في رواية “موت صغير” الحائزة على جائزة البوكر لسنة 2017 والتي تتحدث عن سيرة الشيخ محيي الدين ابن عربي، تُخبره شيخته فاطمة بنت المثنى حين كان سالكاً في طريق الاستقطاب بأنه لبلوغ وتده – والوتد هنا هو المرشد الروحي – عليه أن يُطهر قلبه، فيعمل ابن عربي على تطهيره من جميع المفاسد إلا أن الوتد لا يجيء ولا يفصح عن نفسه. تسأله الشيخة: كيف طهرّت قلبك؟ فيجيب: “حمَّلته على مكارم الأخلاق وصفاء السريرة وحسن النية حتى صيرته رافضاً كل صورة”. فردت عليه الشيخة بأن تلك نصف الطهارة، ولكي تتم نصفها الآخر عليك أن تصير قلبك قابلاً كل صورة.
قدّمت لنا تجربة ابن عربي في تاريخنا الإسلامي نموذجا سامياً للإسلام الروحاني الذي يتخطى الاختلافات ويرى الواحد في الكثرة، حيث صار قلبه وصيّر قلوب الكثيرين قابلة لكل صورة. علاوة على وحدة الوجود عند ابن عربي، أسس شيخ آخر يدعى حمدون القصّار طريقةً أخرى في تهذيب النفس، إنه يقول: “إذا رأيت سكراناً فتمايل لألا تبغى ويبغى الناس عليه”. أي تمايل مع السكران لكي لا تجعله وحيداً في الساحة وتحرض الخلق كما تحرض نفسك على الطغيان والظن بأنَّك ومن معك أفضل منه. عرفت الطريقة القصّارية بالملامتية أيضا، لأنها تقوم على لوم النفس والانشغال بتهذيبها للوصول إلى السمو الروحي: “من انشغل بذكر عيوب الناس شغلته عن ذكر عيوبه”.
هذه هي القاعدة التي جاءت منها أيضا نصيحة اخوان الصفا في تهذيب العلماء حين قالوا في رسالتهم الموسوعية التي ضمَّت من كل علم شيئا: “ولا تشتغلن بذكر عيوب مذاهب الناس، ولكن انظر هل لك مذهب بلا عيب!”. ولما سألوا الحسن البصري: من شر الناس. أجاب: “من ظن أنه خيرهم”. وصدقاً ما قال، يوجد الكثير من الشر حين نرى الخير الذي فينا.
إن القيم الأخلاقية تشكل عُصابا عند الكثير من الناس يدفعهم نحو الطغيان الأخلاقي مع من هم دونهم، إلا أنهم امام التعامل مع غيرهم يسقطون سريعاً في المستنقع ليبينوا لنا كيف أن هذه القيم تحمل في طياتها ذاتاً متضخمة تسقط بها للأسفل. إن هذا العُصاب يجعل بيننا وبين الفهم حجاباً لأننا دائما في حال محاكمة للآخر.
في حياتي كان للطغيان الأخلاقي حضوراً منذ الطفولة، كان لنا في القرية جار مدمن على شرب الكحول، رحمه الله، توفي وحيداً قبل سنوات، ولم تكن له زوجة تعينه على مشاق الحياة، أما جنازته فكانت صغيرة على قدر التابوت. عرفناه رجلاً في حاله، لم يؤذِ أحد لكن الكثير كانوا يؤذونه إن لم يكن بالفعل فبالقول، وإن لم يكن أمامه فمن خلفه. يوم كنا صغاراً لعبنا بمحاذاة منزله، كان يجيء إلينا من مقرّ عمله بالمطار محملاً بأشياء تُسعدنا، ألعاب ومأكولات، وعرفت منه لأول مرة طعم سندويتشات المارتديلاً، أما حين كان يعطيني شيبس الفونزيس كانوا يأخذونه مني ليغسلوه سبعاً بغية تطهيره من النجاسة! كبرت وأدركت أكثر كم أن القلوب الطاهرة لا تنجسها النجاسات الخارجية، بينما نجاسة القلوب لا يمكن تطهيرها بالأردية والاغتسال، فأخطر النجاسات لا تأتينا من الخارج بل ما ينبعث من الداخل.
في إحدى السنوات قبل وفاته حدث جدال بين اثنين من أقاربي على إثر دخول جارنا هذا مأتماً. كان أحدهما أكثر تشدداً من الآخر فقال بأنه لا يمكن “للخمار” ان يدخل المأتم لأنه ينجسه، ويسيء للمأتم وسمعته أيضا. بينما قال الآخر: لِم لا، عسى أن يكون دخوله باب هداية له. أما أنا فكنت أرى المأتم باب الله المفتوح الذي يسع العالم كله، سواءً اهتدى الداخل إليه أو لم يهتدِ، فمن ذا الذي يخلو من المعاصي. ومن ذا يعرف من هو الأكثر مقربة إلى الله. أشيخ المنبر أكثر طهراً أم هذا الخمار. من يدري؟!
في واحدة من أبرز الحوادث التي شهدت فيها طغيانا أخلاقيا فاقعاً كان حين استيقظت في صباح الخامس عشر من يونيو الماضي على خبر انتحار الناشطة المصرية المدافعة عن حقوق المثليين سارة حجازي، أخذت اتصفح التعليقات على خبر الوفاة فكانت معظمها تتمنى لها جهنم وبئس المصير، وأخرى تكيل على قبرها سيل لعنات لا نهاية لها. كانت التعليقات بعد مماتها كافية لمعرفة السبب الذي قادها للانتحار. قلت: نحن أيضا شركاء في الجريمة. نحن من قتلنا سارة، لم تقتل سارة نفسها.
في معرض حديثنا عن سارة حجازي وتهكمي من تنمر الناس عليها وهي جثة تحت التراب، قال لي أحد الأصحاب في محاولة لاستفزازي: “لا تأخذ الموضوع من ناحية شخصية، ولكن لو كان ابنك أو ابنتك لديهما هذه الميول هل ستقبل بذلك؟”.
البعض لا يدرك لحد الآن أن هذه معاناة جسدية حقيقية، لا يستطيع البعض تحديد جنسه حتى في أبسط الأشياء مثل دخول الحمامات العامة: هل علينا دخول حمامات الإناث أم الذكور؟ فإذا كان هذا يحدث على المستوى الجسدي فكيف بالمستوى الذهني الذي لا ينفصل عن الحالة الجسدية؟!
إن كل هذا الخوف من الهوية الجنسية والميول المثلية يتعلق بالنظر إليها كمرض معدٍ سينتشر سريعا بين الناس، وبأنها مسألة منافية للأخلاق لأنها خارجة عن القانون الطبيعي، ولكن هل هناك قدسية للقانون الطبيعي؟ وهل هو بهذا الجمال والحدية؟ ألا تخرج من هذا القانون الطبيعي اعاقات جسدية ظاهرة وتشوهات وطفرات جينية يصعب علاجها أو يؤدي علاجها بالخطر على حياة الإنسان؟ لن أطيل هنا لأشرح درسا في الجندر، بل لمن يريد ذلك عليه أن يرجع للأبحاث العلمية التي تفسر العشوائية في الطبيعة وتعدد الهويات الجنسية التي فيها، ليس في عالم الإنسان فقط بل في عالم الحيوان أيضا.
لأردّ على سؤال صاحبي الذي أراد به استفزازي كان علي أن أقارب مقاربةً قد تبدو للبعض ساذجة، إلا أنها تجيء بفائدة خصوصا مع أولئك الذين ينظرون للمثلية كتشوه في الصورة التي يجب أن يكون عليها الرجل والمرأة. أردت من صاحبي أن يتخيل ابنته وهي تعاني من تشوه خلقي ظاهر على بدنها، ويصعب علاجه او تجميله، أعتقد أن كل أب سيصاب بحرقة وسيبحث عن حل عند الأطباء في محاولة لجعل ابنته كغالبية الناس، ولو أن هذه الابنة تعرضت للتنمر الاجتماعي ألن تكون حرقة كل أب أكبر، ليس بسبب مظهرها بل بسبب ما تتعرض له، سيحاول كل أب الوصول لأي من أولئك المعتدين وتلقينهم درسا؟!
ما أضيقنا نحن الذين نستيقظ صباحا لنقرأ خبرا عن شخص ميت لا ندرك عن معاناة أهله وموته وحياته شيئا، ولا ندرك ما الذي كان يحدث حقاً داخل جسده فقط لنشتمه ونكيل على قبره سيل لعنات بينما نستمتع بشرب كوب قهوتنا الصباحي. كم مرة علينا أن نسقط أخلاقياً بحجة أننا ندافع عن الأخلاق. من يدافع عن الأخلاق حقاً عليه أن يتحلى بصفة الرحمة فيرأف بالخلق. وحين يبرز جيش الرب عليك الا ترفع سيفاً بل قدّم قربة ماء واسقي العطاشى في الطريق من المساكين والمعدمين الذين لا يلتفت إليهم أحد، لأن الله ليس بحاجة إلى جنود كالسلطان، إنما إلى القلوب الرحيمة التي تهوّن على الإنسان مشاق الرحلة الدنيوية.