1.
إن كانت الأرواح لا تفنى، وإن كان الكون لا يضيع ذرة واحدة، وإن كان الـ DNA، هو شريط ذاكرة فوق الوعي للكائنات، فإني أظن التناسخ هو الحقيقة، وهو يأتي بمعنى الارتقاء، فكل روح تفنى، تعود لتعطي رأيا في الحياة، لتصنع الحياة على إثر مليارات التقارير جينات جديدة، مختلفة بدرجات شديدة البساطة في الأجيال اللاحقة، التناسخ إذن هو طفرة معرفية، سبق لها اختبار الحياة وتكوين فكرة عن نواقصها، لكن ليس بالشكل العقلي الواعي، إنما بالشكل الجيني المتكون في شفرات الـ DNA، تناسخ يحدث في أجيال، وأجيال، آلاف وملايين السنوات، لكي يحدث تغييرا بسيطا، وهذا يعني أن فهمي للحياة، وتجاربي، وخبراتي، سيتم اختزالها بشكل لا أفهمه، وكأنه تقرير مشفر، ليستفيد منه الكون في صنع كائنات أفضل، أو حياة أفضل، لا يهم إن حدث هذا بعد ملايين السنوات، لكن، هذا يعني أن حياتي لها فائدة! إنني هنا لأرسل تقريرا للكون عن كيفية العيش؟ إنني بشكل ما مبعوث السماء؟ رسول أو نبي؟ كائن فضائي إنما من الأرض، وللأرض؟ والستون عاما التي سأقضيها هنا، لها معنى! علي إذن أن أجتهد لأفهم الحياة جيدا، ولأعرف بشكل جزئي ما الذي ينقصنا نحن البشر لنكون كائنات أفضل، ولأرسل بعد أن أموت تقريرا مميزا، عن حياتي على الأرض.
المشكلة فقط، أني لا أظن أن تقريري سيلقى صدى، فأنا مؤمن أننا الأجيال الأخيرة على الأرض، وبالتالي لا مجال للاستفادة من تقاريرنا في تطوير نوعنا، لكن ربما يكون هذا هو تقريري.. (أنصحك أيها الكون بإفناء البشرية، واستبدالها بكائنات أحادية الخلية)، ربما نكون الأجيال الأخيرة التي ترسل مثل هذا التقرير، وبالتالي سيقترب موعد التحول القادم.
ياه.. كم أشتاق للحياة في أرض ليس فيها بشر، أرض خالية من هذا الكائن، تعيش فيها خلاياي بذاكرة أخرى وهوية أخرى، فما أنا متيقن منه، أن الارواح لا تفنى، والكون لا يضيع ذرة واحدة، والتقارير التي نرسلها بعد موتنا، هي ديمقراطية الكون.
2.
مثل الجسد، تتشتت الروح باعتبارها طاقة في أرواح أخرى، تذوب فيما سواها بعد أن تنتقل من جسدها في الذي ندعوه اليوم (الموت)، وهي ليست متحكمة ولا واعية في ذاتها، إنما حكمها ووعيها مرهونان بالجسد الذي تملأ، وبصفاته، أي بالخلايا التي تتحد معها، وتشّكل معها الكائن في وقت ما محدد، ونحن باعتبارنا بشراً متكونين، لا نملك الخيار إلا في ظل التكوّن الذي نحن عليه الآن، لكن حين نموت، حين نقدّم تقاريرنا، فإن كل جزء منا خلية أو ذرة أو شيفرة، تكون له حياة أخرى يعيشها، حياة ليست لها صلة بالحياة والذاكرة والتجربة المعاشة سابقاً، لكن مع ذلك، فإنما تكون مبنية على كل هذا، هي جزء منه، ونتيجة له.
إنما الكلام الذي نقوله اليوم، في جزء كبير منه، تجارب لخلايا عاشت قبلنا، عاشت قبل مليارات أو ملايين السنين، جزء منه هو شعورها بالثقل الوجودي، وجزء منه توقها لما هو أفضل، كأنما الكون كله، ليس إلا مجموعة من الأحلام والرغبات والأفكار غير الواعية، تنتقل عبر ملايين السنين، تتضافر، تجتمع، تلتئم حتى تشكل فكرة في رغبة، أو جزءاً بسيطاً من رغبة أو أمنية.
فلنتخيل لو الإنسان كنوع، ظل كل فرد منه، يحلم بالطيران، لملايين من السنوات، فإن هذه الرغبات والأحلام ستجتمع، حتى تشكّل خلية، أو مجموعة خلايا، لتلتئم هي الأخرى، وتكون وقتها قادرة على صنع جناحين للإنسان بعد كل هذا، ولأجل ذلك فإن الأحلام مهمة، ولأجل ذلك فإن المقاومة مهمة، ولأجل ذلك فإن الأفكار مهمة، لأنها ليست أحلامك وحدك، ولا مقاومتك وحدك، ولا أفكارك وحدك، إنما أنت تحمل عبء مئات الآلاف، ملايين الأجيال، من الخلايا، ومن البشر.
3
هل تظن أيها الإنسان أنك وحدك الذي تسجّل لتتعلم؟ باكتشافك الكتابة، والتدوين، حللت جزءاً من اللغز، لكن انظر، ها هو الكون يسجّل فيك منذ ملايين السنوات، أنا جزء من دفتر الكون، أنا كتابة قديمة لا تهمل، في روحي أجزاء من أرواح لم أعرفها، في هذا الجسد بالذات الذي يحملني، هنالك ملايين البشر، الذين عاشوا سابقاً، ملايين الحيوانات والنباتات والأحجار والطين والطمي والماء والتراب والكائنات متناهية الصغر، في رأسي هذا أفكار وأسئلة وأحلام ملايين الناس، ماذا لو تكلم كل ما يشكّلني؟ إنني كلام الآخرين.. لستُ إلا ذلك.. ومع هذا فأنا نفسي فقط، ولا أحد غيري.
***
قرأت اليوم نصاً عن بطريق يتحسر على الطيران، وقلت للشاعر في نفسي: من قال لك أيها الشاعر إن البطريق يرغب في الطيران؟ لماذا تسقط عليه رغباتك؟ أعتقد أن البطريق كان طائراً وتخلّى عن الطيران، ولأنه تخلّى عن ذلك فقد تقلّص جناحه، وتحوّل ريشه إلى مادة شبه دهنية، لقد أعجب البطريق بحياة الجليد، إني أتخيّل أن مجموعة من الطيور حطّت في تلك البقعة، بعضها رغب في البقاء هناك، ولملايين السنوات، أخذت أجسادها تتحوّل، لهذا فإن البطريق إن شاء الطيران مرة أخرى، فما عليه إلا المحاولة، لملايين السنوات الأخرى، وبالتأكيد سيتمكن من ذلك.
***
في الموروث الديني والشعبي، يقال إن الله جمعنا قبل أن يخلق العالم المادي، وخيّرنا في طريقة حياتنا، وأن كل واحد منا قد اختار فعلاً ما يريد أن يكون عليه، فالطائر اختار أن يكون طائراً، والحشرة اختارت أن تكون حشرة، والإنسان اختار أن يكون إنساناً، بل أكثر من ذلك، ذلك الطائر اختار كيف سيعيش، وكيف سيموت، وتلك الحشرة كذلك، الإنسان أيضاً، كل ما حدث ويحدث في الكون يحدث بمحض إرادة هذه الكائنات، ولا إجبار لأي كائن على أي شيء.
أظن أن هذه طريقة رمزية للقول بفكرة التناسخ/ التطوّر والارتقاء.. إننا نحيا ما اختارته لنا خلايانا، وذراتنا، وأجزاء أرواحنا المتعددة، إنه قانون ديمقراطي لكنه مختلف قليلاً، المسألة هنا لا تتعلق بجيل، بل بأجيال، ملايين الأجيال، من الخلايا والذرات، تختار لشكلها اللاحق كيف سيكون، كيف سيعيش، وكيف سيموت.
***
ماذا لو كانت هنالك ديمقراطية تحترم خيارات الموتى؟ توضع مشاريع القوانين وتصوّت عليها الأجيال، أعوام بعد أعوام، وتحتفظ بهذه الأصوات، أصوات الأجيال الميتة. هكذا انتخاب طبيعي، لطريقة الحياة. ديمقراطية ليست للأحياء فقط، إنما للموتى كذلك. ربما يكون في الكتابة شيء من تلك الديمقراطية!
4
يوصف الإنسان الذي لا يستطيع كبح شهواته بأنه بلا إرادة، لكن هذا يثير ارتباكي، ففي حين أن الإنسان الموصوف بالإرادة هو نفسه الذي يكبح شهواته ورغباته المتمثلة في هذه الإرادة، إنه حين يشتهي يشتهي بملء إرادته، وحين يمتنع عن اتباع رغبة أو شهوة ما، فإنه يغالب إرادته هذه، يقمعها، ويسجنها، ليستطيع التوقف عما يريده حقا، علينا أن نصفه إذن بأنه من ليست لديه سلطة على إرادته، أو بأنه صاحب الإرادة الحرة، هذا لا يعني طبعا أن كل من لا يرغب، هو صاحب إرادة خاضعة، الأمر عائد لما يريد كل فرد حقا، وما يرغب في فعله، وما يعيقه عن فعل ما يريد.
5
إنني لا أعرف كيف يموت العصفور، هل يشيخ، يعجز عن الطيران، ثم يموت جوعاً بسبب ذلك؟ لكني أعرف أننا ككائنات بشرية ذات إرادة كما نصف أنفسنا، أطول أعمارا منه ومن كثير من الكائنات، ليس بسبب إرادتنا، وانعدام الإرادة لدى تلك الأخرى، إنما لأننا ببساطة نخضع لإرادة الطبيعة، فيما الكائنات الأخرى، لا تخضع سوى لإرادتها الحرة، طالما لا يعيق هذه الإرادة عائق مادي..
إنني الآن أريد الخروج من العمل، لكن يمنعني خوفي من المستقبل، أن أطرد منه، أن تخصم عليّ يوميتي، هل هذه إرادة حرة؟ أم خضوع لإرادة أعلى! فيما الطائر ذو العمر القصير، يتبع إرادته، ولا يهمه أنها ستقصر من عمره، أو حتى تترك جنسه عرضة للانقراض!
الغريب أننا كجنس عرضة للانقراض، ليس بسبب ما يفعل أغلبنا، إنما بسبب ما تفعله أقلية ثرية، تلوث الكوكب، وتنقص مناعته، وتجعله مريضا.. إننا نبيع حريتنا وإرادتنا بأثمان بخسة، ثم ما نلبث أن نكتشف أننا نحن فقط من ندفع ثمن ما نبيع، يحصل المشتري على المال وعلى البضاعة، وعلى إرادتنا وحريتنا، ونحصل نحن على وهم الطمأنينة!
أعطونا زمنا طويلا بائسا ثابتا في بؤسه، نعطكم لحظات حبنا وسعادتنا وطيشنا ومتعتنا ومغامرتنا، وانعتاقنا.. ماذا نفعل بأنفسنا؟!
قيدونا بالأمان، إننا نقايض العيش بالزمن، الله يعدنا بحياة خالدة، آمنة من النار، في المستقبل، شرط أن نتخلى له عن ذواتنا اليوم، الحبيب يعد حبيبته بالاستقرار، شرط أن تتخلى له عن حريتها، صاحب العمل يعد الموظف بمرتب ثابت آخر كل شهر، شرط تخليه عن أحلامه، الدولة تعد المواطن بالأمان، شرط تخليه عن هويته، من يضمن استمرار الأشياء، ما نحبه اليوم، نعتاده غدا، ونمله بعد غد، الأمان الحقيقي هو أن تكون أنت، مقتنعاً بما تفعل، غير راجٍ منه إلا لذته الآنية، تعبد الله لأن للعبادة لذة الشعور بالذوبان في الكلي، تعشق حبيبتك لأنك الآن تشعر بالسعادة وأنت معها، تعمل لأنك تستمتع بالعمل، تلتزم لأنك مقتنع، لا من أجل شيء وهمي كالزمن، شيء كلما فكرت فيه رأيته حلماً، وكلما أغمضت عينك عنه، صار ماضياً.