ها أنا أعيد إكتشاف القاهرة المدينة التي سحرتني وسحرت كثيرين قبلي منذ فجر التاريخ، من مكتشفين ومؤرخين وعلماء أنثربولوجيا، ومغامرين ورومانسيين وحالمين غذوا المخيلة العالمية بكتاباتهم على أنواعها. جوستاف فلوبير، بيير لوتي، جيرار دي نيرفال، وآخرين. أو حتى بمرورهم مثل جان بول سارتر وسيمون دي بوفوار اللذين اعتُبِرت زيارتهما للقاهرة حدثا تاريخيا في ستينات القرن الماضي.
سنة 1956 ولد أنتوني ساتين في لندن، مارس الصحافة في أهم عناوين بريطانيا، الديلي تليغراف، الجارديان، والبي بي سي، و قد قاده افتتانه بالعالم العربي وإفريقيا إلى القاهرة، وهناك أصيب بلمسة السحر التي تصيب أغلب زوارها. لكنّه سيسلك طريقا مختلفة، ستصبح معبّدة لعشاق الأدب وسحر الشرق معا. سيروي لنا حكاية شابة إنجليزية صعدت على متن باخرة متوجهة إلى الإسكندرية، بحثا عن شيء تفتقده في ذاتها، وعلى تلك الباخرة من الإسكندرية إلى القاهرة العام 1849 تلتقي بشاب فرنسي يقاربها في العمر وبالكاد يبلغ الثلاثين، يبحث هو الآخر عن شيء يحرّك بحيرة إلهامه الرّاكدة.
بعد سنوات سيدهش كلاهما العالم بعد تلك الرحلة التي وثّقها التاريخ، ولكن أنتوني ساتين سيعيدها للأذهان بالشكل الرومانسي الأدبي الذي يليق بها لفتح باب القاهرة الساحر على مصراعيه بطريقته، وليسجل هو الآخر أكبر نجاحاته في مسيرته المهنية والإبداعية بكتابه “شتاء على النيل” منشورات هاتشينسن 2010، والذي أعتبر أفضل منشورات ذلك العام من طرف عدد من الصحف، وقد وصف ب “انتصار الخيال التاريخي”، وقد كتب جايلز فودين في مجلة “كوندي ناست ترافيلر” واصفاً أنتوني ساتين بأنه أحد المؤثرين العشرة الرئيسيين في كتابة السفر الحديثة.
هاذان الشابان هما فلورنس نايتنجيل الملقّبة بالسيدة حاملة المصباح، والكاتب الفرنسي غوستاف فلوبير، اللذان جمعتهما تلك الباخرة شتاء 1849 ووضعتهما على موعد مع قدر استثنائي، فالأولى ستصبح أول من وضع قواعد التمريض الحديث وأسس التطهير والنظافة والإغاثة في المستشفيات، والثاني سيصبح كاتب “مدام بوفاري ” الشهير.
من الإسكندرية إلى “أبوسمبل” يعيد ساتين تركيب حكاية هاتين الشخصيتين الإستثنائيتين بوتيرة بطيئة لكن مدهشة، واصفا بدقة لا متناهية المكان الذي منحهما الكثير من المعرفة والشغف ووهب كليهما النّبضة التي لم يتوقف وهجها أبدا حتى وفاتهما فيما بعد.
هل تتخيلون قصة حب من نوع آخر؟ قصة رجل وامرأة لم تجمعهما علاقة مباشرة قط، ربما التقيا على متن الباخرة، وتبادلا التحيات، والإبتسامات، وبعض الكلمات، شاب فرنسي أنهى دراسة الحقوق ينتمي لعائلة بورجوازية كاثوليكية، وشابة إنجليزية من النبلاء كسرت قالب التقاليد التي ترفض تعليم البنات آنذاك وتحتقر مهنة التمريض، وقبل أن تطأ أقدامهما أرض مصر، كانا متعبين، تملأهما الشكوك والمخاوف من الحياة، فلوبير بمعاناته الخاصة من مرض عصبي، وفلورنس من قلقها تجاه أسباب وجودها كأنثى في عالم يرفض كيانها الحر. التقى الإثنان فعلا وعاشا قصة حب خرافية من نوع آخر حين تعلّق قلباهما بشمس مصر، وهوائها، وبالتأكيد بالسحر الذي لم يكن له أي تفسير، فقط هو شيء ثمين ولد فيهما وقادهما نحو عوالم يملأها النّور.
إفتتان فلوبير بالشرق سيسكن أدبه إلى الابد، سنجد آثاره في كل ما كتب، لقد كتب في مذكراته المجنونة: “حلمت دائما برحلات بعيدة نحو الجنوب، رأيت الشرق بقصوره ورماله اللامعة الشاسعة تدوس عليها جمال بأجراسها النحاسية، رأيت خيولا تقفز في أفق تلونه شمس حمراء، رأيت أمواجا شديدة الزرقة، وسماء زرقاء نقية، ورمالا فضية، ونساء سمراوات بعيون جريئة يعانقنني ويتحدثن معي بلغة الحوريات”.
لنقل إن هذا الحالم تأثر بأكاذيب شهرزاد، ولنعتبر كل ما كتبه عن النيل والأهرامات وسماء مصر وحورياتها كان وهمه الخاص، فقد نفته سيمون دي بوفوار في مذكراتها حين وصفت النيل بالنهر العادي، مستغربة من أين استمدّ شهرته، فهل نصدّق هذه السيدة المفتونة فقط بوجه سارتر ومحتويات رأسه؟ سارتر الذي أدهش العرب بمواقفه ورفضه لجائزة نوبل؟ أم نصدّق من يتأففون من واقع مصر بعد مئة وسبعين سنة من أيام فلوبير فيها، أم نصدق ساتين الذي اقتفى آثار شخصيتين عاشتا في مصر وتشبعتا بسحرها؟ وكل ما كتبه انطلاقا مما لمسه هو من جمال البلد وطيبة أهله، قبل العثور على مراسلاتهما وإعادة حبك قصته حسب رؤيته الخاصة لماضي مصر وحاضرها؟
حسنا لقد كتبت فلورنس نايتنجل في أواخر فبراير 1850 في إحدى رسائلها: “وداعا يا نبيلتي الجميلة، يا فقيدتي مصر، ا بلدا شهد ولادة جنسٍ من العمالقة، عمالقة في الحرب، والعلوم والفلسفة، وداعاً، لا ندم ولا ألم، باستثناء الألم الشخصي، فلا شيء حزين على بقايا هذا البلد مثل نهره الجليل المنسكب على شواطئه وأخصب العالم”.
صحيح أن “نيويورك تايمز” كتبت أن “رسائل فلورنس أهمّ وأجمل وأكثر إثارة للإهتمام من رسائل فلوبير ومذكراته الفوضوية، فقد كتب بشكل جيد عن المواخير، فيما كتبت هي عن المعابد بشكل أفضل”، لكن كلاهما توقف مدهوشاً أمام قباب النور الذهبية والمآذن الخزفية، والجبال الجرداء التي تخفي بساتين في جنباتها، وأغاني الحب الكثيرة جدا، أكثر من أكواخ الخيزران، والمقابر القديمة والأديرة.
نجد كل هذا في أدب فلوبير، وفي رسال فلورنس، يلتقيان على مساحة شاسعة من الكلمات، على طريق عبّداها باللغة نفسها، لغة الإمتنان للأرض الملهمة لهما. “إستمع أيها المفكّر، سوف يروى عطشك، وستكون حياتك كلها كالحلم لأنك ستشعر بأن روحك تذهب إلى النور وتطير في اللامتناهي” وردت هذه الفقرة في كتاب فلوبير “التربية العاطفية” وهي تشبه كثيرا ما كتبته مرارا فلورنس في رسائلها…
هذا الإكتشاف المتأخر لي وليد زيارتي لقرية “تونس المصرية” التي أصبحت مقصدا لمبدعين أجانب، وجدتهم مقيمين فيها للإمتلاء بالضوء وخامات الطبيعة التي لم يفسدها زحام وضجيج مدنهم، هم القادمين من بلدان الغيم والضباب والشمس الخجولة والبرد والثلج والصقيع.
وجدوا في مصر في هذه القرية البهية دفئا لا وجود له في أوطانهم، في رحلة تقلب مفاهيمنا رأسا على عقب، نحن الذين يتدافع أبناؤنا في ربيع العمر عبر قوارب الموت إلى الأوطان التي تركوها.
تحدٍّ كبير رفعه المهندس المعماري حسن فتحي ونجح فيه، بيوت بقباب من طين، جذبت السواح والفنانين والمبدعين، واتسعت حتى أصبحت مدينة صغيرة بشهرة عالمية، لها مهرجانها السنوي الذي اتسعت دائرة المشاركين فيه وزواره، وهي فوق كل ميزاتها السياحية والتاريخية والثقافية فهي قائمة على مبدأ إنساني جميل، فقد أطلق عليها مؤسسها إسم “تونس” تخليدا للصداقة التي جمعته بصديق تونسي.
علامات استفهام كبيرة اصطدمت بها أنا المفتونة أيضا بسحر القاهرة وأجواء مصر، كيف تترك أرض الأعاجيب هذه من أجل حياة خالية تماما من الدفء؟
قد تكون أسئلتي استفزازية، لكني أحيا في القاهرة، أعشق ضجيجها، صخبها، يقظتها المستمرة دون انقطاع، ليلها المضيء، ونهارها المفعم بالحياة، أجواءها الرمضانية التي لا مثيل لها في الدنيا، وطرافة أهلها وخفّة دمهم الفريدة.
شوق قديم إلى أيامي الجامعية عشته مجدداً مع فريق تصوير برنامجي الجديد “الملهم”، أعادني إلى أجمل فترة عمرية في حياتي، عمر الفرح الشبابي والمشاكسات اللذيذة والضحك الحقيقي النابع من القلب. طاقة لا يمكنني وصفها رافقتني طيلة إقامتي هذه، ورحلاتي الإستكشافية الجديدة بعد غياب طويل تخللته زيارات قصيرة لم تمنحني الفرصة لليقام بكل ما قمت به مؤخرا.
ثمة زخم في داخلي لكتابة المزيد، إذ يبدو أن ما تخبئه القاهرة أكثر بكثير مما كتب عنها ولا يزال يكتب، إنها ملهمة، وسيدة المدن الساحرة بامتياز.