة الأولى كيف تحدث أسوأ الأشياء.
كان قدر سعيد العويناتي، ليس أن يرى للمرة الأولى “كيف تحدث أسوأ الأشياء”. كان قدره أن يرى الأشياء السيئة تحدث آلاف المرات، وكل يوم بحيث لم يعد فيها ما يدهش، او يفاجئ.
والطفولة (طفولته، المفعمة برائحة البحر والنخل والمطر، الطفولة التي كانت مدخله إلى القصيدة، والحياة…) رحلت مبكرةً، قبل أن يستنفذها، أو يمضي طويلاً في استكناهها واستخدامها. والوحدة، الضرورية للشاعر فنياً، وجدت نفسها متنحية إزاء ضرورات أكثر الحاحاً.
بالرغم من هذا كله، ظلّ الشعر لدى سعيد هاجساً شديد الالحاح، هاجساً أول، بارزاً تماماً بين الأولويات العديدة.
***
يقول هنري ميللر “إن فعل القتل، سيبلغ غايته سريعاً، وعندما يختنق صوت الشاعر، يفقد التاريخ معناه، وينفجر وعد الدينونة، مثل فجر جديد مخيف، على وعي الإنسان”.
***
في محاكمة غرامشي، قال له القاضي: “إني أريد أن أعطلّ هذا العقل عشرين عاماً”. وحكم عليه بالسجن تلك الأعوام.
وفي البحرين قتلوا شاعراً شاباً، كي يعطلوا تطوّره اللاحق الأكيد.
***
وفي الذكرى العاشرة لاستشهاد سعيد العويناتي، ومع صدور الطبعة الجديدة لمجموعته اليتيمة، يحقّ لنا القول إن فعل القتل لم يبلغ غايته، ما دام سعيد العويناتي في أفئدة شعبه ورفاقه. وسنظل نتابع مآثره وآثاره، ولن تظل المجموعة اليتيمة يتيمة، فطبعتها الجديدة تضم ثلاث قصائد مضافة لسعيد، ثلاث شارات له، ثلاث شارات إلينا.
سعدي يوسف
30/12/1986