وقعت الحكومة السودانية في مارس /أذار الماضي وثيقة اعلان مبادئ مع الحركة الشعبية لتحرير السودان لتمهيد الطريق امام إبرام اتفاق نهائي للسلام من خلال ضمان حرية العبادة للجميع وفصل الدين عن الدولة.
اتفق الطرفان على العمل لتحقيق سيادة السودان واستقلال ووحدة أراضيه، وبناء جيش مهني موحد. كما اتفقا على أن السودان بلد متعدد الأعراف والديانات والثقافات، لذلك يجب الاعتراف بهذا التنوع وإدارته ومعالجة مسألة الهوية الوطنية، وأكدا على تأسيس دولة مدنية ديمقراطية فيدرالية، تضمن حرية الدين والممارسات الدينية لكل الشعب السوداني وذلك بغض النظر عن الهويات الثقافية والإثنية والجهوية عن الدولة.
تذهب بعض التحليلات إلى أن مسألة فصل الدين عن الدولة ليست محل جدل في بلد مثل السودان في الوقت الراهن، وذلك لسبب بسيط هو أن المواطن السوداني أدرك بأنه لا يمكن أن تستخدم النصوص الدينية لاستقطاب الناس العاديين، ولاستنزاف الموارد وأن تكون مصدراً للترويج الإعلامي، وتشويش شخصية الإنسان. فالدين جزء من ثقافة المجتمع وتقاليده وأعرافه، كما أن التنوع في الثقافات أسهم في وجود تنوع عند تناول قضايا الدين.
مقابل ذلك رفض الاتحاد السوداني للعلماء والأثمة والدعاة فصل الدين عن الدولة، متهماً رئيس مجلس السيادة عبد الفتاح البرهان ب”تجاوز حدود ما أنزل الله”. وحينما نتحدث هنا عن العلمانية يمكن القول لا يبدو الأمر بهذه السهولة، باعتبار أن قضية العلمانية والجدل حول هوية الدولة من أكثر القضايا الشائكة، والتي عادة ما يثار انقسام حاد حولها، فهذا الجدل رافق السودان منذ ستينيات القرن الماضي وتسبب بأزمات وصراعات وانقلابات، ودخلت أطراف عربية ودولية على خط التجاذبات الداخلية.
عندما يقال إن العلمانية تقضي على الحروب الدينية وتزيل مسبباتها لآنها تضمن لكل انسان ممارسة نشاطه العقدي يقصد من وراء ذلك أن الدولة لن تتدخل، بل تضمن لكل انسان مزاولة معتقده، فالعلمانية ليست كما يروج لها تجار الدين بأنها ضد الدولة، وإنما هي ضد استغلال الدين.
ومن هنا تكتسب قضية فصل الدين عن الدولة أهمية خاصة في أي مجتمع من المجتمعات، وخاصة تلك التي ما تزال يسيطر عليها الفكر العقائدي، ويكتسب فيها رجال الدين دوراً مبالغاً فيه، مستفيدين من مفهوم القداسة الذي تكتسبه الشرائع الدينية، هذه القداسة التي تسحب من الشرائع ليرتديها الافراد، وبذلك تنتقل سلطة الله إلى سلطة الافراد مما يخلق تعارضاً بين ما هو دنيوي وما هو إلهي، وتسخير الشريعة لخدمة الحاكم، ما يؤدي إلى شكلٍ عميق من الطغيان والاستبداد سينعكس على مقومات الدولة، وحتى سينعكس على مفهوم الديانات بالوقت نفسه.
العلمانية مفهوم ليبرالي يشير إلى فصل الدين عن الدولة، والمجتمع المدني عن المجتمع السياسي، بمعنى ألا تمارس الدولة أي سلطة دينية، وألا تمارس الكنيسة والجامع والمعبد أية سلطة سياسية أيضاً، وربما هذا التعريف منطلق من المقولة الشهيرة التي صاغها محمد عبده: “لا دين في السياسة ولا سياسة في الدين” وكذلك مقولة سعد زغلول الشهيرة “الدين لله والوطن للجميع”.
ولكن هل يعني فصل الدين عن الدولة تنحية الدين عن الحياة الاجتماعية؟ بالطبع لا، فالدين تاريخياً واجتماعياً هو أهم المكونات الهامة للقيم والشعائر والطقوس التي تنظم شئون الحياة الاجتماعية والدينية.
إن فصل الدين عن الدولة والسياسة يعني احترام الدين وقيمه الروحية، ويعني ايضاً حماية الدين والعقيدة من العابثين بهما وعدم السماح باستغلال الدين والشعائر والطقوس من أجل اشباع المصالح الخاصة وبصورة خاصة من تسلط وعاظ السلاطين على رقاب الناس عن طريق رفع شعارات “دينية” لاستغلال عواطف الجمهور، وإقحام الدين في السياسة يهدف دوماً إلى تحقيق مكاسب سياسية واقتصادية وإقصاء الآخر.
صحيح أن الاتفاق بشكل خطوة بالنسبة لمستقبل السودان، ولكن هذا لا يعني أن كل العقبات أمامه قد انتهت، أو سوف تنتهي في المستقبل القريب، لأن ثمة إشكاليات لا تزال تمثل منغصاً أمام الاتفاق بينها. كما تَردد في الصحافة السودانية فإن “تحالف الحرية والتغيير” الذي يضمّ قوى مختلفة ليس على وفاق تام حول هذه القضية، والثانية تخص المؤسسة العسكرية التي تبدو قيادات نافذة فيها بمثابة “الحرس المؤتمن” على الشريعة، والمعضلة الثالثة تتجسد في وجود حركات إسلامية متشددة في دارفور أو غيرها، ربما تجد مبرراً في خروجها إذا احتل فصل الدين عن السياسة الواجهة السياسية وما يترتب على ذلك من توتر يجرف معه ما تحقق من تقدّم على مستوى السلام، ويعيد البلاد إلى أجواء التجاذبات والانقسامات بين الإسلاميين وغيرهم.
الخلاصة باختصار، إن فصل الدين عن الدولة بقدر ما هو مهم لخلق الدولة الحديثة، دولة المواطنة والقانون، سيكون مهماً أكثر للحفاظ على العقائد الدينية بعيدة عن استثمار الساسة.
إن أهمية الاتفاق، كما عبر مؤيدو فصل الدين عن الدولة تكمن في أنه للمرة الأولى في تاريخ السودان يحصل اجماع حول هذه القضية، لأنها تمهد الطريق أمام سودان جديد…سودان يضع خطواته الأولى على طريق الديمقراطية.
السودان وفصل الدين عن الدولة
في ضرورة المادية المناضلة
في ضرورة المادية المناضلة
فلاديمير لينين
ترجمة وإعداد: هشام عقيل
في واقع الأمر ليس كل المساهمين في مجلة (تحت راية الماركسية) [Pod Znamenen Marksizma] شيوعيين، ولكن جميعهم ماديين صلبين. أرى بأن تحالف الشيوعيين بغير الشيوعيين هو ضروري إطلاقاً؛ وهذا هو غاية هذه المجلة بالتحديد. إن أكبر الأخطاء التي يقع فيها الشيوعيون (وهذا عادة ما تقوم به أي جماعة ثورية ناجحة في بداية ثورة كبرى) هو الاعتقاد بأن الثورة لا يقوم بها إلا الثوريين. على العكس، لكي تنجح الثورة لا بد أن يبدأ الثوريون بالاقتناع بإن دورهم محصور في كونهم طليعة الطبقة المتقدمة وعليهم أن يترجموا هذه الفكرة في كل عمل لهم. ومتى تعد الطليعة طليعة؟ حين تتفادى الانعزال عن الجماهير الشعبية، وبالتالي تتمكن من قيادتها إلى الأمام. من دون التحالف مع غير-الشيوعيين في شتى المجالات لن ننجح ابداً.
… من الواضح بأن المجلة التي تعرّف نفسها كمادية مناضلة عليها أن تكون هيئة نضالية في المقام الأول. عليها أن تفضح بلا كلل كل “الخدم الكهنوتيين المختبئين وراء العباءة الأكاديمية” (حسب تعبير ديتزغن)؛ سواء أكانوا ممثلي الأكاديميات العلمية الرسمية أو كتاب أفراد يطلقون على أنفسهم “اليسار الديموقراطي أو أتباع الآيديولوجيا الاشتراكية”.
…إن أكبر الأخطاء التي يمكن أن يرتكبها الماركسي هو اعتقاده بأنه من الممكن للملايين من البشر (وبالأخص الحرفيين والفلاحين) الذي أخضعهم المجتمع الحديث لشتى الأشكال من الظلامية، والجهل، والخرافة، أن يخرجوا من هذا الظلام عبر التعليم الماركسي وحده. على هذه الجماهير أن تزوّد بالمواد الدعائية المادية، وعليها أن تتعرف على وقائع مختلف مجالات الحياة؛ يجب الاقتراب من الجماهير بكل طريقة ممكنة، وذلك لإثارة اهتمامهم وإبعادهم عن خمول الفكر الخرافي وتقريبهم لمختلف الزوايا بمناهج مختلفة، إلخ.
… بالإضافة إلى هذا النوع من التحالف الذي يقام مع الماديين الحقيقيين الذين لا ينتمون إلى الحزب الشيوعي، علينا أن نقيم تحالفاً (وهو لا يقل أهمية) مع علماء الطبيعة المعاصرين الذين يميلون نحو المادية ولا يهابون الدفاع عنها ولا الحديث باسمها ضد التقليعات والهذيانات الفلسفية المثالية المعاصرة السائدة في ما يسمى بالأكاديميا.
إن المقال الذي كتبه تيميريازيف حول النظرية النسبية لآينشتاين (المنشور في ”تحت راية الماركسية“، العدد 1-2) يجعلنا نأمل بأن هذه المجلة ستنجح في تحقيق هذا التحالف الثاني كذلك. علينا أن نعطي هذه القضية اهتماماً عظيماً. علينا ألا ننسى بأن التغيرات الكبرى الحاصلة في العلم الطبيعي الحديث دائماً ما تعطي فرصة لمختلف المذاهب الفلسفية الرجعية الفرصة للصعود، ومعها مذاهبها الفرعية، والموضات الفكرية هنا وهناك. وإذا لم نتابع القضايا التي تطرحها الثورة الحديثة في علم الطبيعة، وإذا لم يشارك علماء الطبيعة في العمل الجمعي في المجلة الفلسفية، لا يُمكن للمادية المناضلة أن تكون مادية ولا مناضلة. لاحظ تيميريازيف في العدد الأول للمجلة بأن نظرية آنيشتاين، التي حسب تيميريازيف لا تمثل تضاداً صريحاً بالنسبة لأسس الفكر المادي، استحوذت من قِبل عدد كبير من المثقفين البورجوازيين في كل البلدان؛ ونضيف بأن هذا لا ينطبق على آينشتاين وحسب، بل على عدد عظيم – وهذا إذا لم يكن أغلب – المصلحين الكبار في مجال علم الطبيعة منذ نهاية القرن التاسع عشر.
ولكي نكون واعين سياسياً تجاه هذه الظواهر، علينا أن ندرك بأن علم الطبيعة، ومعها المادية، لا يمكن أن تكون ثابتة في نضالها ضد هجمة الأفكار البورجوازية وهيمنتها ما لم تكن قائمة على أسس فلسفية صلبة. وشرط هذا هو على العالِم الطبيعي المعاصر أن يتبنى الفلسفة المادية المعاصرة، ايّ المادية الديالكتيكية، وبالتالي يكون مدافعاً عن المادية التي فسرها ماركس. ولتحقيق ذلك سيكون على مجلة (تحت راية الماركسية) أن تدرس بشكل منظم الديالكتيك الهيغلي من منظور مادي، أيّ الديالكتيك كما طبقه ماركس عملياً في كتابه (رأس المال) وفي مؤلفاته التاريخية والسياسية، وهو تطبيق ناجح للغاية لدرجة أن نهضة الشعوب والطبقات الشرقية في صراعاتها (اليابان، الهند، الصين) تثبت صحة الماركسية من جديد.
بلا شك فإن دراسة، ونشر، وتفسير الديالكتيك الهيغلي مهمة صعبة؛ والخطوات الأولى لهذه العملية ستكون ممتلئة بالأخطاء. لكن من لا يعمل لا يخطىء ابداً. إذا انطلقنا من منهج ماركس في التطبيق المادي للديالكتيك الهيغلي، سيتوجب علينا – وسنتمكن من – تفسير هذا الديالكتيك من كل الجوانب، فننشر مقتطفات من أعمال هيغل الرئيسية ونفسرها مادياً عبر أمثلة لتطبيقات ماركس العملية، بالإضافة إلى أمثلة للديالكتيك في حقل العلاقات السياسية والاقتصادية؛ خصوصاً بأن عالمنا المعاصر يمتلك وفرة من هكذا أمثلة (الحروب الامبريالية، الثورات، إلخ).
برأيي، على محرري مجلة (تحت راية الماركسية) أن يعدّوا أنفسهم شيئاً أشبه “بجمعية الأصدقاء الماديين للديالكتيك الهيغلي”. سيجد علماء الطبيعة المعاصرين في التفسير المادي للديالكتيك الهيغلي (ما إذا تعلموا كيف أن يبحثوا، وما إذا ساعدناهم في هذا البحث) سلسلة من الأجوبة على مختلف القضايا الفلسفية التي تطرحها الثورات الحاصلة في علم الطبيعة؛ تلك الثورات التي تجعل من المثقفين المنبهرين بالتحذلق والتقليعات البورجوازية الارتداد نحو الرجعية.
يسارنا بحاجة إلى ثورة ثقافية!
إلى حد الآن، كُل ما قام به اليسار البحريني هو نقد مظاهر الإنتاج الرأسمالي الكولونيالي في البحرين، بينما المطلوب منه تغييره. إلى حد الآن، كُل ما قام به هذا اليسار هو حمل هذا النقد من دون خطة، دون وجهة، دون مستقبل؛ أنه لم يحمل نقده إلى آخر مداه، ايّ إلى استنتاجاته النهائية وهو ضرورة التحويل البنيوي للأسس المادية للعلاقات الإنتاجية الرأسمالية نفسها.
إن الحركات السياسية، ولا سيما الأحزاب، تُقاس من برامجها السياسية؛ ولكن البرنامج السياسي لا يُمكن أن يقول للجماهير ما عليها أن تقوم به، بقدر ما الجماهير لها القدرة على أن تكون دائماً متقدمة بخطوة. ولما كان قياس أي حركة سياسية يأتي من برنامجها السياسي، إذن لن يختلف أحد معي بأن اليسار القائم لا يمت بصلة للاشتراكية.
اليسار لا يتحدد بحزب واحد أو جماعة واحدة، ولكنه بحاجة إلى حزب اشتراكي قوي يفعل الحركة اليسارية ككل، ايّ يكون عاملاً من عوامل تصادف كل الأطراف السياسية التقدمية التي لها مصلحة في تقويض الرأسمالية.
سأذكرُ في المقالات القادمة لهذه السلسلة بعض المقومات السياسية والاقتصادية والآيديولوجية لوجود مطالب اشتراكية لعلها تنبه القارئ ببعض متطلبات وجودها في البحرين، دون أن أدعي بأن في حوزتي هذا البرنامج إذ أن ذلك سيعني فوراً وجود تنظيم اشتراكي حقيقي في البحرين؛ وهذا يخالف واقع الأمر.
لينتبه القارئ: الاشتراكية ليست دستوراً دينياً يتوقع أن يأتمر الناس به ويهتدي عبره؛ إنها ليست نظاماً جاهزاً ينتظر التطبيق متى ما سنحت الفرصة لذلك. على العكس، إنها الطريق الذي تسلكه الجماهير، النضال اليومي الذي تحمله، نحو التحرر من العمل المأجور ورأس المال؛ لذا فإنها – الجماهير- تبتكر حلولاً جديدة كل مرة، تحاول أن تفهم الظروف المحاطة بها، تتقدم بصراعات جديدة خلاقة لا يُمكن التنبؤ بها. اسم هذا الابتكار هو الاشتراكية، وغير ذلك لن نكون سوى أمام أجناس مختلفة من الطوباوية.
إذا كانت الاشتراكية لا تقدم شيئاً لصراع الطبقات الشعبية اليومي، فلا حاجة لنا بها!
إذا كانت الاشتراكية لا تستطيع أن تتحدث بلغة جديدة خلاقة، لغة الجماهير، فلا حاجة لنا بها!
على البرنامج الاشتراكي المنشود ألا يكون إصلاحياً، بل صريحاً في دعوته للقضاء على العلاقات الإنتاجية الرأسمالية الكولونيالية، وبالتالي فك الربط من المنظومة الامبريالية العالمية. لا يُمكن المساومة على هذا المبدأ إطلاقاً. لكن مشكلة أساسية تكشف عن نفسها هنا: كون الاشتراكية بحد ذاتها عملية طويلة الأمد تحتاج إلى وقت وصراعات فعلية لتحقيقها. فما العمل؟
كان الانتهازيون قديماً يؤمنون بتقسيم مطالب البرنامج الاشتراكي إلى مطالب إصلاحية صغرى ومطالب كبرى؛ وهذا تقليد علينا التخلي عنه تماماً. وعلى العكس من مبتدعي البرنامج الإنتقالي، وهو برأيي استراتيجيا تتضمن في البحث عن حالات مصغرة للسلطة- الثنائية والسبل نحو توسعتها لتكون حالة عامة (1)، أدعو إلى برنامج يكون كل مطلبٍ فيه هو المطلب المصغر والنهائي في مثل الوقت. كل شيء يعتمد على هذه الحقيقة، إذ أن المطلب الذي قد يبدو إصلاحياً بحدّ ذاته يكشف عن نفسه، في صيرورته، كعامل من العوامل التي تؤدي إلى تقويض النظام الرأسمالي ككل، ايّ أنه حالما ما يكتسب وعياً سياسياً – وهذه هي وظيفته بالتحديد – لا بد أن يؤدي إلى ضرورة السيطرة الطبقية للبروليتاريا والطبقات الشعبية (سياسياً، واقتصادياً، وآيديولوجياً).
معنى ذلك هو: إن كان البرنامج الاشتراكي يحتوي على مطلب “مصغر” وآني، فإن هذا المطلب ما إذا تعمق في الصراع الطبقي الجماهيري بوعيٍ حقيقي لا بد أن يؤدي، حتماً، إلى استنتاج نهائي يؤكد على ضرورة نهاية النظام الرأسمالي. إن المطلب الاقتصادي لا بد أن يكون في ذات الوقت مطلباً سياسياً، إن فصلنا الاثنين (وهذا ما يقوم به كل اليساريين في البحرين) سينتهي بنا الأمر بتعزيز الممارسة السياسية البورجوازية. إن لم يكن البرنامج الاشتراكي، اياً كان، مصمماً بطريقة يكون فيها الاقتصادي مرتبطاً بالسياسي، فإنه لا يعدو كونه برنامجاً إصلاحياً أو في أفضل الأحوال ما يسميه اليسار الشعبوي اليوم: الإصلاح الثوري، وهو ليس بثوري في حقيقة أمره.
لهذا السبب لم يعد من الممكن أبداً أن نتحدث عن إصلاح الرأسمالية، ولم يعد من الممكن أن نتحدث عن إصلاحات مصغرة هنا وهناك إلى أن يأتي اليوم المنشود، بل عن إصلاحات تمثل مواقع استراتيجية لتحويل العلاقات الإنتاجية الرأسمالية أو لقيادة هذا الانقطاع البنيوي.
لعلي أفكرُ هنا بما قاله كارلو كافيرو يوماً: “ليس ثمة وقت غير مناسب للتغيير”، (رغم أنني لا أشاطره منظوره الأناركي وراء هذه العبارة). لكنني لا أدعو إلى طراز جديد من الإرادية السياسية من حيث اقفز فوق الظروف الحقيقية والواقعية للصراع الطبقي. كما لا أدعو إلى إصلاحات كمية جزئية تفضي في نهاية المطاف إلى تحولٍ نوعي، إذ إن ذلك فيه شيئاً من الانتهازية والطوباوية، لا وبل المثالية.
إنما ما أدعو إليه هو – كما أسلفت – الخوض في صراعات تشكل مواقع تحويل استراتيجي لنمط الإنتاج الرأسمالي، وهذه الصراعات بحد ذاتها تساهم في تشكيل الظرف الموضوعي العام لهذا التحويل، ايّ أنها تفتح الظرف الموضوعي العام للجماهير (ايّ، موضوعياً وذاتياً) في مواجهة الرأسمالية.
إنه من غير الممكن أن نتحدث عن برنامج اشتراكي من دون أن نضعه ضمن إطار الحالة الملموسة الراهنة، وهي الحالة التي تفرض علينا تطويق رأس المال الاحتكاري من كل جانب، أيّ تلك المنظومة الاقتصادية التي تمثل التحالف ما بين رأس المال الاحتكاري الكولونيالي ورأس المال الاحتكاري الامبريالي. إن واجب كل اشتراكي أن يدعو لذلك. ولا نعني بالتطويق كشيء من المقارعة أو المشاكسة بقدر ما نشير إلى تشكيل الظروف الموضوعية للتحول الاشتراكي. إن أهمية البرنامج الاشتراكي تكمن في أن الجماهير تصبح أكثر وعياً لظروفها المحاطة بها، ايّ لا تجابهها بالوعي الأيديولوجي اليومي بل بوعي سياسي حقيقي.
كُل إصلاح في المجتمع الرأسمالي لهو إصلاح بورجوازي، ايّ يعمل في إطاره. هذه حقيقة لا خلاف عليها. ولكن أيعني ذلك، تحديداً، بأن علينا نرفض أن نعمل من أجل كُل إصلاح لأن كله غير اشتراكي بشكله الخالص؟ إطلاقاً (2). سأوكد لكم هذه الفكرة، وسأقولها بدايةً، أن فكرة وجود اشتراكية خالصة هي هي الإصلاحية بالتحديد وهي – بحد ذاتها – تحريفية، إذ إنها تدفعنا لنفرق، في البرنامج السياسي للاشتراكية، ما بين (وهذا شيءٌ طرحته الحركة العمالية الأوروبية حينما كانت تحت سطوة هكذا نزعة، ايّ الأممية الثانية) المطالب الصغيرة أو الآنية، ايّ – صراحةً- البورجوازية الإصلاحية، وما بين المطالب الكبرى أو تلك التي تتحقق على المدى البعيد وحسب، ايّ الاشتراكية الخالصة المؤملة. ولكَ أن تسألهم، من يومنا هذا إلى ذاك اليوم.. ما العمل؟ سيجيبونك: نعمل على الإصلاحات شيئاً فشيئاً إلى قدوم اليوم المنشود. وهكذا، إن كانت لك الحنكة الكافية، تفقد كُل أملٍ في هكذا ساسة زائفين.
الوجهُ الآخر لهكذا تحريف هو الاعتزال السياسي الكامل، وأنا متأكدٌ بأن القارئ مثلما يستطيع أن يرى يساراً كالطراز الأول في البحرين أنه – بلا شك – يرى يساراً كالطراز الآخر هذا، فيحسبون بأنه لما كان كل إصلاح هو إصلاح بورجوازي، فما جدوى العمل عبره؟ أو اسوأ: ثمة طراز يخلط النزعتين فتجده يعتزل السياسة لأنه في بلد ليس ديموقراطياً بالمعنى الكامل؛ كما لو كنا، نحن الاشتراكيين، نأبه بالديموقراطية البورجوازية! كما لو لم تكن ديموقراطيتنا هي ديموقراطية مجالسية!
القارئ سيتفق حتماً بوجود هذه النزعات في البحرين: من اليساريين الذين اعتزلوا اليسار كلياً، إلى الداعين بتبريد الماركسية في المبرد (رسمياً “التعويم الآيديولوجي”)، إلى اليسار البرلماني الذي لا يمت بصلة لتعاليم المذهب الاشتراكي العلمي (الاشتراكيون في الأقوال، اصلاحيون في الأفعال). لن يستطيع أي أحد أن ينكر هذه الحقائق ابداً.
إن تاريخ اليسار البحريني مليء بالإنجازات التي ينبغي على كل اشتراكي دراستها، وفهمها بالكامل، وإعادة تأريخها علمياً. لكن لتحقيق أي شيء يُذكر في الاشتراكية سيكون علينا أن ندعو إلى الانقطاع التام عن كل شكل يساري تقليدي الذي وجد في البحرين إلى يومنا هذا. بهذه الطريقة، ووحدها هذه الطريقة، سنظل أوفياء لهذا التاريخ. أقولُ الانقطاع عن الشكل أو التقليد لا الشخوص، إذ ندعو مثل اليسار ليفهم ما نورده في هذا النص، وبلا شك نسعى أن نضع يدنا بيده في حدود أنه يقبل بشكل عام ما نقوله. ولكن ليس من الممكن إطلاقاً أن يكون هناك يساراً حقيقياً وخلاقاً من دون أن يقوم على أسس نظرية علمية صلبة وممارسة سياسية بروليتارية.
إذن، اليسار البحريني بحاجة إلى ثورة ثقافية!
بلا شك، قد يتردد أمام هذه المهمة التاريخية، أمام الدعوة ليكون قرننا قرناً اشتراكياً، لكن سيكون عليه أن يتذكر كلمات دانتي: “لا تخف وأصعد عالياً، فإنك شجاع!”
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الهوامش:
(1): هذا بالضبط ما آمن به إرنست مَندل حين قال حول الثورة البرتغالية في (الاستراتيجيا الثورية في أوروبا): ((نحن أمام بدايات السلطة-الثنائية، بدلاً من حالة عمومية لهذه السلطة-الثنائية… في هذا الوضع، إن الواجب الثوري للماركسيين هو تعميق، وتعميم، ومركزة هذه الهيئات القاعدية. لكن حين تطرأ تلك السوفيتات من دون أن تكون موجودة في كل مكان، فإننا نكون في حالة انتقالية ولا يُمكن أن نقول عنها بإنها تمثل “أزمة ثورية”)). من الواضح بأن هذه الفكرة خاطئة في حدود أنها تصور الدولة البورجوازية كما لو كانت تخلو من أية تناقضات داخلية، وكما لو كانت البورجوازية – وهذا تشخيص ماو للتقليد التروتسكي عموماً- تخلو من تناقضات داخلية. إنه- مَندل – ينسى أهم ما كتبه لينين بهذا الشأن وهو – في معناه – : الثورة لا تنشب إلا حين يتصادف عاملان، عدم رضا الجماهير بالوضع الراهن وعدم قدرة البورجوازية على الاستمرار في حكمها الطبقي (ايّ، حين تحتد تناقضاتها). هذه النظرة التي يمثلها مندل تنظر إلى جانب واحد من القضية، من حيث إنها تنظر إلى الثورة كما لو كانت تنشب فقط حين تكون الجماهير غير راضية عن الوضع الراهن؛ وهذا – بلا شك – موقع يسراوي في الفكر الاشتراكي.
(2): يقول لينين في (الماركسية والإصلاحية): ((على العكس من الأناركيين، يدرك الماركسيون ضرورة النضال من أجل الإصلاحات، أيّ تلك الإجراءات التي من شأنها تحسن من أوضاع الشعب العامل دون تقويض سلطة الطبقة المسيطرة. لكن في مثل الوقت، يشن الماركسيون أشرس هجوم ضد الإصلاحيين الذين، بشكل مباشر أو غير مباشر، يحصرون أهداف ونشاطات الطبقة العاملة في تلك الإصلاحات. الإصلاحية هي خديعة بورجوازية موجهة للعمال، إذ إنها تجعلهم – العمال – عبيداً لرأس المال اللهم بأوضاع أفضل— وهذا سيدوم بديمومة سيطرة رأس المال.))
تجديد النموذج الإشتراكي المثالي ( 1 – 2)
بقــــلم: John Bellamy Foster
ترجمة: غريب عوض
يجب أن تبدأ أيةُ مُعالجة جادة لتجديد الإشتراكية اليوم بتدمير الرأسمالية الخلاق لأُسُس كامل الوجود الاجتماعي. فَمُنذُ أواخر ثمانينيات القرن الماضي، انغمس العالم في حقبة رأسمالية الكارِثة، التي عُرِفت بِأنها تراكم كارِثة وشيكة من كل الجوانب بسبب العواقب غير المقصودة لـ ’طاغوت رأس المال‘. واليوم تتجلى رأسمالية الكارِثة بهذا المعنى في تلاقي (1) الأزمة البيئية الكوكبية، (2) الأزمة الوبائية العالمية، (3) الأزمة الإقتصادية العالمية التي لا تنتهي. ويُضاف إلى هذا الشكل الرئيسي ’إمبراطورية الفوضى‘ الراهِنة، بمافيها النظام المُتطرف للإستقلال الإمبريالي الذي أطلقتهُ سِلسِلة السلعة العالمية؛ وأفول الدولة الليبرالية الديمقراطية المستقرة نسبياً مع ظهور الليبرالية الجديدة والفاشستية الجديدة؛ وظهور عصرٌ جديد من عدم الإستقرار العالمي المُهيمن مصحوباً بمخاطر مُتزايدة لحرب غير محدودة.
وتُمثّل الأزمة المناخية ما يُسميه الإجماع العلمي العالمي بأنهُ حالة “لا مثيل لها”، بحيثُ إذا لم تصل انبعاثات الكربون الصافية من احتراق الوقود الأحفوري إلى الصفر في العقود القليلة القادمة، فإنها ستُهدد وجود الحضارة الصناعية وبقاء الإنسان في نهاية المطاف. ومع ذلك، فإن الأزمة الوجودية بالنسبة للإنسان لا تقتصر على تغيّر المناخ، ولكنها تمتد إلى عبور حدود الكواكب الأخرى التي تُحدد معاً الصدع البيئي العالمي في نظام الأرض كمكانٌ آمنٌ للبشرية. وهذهِ تتضمن: (1) تحمُّض المحيطات؛ (2) إنقراض الأنواع (وإنتها التنوع الجيني)؛ (3) تدمير النُظُم البيئية للغابات؛ (4) ضياع الماء العذب؛ (5) تعطيل دورات النيتروجين والفوسفور؛ (6) الإنتشار السريع للعوامل السامة (بما في ذلك النويدات المُشِعة)؛ و (7) الإنتشار غير المُنضبط للكائنات المُعدّلة وراثياً.
هذا التمزق للتخوم الكوكبية هو أمرٌ جوهري في نظام تراكم رأس المال الذي لا يعترف بأي حواجز لا يمكن التغلب عليها أمام تقدمه الكمي المُتسارع غير المحدود. ومن ثم لا يوجد مَخّرَج من التدمير الرأسمالي الحالي للظروف الإجتماعية والطبيعية الشامِلة للوجود الذي لا يتطلب الخروج من الرأسمالية نفسها. والشيء المُهِم هو إيجاد ما أسماه الفيلسوف الماركسي الهنغاري István Mészáros في كِتابهِ “ما وراء رأس المال” بالنظام الجديد “التكاثر الأيضي الإجتماعي.” وهذا يُشير إلى الإشتراكية على أنها الوريث الواضح للرأسمالية في القرن الحادي والعشرين، ولكن تم تصورها بِطُرُق تتحدى بشكل حاسم نظرية ومُمارسة الإشتراكية كما كانت موجودة في القرن العشرين.
استقطاب النظام الطبقي
في الولايات المتحدة، نجحت الآن القِطاعات الرئيسة لرأس المال المالي الإحتكاري في تعبِئة عناصر من الطبقة المتوسطة الدنيا من البيض في شكل أيديولوجية قومية عُنصرية وكارِهة للنساء. والنتيجة هي تكوين طبقة سياسية فاشية جديدة ناشئة، مُستفيدة من التاريخ الطويل للعُنصرية البُنيوية الناشئة عن ترِكات العبودية والإستعمار الإستيطاني والعسكرة/الإمبريالية العالمية. وهذهِ العلاقة المُزدهِرة للفاشية الجديدة بالتشكيل السياسي النيوليبرالي القائم بالفعل هي علاقة “الأخوة الأعداء” التي تتميّز بمُناورات شرِسة على السُلطة مُقترِنةً بقمع مُشترك للطبقة العامِلة. هذهِ هي الظروف التي شكلت أساس ظهور قُطب العقارات في نيويورك والملياردير دونالد ترامب Donald Trump كزعيم لما يُسمى باليمين الراديكالي، مما أدى إلى فرض سياسات يمينية ونظام رأسمالي استبدادي جديد. وحتى لو فاز الفصيل النيوليبرالي للطبقة الحاكمة في الإنتخابات الرئاسية المُقبِلة، فإن الإطاحة بترامب واستبداله بجو بايدن Joe Biden، وهو تحالُف نيوليبرالي فاشي جديد، يعكس الضرورة الداخلية للطبقة الرأسمالية، من المُرجح أن يستمر في تشكيل أساس سُلطة الدولة في ظِل احتكار رأس المال المالي.
إن الظهور المُتزامن مع هذا التكوين السياسي الرجعي الجديد في الولايات المتحدة هو حركة صاعدة للإشتراكية، ترتكز على أغلبية الطبقة العاملة والمُثقفين المُنشقين. لقد أدى زوال الهيمنة الأمريكية ضمن الاقتصاد العالمي، التي سارعت وتيرتها عولمة الإنتاج، إلى تقويض الأرستوقراطية العمالية المُرتكِزة على الإمبريالية بين بعض الفئات المُتميّزة من الطبقة العاملة، مما أدى إلى عودة الإشتراكية. في مواجهة ما أسماه زميلُنا Michael D. Yates بـ “اللامُساواة الكُبرى”، يواجه عددٌ كبير من السُكان في الولايات المتحدة، وخاصة الشباب، احتمالية تضاءل المستقبل المُبشر بالخير، ويجدون أنفسهم في حالة من عدم اليقين وفي كثير من الأحيان اليأس، يتسم بها زيادة في “وفيات اليأس.” إنهم ينفصلون بشكل مُتزايد عن النظام الرأسمالي الذي لا يُعطيهم أي أمل وينجذبون نحو الإشتراكية بإعتبارها البديل الحقيقي الوحيد. وعلى الرغم من أن الوضع الأمريكي فريدٌ من نوعه، إلا أن هناك قوى موضوعية مُماثِلة تدفع بعودة ظهور الحركات الإشتراكية تحدثُ في أماكن أُخرى في النظام، وخاصة في عالم الجنوب، في عصر الركود الإقتصادي المُستمر، والتمويل، والتدهور البيئي الشامل.
ولكن إذا كانت الإشتراكية تنهض من جديد على ما يبدو في سياق الأزمة الهيكلية لرأس المال وزيادة الاستقطاب الطبقي، فإن السؤال هو: أي نوع من الإشتراكية؟ كيف تختلف اشتراكية القرن الحادي والعشرين عن إشتراكية القرن العشرين؟ إن الكثير مما يُشار إليه بالإشتراكية في الولايات المتحدة وأماكن أُخرى هو من التنوع الاجتماعي الديمقراطي، ويسعى إلى التحالف مع الليبراليين اليساريين وبالتالي النظام الحالي، في مُحاولة عبثية لجعل الرأسمالية تعمل بشكل أفضل من خلال تعزيز التنظيم الإجتماعي والرفاهية الإجتماعية في مُعارضة مُباشِرة لليبرالية الجديدة، لكن في الوقت الذي تفسح فيه النيولبيرالية نفسها الطريق للفاشية الجديدة. من المحتم أن تفشل مثل هذهِ الحركات في البداية في السياق التاريخي الحالي. مما يُخوّن حتماً الآمال التي أطلقوها، مُنذُ أن ركزت على مجرد ديمقراطية إنتخابية. لحسن الحظ، نحنُ نشهد اليوم أيضاً نمو اشتراكية حقيقية، يتجلى في النِضال الإنتخابي الإضافي، وفي العمل الجماهيري المُتزايد، وفي الدعوة إلى تجاوز معايير النظام الحالي لإعادة بناء المجتمع كَكُل.
تجلت الإضطرابات العامة الكامِنة في قاعدة المجتمع الأمريكي في الإنتفاضة في أواخر شهري أيار/مايو و حزيران/يونيو من هذا العام، والتي اتخذت شكل، الذي لم يُسمع بهِ من قبل في تاريخ الولايات المتحدة مُنذُ الحرب الأهلية الأمريكية، احتجاجات تضامنية ضخمة مع ملايين الناس في الشوارع، ومع الطبقة العاملة البيضاء، والشباب البيض على وجه الخصوص، تجاوزوا خط اللون بشكل جماعي رداً على قتل الشرطة المواطن جورج فلويد George Floyd ليس لجريمة سوى كونهِ رجل أسود. أدى هذا الحدث، الذي يأتي في خضم جائحة COVID-19 والكساد الإقتصادي المرتبط بها، إلى أيام الغضب في حزيران/يونيو في الولايات المتحدة.
لكن في حين أن الحركة نحو الإشتراكية، التي تترسخ الآن حتى في الولايات المتحدة في “القلب الهمجي” للنظام، تكتسب أرضية نتيجة للقوى الموضوعية، فإنها تفتقر إلى أساس ذاتي مُناسب. هُناك عقبة رئيسية في صياغة الأهداف الإستراتيجية للإشتراكية في العالم اليوم تتعلق بتخلي اشتراكية القرن العشرين عن مُثُلُها كما تم التعبير عنها أصلاً في رؤية كارل ماركس للشيوعية. ولفهم هذهِ المشكلة، من الضروري تجاوز محاولات اليسار الأخيرة لمعالجة معنى الشيوعية على أساس فلسفي، القضية التي أدت في العقد الماضي إلى مُعالجان مُجردة للفكرة الشيوعية، والفرضية الشيوعية، والأُفق الشيوعي بواسطة الفيلسوف الفرنسي ألان باديو Alain Badiou وآخرين. وبدلاً من ذلك، من الضروري وجود نقطة انطلاق أكثر واقعية تستند إلى التاريخ، مع التركيز بشكل مُباشر على نظرية المرحلتين للتطور الإشتراكي/الشيوعي التي انبثقت عن نقد ماركس لبرنامج غوتا Critique of Gotha Programme وكتاب فلادمير لينين “الدولة والثورة”.
شيوعية ماركس كنموذج للإشتراكية المثالية
في نقد برنامج غوتا – كُتِبَ في مُعارضة المفاهيم الإقتصادية العُمالية لفرع الحزب الإشتراكي الديمقراطي الألماني المُتأثر بالفيلسوف الإشتراكي البروسي-الألماني فرديناند لاسال Ferdinand Lassalle – حدد ماركس “مرحلتين” تاريخيتين في النِضال من أجل إنشاء مجتمع من المُنتجين المُترابطين. بدأت المرحلة الأولى من قِبَل “دكتاتورية البروليتاريا الثورية”، تعبِرُ عن تجربة الحرب الطبقية لكومونة باريس Paris Commune وتُمثّل فترة من ديمقراطية العُمال، لكن تلك التي لا تزال تحمل “عيوب” المُلكية الخاصة الرأسمالية القائمة، ولكن أيضاً قطيعة مع الدولة الراسمالية كهيكل القيادة السياسية للرأسمالية. وكمقياس للطبيعة المحدودة لإنتقال الإشتراكية في هذهِ المرحلة، فإن الإنتاج والتوزيع حتماً سيأخذا شكل لكلٌ وفقاً لعمله، مما يؤدي إلى استمرار ظروف عدم المُساواة حتى أثناء تهيئة الظروف لتجاوزها. وعلى النقيض من ذلك، في مرحلة تالية، سينتقل المبدأ الذي يحكم المجتمع، ليشكل من كلٍ حسب قدرتهِ، ولكُلٍ حسب حاجته وإلغاء نظام الأُجور. وبالمثل، في حين أن المرحلة الأولية للإشتراكية/الشيوعية تتطلب تشكيل هيكل قيادة سياسي جديد في الفترة الثورية، كان الهدف في المرحلة العُليا هو اضمحلال الدولة كجهاز منفصل يقف فوق المجتمع وفي علاقة مُعادية للمجتمع، ليحل محله شكل من التنظيم السياسي الذي أشار إليهِ فريدريك إنجلز Frederick Engels بإسم “المجتمع”، المرتبط بشكل جماعي للإنتاج.
في المرحلة اللاحقة، وهي المرحلة الأعلى من إنتقال الإشتراكية/الشيوعية، لن يتم فقط امتلاك المُلكية والسيطرة عليها بشكل جماعي، ولكن سيتم إعادة تكوين الخلايا التأسيسية للمجتمع على أساس مجتمعي وسيكون الإنتاج في أيدي المُنتجين المُترابطين. في هذهِ الظروف، أكد ماركس، على أن “العمل” سوف لن يُصبح مُجرد “وسيلة للحياة” فحسب بل سيكون هو “نفسه الضرورة الأساسية للحياة”. سيكون الإنتاج موجهاً نحو قيم الاستخدام بدلاً من القيم التبادلية، وبما يتماشى مع المجتمع الذي يكون فيه “التطور الحُر للفرد” شرطاً للتطور الحُر للجميع.” إن إلغاء المجتمع الطبقي الرأسمالي وخلق مجتمع المنتجين المتضامنين سيؤدي إلى القضاء على الإستقلال الطبقي، بمعية الغاء الانقسامات بين العمل الذهني والعمل اليدوي وبين المدينة والريف. كما سيتم التغلب على الأُسرة الأبوية أحادية الزواج القائمة على الاستعباد المنزلي للمرأة. كانت الصورة الأساسية لماركس عن المرحلة الأعلى من مجتمع المُنتجين المُترابطين هي التمثيل الغذائي الإجتماعي الجديد للبشرية وكوكب الأرض. في بيانهِ الأكثر عمومية حول الظروف المادية التي تحكم المجتمع الجديد، كَتَبَ: “الحُرية، وهي في هذا المجال [عالَم الضرورة الطبيعية]، يمكن أن تتكون فقط في هذا، إن الإنسان الإجتماعي، والمنتجون المُشاركون، يحكمون عملية التمثيل الغذائي البشري الطبيعية بطريقة عقلانية … إنجازها بأقل إنفاق للطاقة” في عملية تعزيز ظروف التنمية البشرية المُستدامة.
كَتَبَ لينين Lenin في كِتابهِ “الدولة والثورة” وفي أماكن أُخرى، ببراعة حجج ماركس حول المرحلتين العُليا والدُنيا، واصِفاً هذهِ الحُجج على أنها المرحلتين الأولى والثانية من الشيوعية. وواصل لينين التأكيد على ما أسماه “التمييز العلمي بين الإشتراكية والشيوعية”، حيثُ “ما يُسمى عادةً بالإشتراكية كان ماركس قد أطلق عليه إسم المرحلة “الأولى” أو الدُنيا من المجتمع الشيوعي”، في حين أن مُصطلح الشيوعية يعني “الشيوعية الناجِزة”، كان الأكثر مُلاءمة للمرحلة الأعلى. على الرغم من أن لينين ربط هذا التمييز عن كثب بتحليل ماركس، إلا أنهُ في الماركسية الرسمية اللاحقة أصبح هذا جامداً من حيثُ مرحلتين مُنفصلتين تماماً، مع ما يُسمى بالمرحلة الشيوعية بعيداً جداً عن مرحلة الإشتراكية التي أصبحت طوباوية، ولم يعد يُنظر إليها على أنها جزء من نضال مُستمر أو قائم. بُناءً على تصورٌ خشبي للمرحلة الإشتراكية والمبدأ الوسيط للتوزيع لكلٍ حسب عمله، شن جوزيف ستالين Joseph Stalin حرباً أيديولوجية ضد مِثال المُساواة الحقيقية، التي وصفها بأنها سخافة بُرجوازية صغيرة رجعية تستحقها طائفة بدائية من الزاهدون ولكن ليس من مجتمع اشتراكي مُنظم على أُسُس ماركسية. كان هذا الموقف نفسه استمر في الإتحاد السوفيتي بطريقة أو بأخرى طوال الطريق حتى مجيء ميخائيل جورباتشوف.
ومن ثم، كما أوضح الكاتب اليساري مايكل ليبويتز Michael Lebowitz في كِتابه “الحتمية الإشتراكية”، ’بدلاً من النضال المستمر لتجاوز ما أسماه ماركس‘ ’العيوب‘ الموروثة من المجتمع الرأسمالي، التفسير القياسي للماركسية في نصف قرن من أواخر الثلاثينيات إلى أواخر الثمانينيات أدخلت تقسيم المجتمع ما بعد الرأسمالي إلى مرحلتين مُتميّزتين”، تم تحديدهما إقتصادياً وفق مستوى تطور قوى الإنتاج. وتم التخلي عن التغييرات الأساسية في العلاقات الإجتماعية التي أكد عليها ماركس باعتبارها جوهر المسار الاشتراكي في عملية التعايش مع العيوب المنقولة من المجتمع الرأسمالي والتكيف معها. فبدلاً من ذلك، أصر ماركس على مشروع يهدفُ إلى بناء مجتمع المنتجين المتضامنين “مُنذُ البداية” كجزء من عملية البناء الإشتراكي المستمرة، وإن كانت غير مُتساوية بالضرورة.
وتم اختتام هذا التخلي عن النموذج الإشتراكي الأعلى المُرتبط بالمرحلة الأعلى من الشيوعية عند ماركس بطريقة مُعقدة مع تغّر الظروف المادية (والطبقية) وفي النهاية زوال المجتمعات على النمط السوفيتي، والتي كانت تميل إلى الركود بمجرد توقفها عن أن تكون ثورية وحتى بعثها من جديد على شكل طبقة، يُبشر بإنهيارها في نهاية المطاف كطبقة جديدة أو موظفين رسميين (nomenklatura) هجروا النظام. وكما قال الإقتصادي الماركسي Paul M. Sweezy في عام 1971، “إن مُلكية الدولة والتخطيط ليس كفاية لتحديد اشتراكية قابلة للتطبيق، مُحصنة ضد خطر التراجع وقادره على المُضي قُدُماً في المرحلة الثانية من الحركة نحو الشيوعية. هناك حاجة إلى شيء أكثر: النِضال المستمر لخلق مجتمع المُتساوين.
بالنسبة لماركس، كان التحرك نحو مجتمع المنتجين المترابطين هو جوهر المسار الإشتراكي المُتجذر في “الوعي الشيوعي”. ومع ذلك، بمجرد تعريف الإشتراكية بمصطلحات اقتصادية أكثر تقييداً، ولا سيما في الإتحاد السوفيتي مُنذُ أواخر الثلاثينيات فصاعداً، حيثُ تم الدفاع عن عدم المُساواة الجوهرية، فقد المجتمع ما بعد الثورة الإرتباط الحيوي بالنضال المُزدوج من أجل الحرية والضرورة، ومن ثم فقد انفصلت عن الأهداف طويلة المدى للإشتراكية التي انبثقت منها في السابق معناها وتماسُكها.
وبناءً على هذهِ التجربة، يتضح لنا أن الطريقة الوحيدة لبناء الإشتراكية في القرن الحادي والعشرين هي أن نحتضن تحديداً هذهِ االجوانب لمثالية الإشتراكية/الشيوعية التي تسمح لنظرية وممارسة جذرية بما يكفي لتلبية احتياجات الحاضر المُلِحة، وكذلك عدم إغفال احتياجات المُستقبل. إذا علمتنا الإزمة البيئة العالمية أي شيء، فإن الشيء المطلوب تفاعل حيوي إجتماعي جديد مع الأرض، مُجتمع المحافظة على البيئة والمُساواة الحقيقية.ويمكن رؤية هذا في الإنجازات غير العادية في البئية في كوبا، كما شُهِدَ مؤخراً بواسطة الإقتصادي الكولومبي Mauricio Betancourt في كتابهِ “تأثير الزراعة الإيكولوجية الكوبية في التخفيف من تصدع التفاعل الحيوي” في التغيّر البيئي العالمي.
هذا يتوافق مع ما أسماه Georg Lukács “التحول المُزدوج” الضروري للعلاقات الإجتماعية البشرية وعلاقات الإنسان بالطبيعة. يجب أن يمر مثل هذا المشروع التحرُري بالضرورة بمراحل ثورية مُختلفة لا يمكن التنبؤ بها مُسبقاً. ومع ذلك، لكي تنجح الثورة، يجب أن تسعى إلى جعل نفسها لا رجعة فيها من خلال تعزيز نظام عضوي موجه نحو الاحتياجات الإنسانية الحقيقية، المُتجذرة في المُساواة الجوهرية والتنظيم العقلاني لعملية التفاعل الحيوي الإجتماعي البشري مع الطبيعة.
قصص “نساء” فوزية مطر
في قصصِ “نساء” فوزية مطر
المال والمجتمع يحكمان حياة المرأة
تواصلُ الكاتبة فوزية مطر في كتابِها “نساء”، الصادرِ عن دارِ فراديس للنشرِ والتوزيع، مشروعَها الكتابيّ لتغطيةِ مساحاتٍ من تاريخِ المرأةِ البحرينية، وجوانبِ حياتِها. وتسللت هذه المرةُ إلى الجانبِ الخاص، فدخلت البيوتَ وغرفَ النوم، واستمعت للحواراتِ الدائرة في هذهِ البيوت التي غالباً ما تضم أسراً نووية، وفي رؤوس النساءِ في هذه البيوت، باحثةً عن مكانِ المرأةِ في ظلِ الأنظمة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، وحتى العدلية في تلك الفترة. تناولت نظرةَ المرأة لنفسِها، ولدورهِا في أسرتِها وعلاقتِها بالرجل.
في 170 صفحةٍ، انبثقت حكايات الكتابِ من قصص حقيقية، روتها للكاتبة، والدتها، كما ذكرت في مقدمةِ الكتاب. وتركت خيالَها ينسجُ حولَ هذه الحكايات تفاصيل حيواتٍ كاملةٍ لنساءِ الكتاب: زوجات، وأمهات، وخادمات وفتيات صغيرات. هذا الخيالُ الخصبُ الممتلئ، والمنشغلة صاحبَتُه دائما بالمرأة، نفذ إلى تفاصيلَ صغيرةٍ ودقيقة في حياةِ هذه المرأة، تلمّس أوجاعها، وكشفَ مناطقَ ضعفِها، عرّفَ المجتمعَ المحيطِ بها، كشفَ ذكوريتهِ وفضحَ انحيازِه للرجل.
كان المجتمع في زمن تلك القصص، يضعُ الرجل في المركز، ويتركُ المرأة تدور في فلكهِ، مسخَّرة لخدمتِه، تطلبُ رضاهُ وقبوله، وفي المقابل لا يقيمُ الرجل لاحتياجاتِ المرأةِ وزناً، فيكفيها أنها في ظلِ رجلٍ يوفّر لها عيشا، وليس بالضرورة أن يكون هذا العيشُ كريماً. وتباركُ هذا الميزان المختل، ثقافةٌ اجتماعية ظلت سائدة، حتى دخلَ التعليم عالمَ النساءِ في البحرين، ليغيّرَ – وإن بشكل تدريجيٍ بطيء – من وضعِ المرأة. لم تمت هذه الثقافة الاجتماعية التمييزية بين المرأة والرجل حتى وقتنا الحاضر، ولكن التمكّنُ الاقتصادي لعبَ دورَه في انتفاءِ اعتماد المرأة على الرجلِ لتعيش، وفتحَ أمامَها أبوابَ الاستقلالية والحرية في جوانبٍ كثيرة.
دارت قصصُ الكتاب في حقبةٍ اقتصاديةٍ صعبة، وكما هو الحالُ دائماً، يتحمل الطرفُ الأضعف العبء الأكبر من أي وضعٍ صعب، فتحملت النساءُ شظف الحياة، وأيضاً تبعات إحباط الرجل من فشلِه في توفيرِ حياةٍ كريمة لأسرته، ولم تسلم تلك التي تقررُ أن تخرجُ من بيتِها كسباً للرزق، من عيون المجتمع المتربصةِ بها، ومن تنميطها في إطار المرأة القابلة لبيع كرامتِها وشرفِها في مقابل المال.
قدمت الكاتبةُ في كل قصةٍ من قصصِ الـنساء الـثلاث عشرة التي جمعتها بين دفتيِّ كتابِها، نماذج للنساء اللاتي عشنَ في تلك الفترة. قصصُ الكتاب متنوعة، ومكتنزة بالتفاصيل المختلفةِ في فترةِ حدوثها. ربما نعتبر تلك القصص بتفاصيلها عيّنةً ممثلة للمجتمع آنذاك!
سببان وراء ضعف المرأة وهشاشتها
المال والسطوة الاجتماعية كانا ذراعين طويلتين تمتدان للمرأة أينما كانت. سواء في منزل أسرتِها أم في منزلِ زوجها، أم في منزل أسيادها، أم حتى أثناء سيرِها في الشارع بمحاذاةِ الجدران.
السبب الأول اقتصادي: الحاجة المادية هي أكثر الأسباب التي تؤثرُ في جودةِ حياةِ المرأة في تلك الفترة. فهي إما أن تتحمل شظف العيش بسبب الأوضاعِ الاقتصاديةِ السيئة في ذلك الوقت، خصوصاً قبل اكتشافِ النفط. أو أنها تخرجُ من منزلها للخدمة في بيوتِ الموسرين نظير مبالغ صغيرة أو مقابلَ وجبةٍ تعود بها، بعد يومِ عملٍ طويلٍ لتطعمَ بها أبناءها. كذلك تتكسب من وراء مشاريعٍ صغيرة بطحن البهارات والسدر وبيعها ويتطلبُ ذلك أيضا خروجها من منزلها.
خروج المرأةِ من منزلِها يضاعفُ هشاشةِ وضعِها، فهي حينئذ تكونُ عرضةً لضررٍ أكبر، من المجتمعِ الذي يرى في خروجِها للكسبِ ضعفاً يمكن استغلاله. فتتعرض للتحرشِ والمضايقة والاستدراج حتى الاغتصاب. يعرفُ الرجل – والمجتمع من ورائه – أنَّ الأمر محسومٌ لغير صالح المرأة حتى وإن كانت هي الضحية والمذنبُ هو الرجل. يأمن العقاب فيتمادى في استغلاله للمرأة. كان هذا واضحا في قصةِ “استدراج” عندما خرجت الفتاةُ للعمل لمساعدةِ أسرتِها بعد أن أتلفَ الغوصُ إحدى رئتي والدها. فتعرضت للتحرش الذي أفضى إلى اغتصابها. واحتمى المغتِصب بالمجتمعِ الذي لن يرحمها لو انكشف أمرها. فتتعرض للمزيدِ من الاستغلال. تطرقُ الباب الخطأ لتوفير المال بالدينِ لحماية والدِها وشقيقِها من ظلم النوخذة، لتكتشف أن عليها أن تبيعَ المزيدِ من كرامتِها. الأمرُ نفسه تكرر في كل قصة احتاجت فيها المرأة لتوفير المالِ من أجلِ أسرتِها.
السببُ الثاني – اجتماعي
الثقافةُ السائدةُ آنذاك تعتبرُ تعنيف المرأة وضربها أمراً مقبولا. كذلك الأمر في إجبار المرأةِ على الزواج، وأيضاً زواج القاصرات، وحرمانهن من التعليم. الأمر الذي يتركُ المرأةَ بين خيارين، إما الصبر والبقاء تحت سقفِ الزواج، إن لم تكن لها عائلةٌ تُسندها، بما فيه من هدر لكرامتها، أو أن تختار الخروج لتواجُه الحياةِ لتكتشف وعورةَ طريقِ المطلّقة، ونظرة المجتمعِ واستغلاله. عددٌ من نساء القصص انزلقن إلى دربِ الدّعارةِ رغماً عنهن، وصعبُ عليهن الخروج منه بعد ذلك.
الطبقية الاجتماعية التي كانت سائدةً في تلك الفترة سهّلت تعدى “ابن الأسياد” على ابنةِ مربيتِه منذ الصغر، بتعنيفِها المستمر وحرمانِها من اللعبِ معهم. كما لم يجد أي قيدٍ يردعه عن اغتصابِها فيما بعد. ولم تتجرأ العائلةُ على الانتقام، خوفا منه وخوفا من المجتمع وكانت الفتاه هي الضحية.
الطبقية أيضا حرمت ابنة “الحسب والنسب” من الزواجِ بموظفٍ صغيرٍ في شركة والدها. برغم أن الأب كان يعاني وهو يرى الحياةَ تنسحبُ من ابنته بسبب قراراتهِ، إلا أن قوى المجتمع كانت أكبر من عاطفته.
الطبقية أيضا دفعت الرجلَ الثري في قصة نزوة للاحتيال على الغجريةِ الجميلة في مصيفٍ بإحدى الدولِ العربية، وتزويجِها لمساعده كي يصطحبها إلى بلادهِ حيث احتجزَها، وواظبَ على اغتصابِها على اعتبار أنه قادرٌ على شراءِ أي “شيء” بالمال.
العنفُ أيضا والوصايةُ الأبوية حرمت المرأة من تجارب الحب واختيارِ الشريك في قصة التيه. وحرمتها أيضا من التعليم. في قصة القاصر نرى كيف يئدُ المجتمعُ أحلامَ بناتِه الحالمات بحياةٍ أفضل، فتُحرمنَ من الدراسة خوفاً من أن يفتحُ التعليمُ عيونهن على أفقٍ يتجاوز المسموح، في هذه القصةُ التي تقع فتاتُها ضحيةَ “زواج القاصرات”، تُجبر على حياة مع رجلٍ متزوجٍ يكبرُها بسنواتٍ. تعاني من الاغتصاب الزوجي في هذه الأثناء. وعندما ييأسُ من تحقيقِ مرادِه من هذا الزواج بإنجاب الولد؛ يطلقُ سراحها فيتجددُ حلمُ العودةِ للدراسةِ، لتكتشف فيما بعد أن لا مكان للمتزوجات أو المطلقات على مقاعدِ الدراسة.
في القصتين، حين تناثرت حباب الحمص ولهيب الرمل الحارق، يرفضُ الرجلُ إعاقةَ ابنته، ويُلقى اللومَ على الزوجة، ويعتبرُ الإعاقةَ أمرٌ سلبي إضافي على عبءِ ولادتها أصلاً كبنت. الأب في القصتين كان قاسيا وعنيفا. في الأولى كان يربطُ ابنتَه المعاقة في ساق شجرة ويضربُها ضربا مبرّحا على مرأى والدتها وجدتها، فيما تخلّص الأب في القصةِ الثانية من ابنتِه بأن تركها في رعايةِ والدتِه القاسية بسبب انشغال والدتها، زوجته، برعايتها عن خدمته، وحرمها أيضا من رعايةِ هذه الابنة وزيارتها.
في قصة ابن عمّي، نرى كيف يشكلُ المجتمع امرأةً خاضعةً وخانعةً لزوجِها، ابن عمها الذي نشأت وهي كما يقال “موهوبةً” له. وبرغم الوضعِ الاجتماعي والمادي الجيد ودعمِ الأهل لها، إلا أنها اختارت التبعيةَ التامة للزوج. راهنت رهاناً خاسراً على أن توفيرها الراحة له سيعيدُه لها. فيما كان الرجل أنانياً واستغلالياً لحبِها، ما دفعُه للمزيدِ من التجاوزِ على قداسةِ الحياةِ الزوجية، حتى أصبحت الزوجةُ “الوعاءِ الأخير لإشباع بقايا من رغبات، وملاذاً لقضاء الاحتياجاتِ وتقديم الخدمات”.
وبرغم أن الثقافةَ الاجتماعية السائدة تبدو المتهم الأول في الوضعِ السيء الذي كانت تعيشُه المرأة، فيظهر الرجل مهيمناً، مسيطراً، شريراً، ومتحرّشاً ومغتصباً ومستخدماً تفوّقه العضلي والاجتماعي لكسر المرأة وضربها والاعتداء عليها بشتّى الوسائل ولمختلف الأغراض ابتداء من التنفيس عن الغضب والعجز، ومروراً بالتّأديب، وكل ذلك بموافقةِ المجتمع ومباركتهِ؛ إلا أن الحاجةَ الاقتصادية هي في الحقيقة أساسُ ذل المرأة، وهي ما تجبرُها على قبولِ العيش في هذا الوضع، ولأن الهروبَ منهُ بوضعها الهش اقتصاديا، لن يقودَها إلى التعرضِ لانتهاكاتٍ أكبر خارجه.
ومضاتٌ مضيئة
طعّمت الكاتبةُ قصصَها بنساءٍ قويات الإرادة، تمكنّ من التغلبِ على أوضاعِهن الصعبة. كالمرأة في قصة تفرد التي أفقدتها أصابتِها بمرض الجدري جلَّ بصرِها. كانت تستندُ إلى القوةِ التي تولّدُها سعادةٌ يحققها العطاء. حتى وصفت هذه القوة بالمجاديفِ التي تجعلُ سفينتَها تبحرُ في هذه الحياة.
كذلكَ في قصةِ لهيبُ الجمرِ الحارق. حينما تولّدت قوةً عظيمةً، لدى الفتاة التي أحرقتها قسوةُ جدتِها، حرفياً. انهار مع هذه القوة جبروت جدتها وكبرت القوة في البنت المعاقة.
ولكن في كلا القصتين كانت القوةُ قد نشأت لدى المرأة لتتجاوز الإعاقة الجسدية.
وفي قصة القلعةُ والسدرةُ والخيزران، كانت المرأة عالية الكرامة برغم فقرِها، وعملِها في خدمةِ البيوتِ مقابلَ الوجبة التي تعود بها كل مساءٍ لإطعامِ عائلتَها. السدرةُ كانت القلعةُ الخضراء وكأنها قلعةُ كرامتِها، التي تشقُ طريقَها في العلوٍ للتوازي طولاً مع ارتفاعِ بيتِ جيرانِها الموسرين. وكأنها المرأةُ في القصةِ تقول: “إن كانت جدرانُ مسكنِهم شاهقةً فإن قلعتي الخضراءَ بارتفاع هذه الجدران”. احتمت في ظلِّها كما أوفت بعهدها لزوجِها ووالدتِه، برعايةِ السدرةِ كي تمنحُها الخيرَ الكثير. ما مكنها من مدِ يدِ الكرم بالنبق السكري لأطفال الحي.
هناكَ أيضا على شاطئِ الانتظار قصصُ الحبِ الصغيرةِ، وتواصل المحبين وكيف ينقلُ الأحبة إلى عوالم ورديةٍ حالمة، ويغسلُ شظف العيش. الرجل هنا محبا، مخلصا، عاشقا، رزينا.
صورة بانورامية
عند الانتهاءِ من الكتاب، سيشعرُ القارئ أن التفاصيلَ الكثيرة التي كانت تدورُ فيها أحداثُ قصصِ “النساء” قد أخذته عقوداً طويلة إلى الوراء. ويصبحُ على اطلاعٍ بانعكاسِ الأوضاع السياسيةِ والاقتصاديةِ والاجتماعيةِ على المرأة. فحرصت الكاتبة في كل “مشهدٍ” على الإشارة لهذه التفاصيل. تفاصيل الملابس، العباءة والغشوة. بيوت الأغنياء المبنية بالإسمنتِ يزينُها البادكير، في مقابل بيوتِ الغالبيةِ من الناس، المصنوعةِ غرفِها من سعفِ النخيل، والبرستي والدعن أو “السيم”. شكل الفصولِ الدراسية، بكراسيها الموصولةِ بطاولاتها، المدرسّات العرب اللاتي كن أوائلَ المعلمات عند بدء التعليم في البحرين، الصناعات الصغيرة في ذلك الوقت، بيع البهاراتِ والسدر، الحمصِ المسلوق، والتي ربما انبثقت منها مشاريعُ الأسر المنتجة الحالية. أدواتُ الزينة، الحنة والدورم. الممارسات الاجتماعية كالسّحرِ والمحوِ، جلسات الزار، الطرب النسائي الشعبي. العملة المستخدمة آنذاك: الآنة. أشارت الكاتبةُ أيضا إلى الغوص كمصدرٍ رئيسيٍ للدخل وبدء اكتشاف النفط وتشكّل قطاع الصناعة. ومرّت إحدى القصص بالوضعِ السياسي، عندما دارت أحداثُها في وقتِ إنشاء هيئة الاتحاد الوطني، وازدهار القومية العربية، والاتجاه الناصري، ونفي المعارضين. أشارت أيضاً للاستعمار، للجوء النساء إلى المعتمديةِ البريطانية في أوائلِ القرن العشرين ليحصلنَ على الحمايةِ من الأهلِ الذين قد تصلُ ردةُ فعلِهم إلى القتلِ على ارتكابِ ما يمسُّ الشرف، فيتم تهديد أولياءِ الأمور كي لا يصيبوا الفتاةَ بمكروه.
بعد قرابة قرن على قصص “نساء” فوزية مطر. مالذي تغيّر؟
ما بين زمنِ الروايات في “نساء” حين كانت تُنتهك حقوق المرأة، بسبب عدم وجودِ قوانينَ تحميها، ووقتنا الحاضر حيث اكتملت منظومةُ القوانين التي تنظم كافة أمور الحياة… مالذي تغيّر في وضعِ المرأة؟ هل تمكنت خلال ما يقارب القرن، من الحصولِ على حقوقٍ مساوية للرجل، هل تُحقق لها هذه القوانين الحمايةَ داخلَ بيتِها وحين خروجِها منهُ إلى المجتمع؟
بلمحةٍ سريعةٍ، سنرى أن المرأةَ حظيت باهتمام المشرّعين، فكفلت الدساتيرُ حقَّ مساواتِها بالرجل، وسُنت قوانينَ خطوطها العريضة التي وُضعت لحماية حقوقها في المؤسسة الزوجية ولحمايتِها من العنف داخل البيتِ وخارجه. لكن بالنفاذ إلى بنودِ هذه القوانينُ التفصيلية، نجد أنها لاتزال تميزُ لغير صالحِ المرأة. ففي قانونِ أحكام الأسرة لاتزال المرأةُ بحاجة إلى وليٍ لتزويجِها، ولا تملكُ قرارَ زواجِها. كما يخلو من نصٍّ يقيّد تعدّد الزّوجات، ويحدُّ من إساءةِ رخصةِ التّعدّد. بالإضافة إلى ذلك، فالقانون يكرّسُ مفهومَ تبعيةِ المرأةِ للرّجل، وطاعته برغم أن المعاشرة بالمعروف هي حقٌ متبادلٌ بين الزّوجين. ولا يزال الزّوجُ – بموجب القانون – متحكّماً في خروج الزّوجة للعمل ويحقُ له منعِها إن أراد ضدَّ إرادتها. ولا يزال زواج القاصرات حاضراً. فالقانون يحددُ سن زواج الفتاة بـست عشرة سنة، وليس بتجاوزِ سن الطفولةِ عند الثامنة عشر، مع قدرةِ المحكمةِ على الاستثناء لمن هنّ دون ذلك. ولا يزال الطَّلاق بيد الرَّجلِ وحده، بينما لا يمكن للمرأةِ خلع الزوجِ دون إرادتِه وموافقته.
وإذا ما تطرقنا إلى العنفِ الأسري، فالمرأة لاتزال غير مطمئنة لوجود آليات انتصافٍ رادعةٍ، عندما يتعلقُ الأمرُ بالحمايةِ من العنفِ الأسري. وبرغمِ صدور قانون الحمايةِ من العنف الأسري في 2015 إلا أنه خلا من وجودِ عقوبةٍ ضدَ مرتكبي جرائمِ العنفِ الأسري، من إيذاء جسدي ونفسي وجنسي واقتصادي. القانونُ أيضا لا يجرّم الاغتصابَ الزّوجي، كما خلا قانون العقوبات من تحميل الزَّوج أيِّ مسؤولية إذا ما مارس العلاقة الزوجية مع زوجته كرهاً أو غصباً عنها.
بالإضافةِ إلى ذلك، فالمادة 535 من قانون العقوبات، لاتزال توفرُ الحمايةِ للمغتصب إذا ما تزوج ضحيتَه “الناجية” من الجريمةِ التي ارتكبها في حقِها.
هذا بالنسبة للقوانين التي حاربت المرأةُ من أجلِها. فهل المشرّعُ مازال محكوما بالثقافة المجتمعية! هذه الثقافة، هل تغيرت كثيراً في ظل تعليم المرأة خلال العقودِ التي تلت أحداث قصص “نساء” فوزية مطر، وبعد أن تمكّنت المرأة ولم يُمكنها أحد، اقتصادياً؟
إيران في بؤرة استراتيجيات القوى العظمى
قيل قديما: “الجار قبل الدار”. هذا بالنسبة لاختيار الإنسان مكان سكناه، أما الجيرة بين الدول فهي معطى جغرافي طبيعي، لا خيار فيه، ووجب التعايش معه. وإذا كنا قد أوصينا على سابع جار، فهو بالنسبة لدول التعاون الخليجي إيران بعد العراق الشقيق. غير أن العلاقات مع إيران بأبعاد استراتيجية هي عقدة العقد ليس فقط بالنسبة لبلدان التعاون الخليجي، بل وبلدان العالم الأخرى، وخصوصا القوى العظمى. والسبب بسيط، كما هو معقد للغاية: في إيران تتشابك وتتضارب استراتيجيات القوى العظمى بالنسبة لمستقبل العالم برمته. ولشعورها بأهميتها في مستقبل الاستثمار الاقتصادي الاستراتيجي تزداد لدى إيران طموحات الزعامة الإقليمية واعتبارها لذاتها ضامن الأمن الإقليمي وند القوى العظمى. ونعني بالقوى العظمى ما اصطُلِح على تسميته بـ”الإمبراطوريات” الأربع: أميركا، الصين، الاتحاد الأوروبي وروسيا، وبتسمية أخرى دول (5+1)، أي الدول الخمس الدائمة العضوية في مجلس أمن الأمم المتحدة + ألمانيا (قاطرة الاقتصاد الأوروبي)، التي خاضت المفاوضات مجتمعة قبالة إيران وتوصلت معها في 14 يوليو 2015 إلى “خطة العمل الشاملة المشتركة”، التي عرفت بـ”الاتفاق النووي”. سبقت هذا محاولات مضنية منذ عام 2002، بعد أن نجحت إدارة الرئيس بوش في إشراك طهران في القضية الأفغانية. لكنها توقفت مرارا بسبب اختلاف مواقف الطرفين، بما في ذلك توقف العمل باتفاقية باريس 2004 بعد تولي الرئيس أحمدي نجاد منصبه عام 2005 والعودة إلى تخصيب اليورانيوم عام 2006. أما بعد أحداث “الربيع العربي”، ثم ظهور “داعش” وأخواتها تداعت الأطراف مجددا إلى التفاوض مع إيران، ما تمخض عن اتفاق 14 يوليو 2015.
ويدرك الجميع أن ليس البرنامج النووي الإيراني، ولا حتى أمن دول المنطقة الداخلي، هو أصل الموضوع. البرنامج النووي (السلمي) هو مشروع قومي إيراني بدأ في عهد الشاه. وقد قدمت الولايات المتحدة مساعدة فنية لتطوير البرنامج النووي الإيراني الذي أطلق عام 1960. حينها اعتبرت إدارتا نيكسون وفورد إيران “المدافع الأساسي” عن المصالح الأميركية في الشرق الأوسط. ومنذ العام 2015 توقع كثير من الاستراتيجيين أن “خطة العمل الشاملة المشتركة” ستحوِّل إيران إلى قوة إقليمية ناشئة، ستصبح فيما بعد جوهر تشكيل الاستراتيجيات الاقتصادية والجيوسياسية للقوى العظمى.
طبيعي أنه عندما تجلس القوى العظمى على مائدة تقاسم النفوذ في منطقة ما من العالم، فهي لن تدعو إلى المائدة دول المنطقة – موضوع الاقتسام. فيما عدا إيران، التي يدرك الجميع أن التفاوض معها يشكل المفتاح إلى هذا التقاسم، بل وإلى صياغة استراتيجيات عالمية بمديات مكانية وزمانية بعيدة. وتدرك إيران جيدا أنها، رغم الإنهاك الذي أحدثه الحصار الاقتصادي، تمتلك كل المقومات للإنتقال من حالة المستهدَف إلى حالة الشريك الفاعل.
خلال العقدين الأخيرين أخذت أميركا تنظر إلى الوضع في الخليج على أنه يقرر الكثير بالنسبة لمستقبل تشكيل الفضاء الاستثماري ليس في الشرق الأوسط وحده، بل وكل العالم. وقد أدارت لعبة واضحة لهدم مأسسة التنظيم القطاعي في المنطقة بضرب “أوبيك” كأهم مؤسسة من هذا النوع. ومن الجهة الأخرى عملت للإبقاء على هيمنة الدولار في تداول عائدات النفط والغاز باعتماد كبير على المؤسسات الاستثمارية والحسابية الأميركية. وظل التوتر الأمني الناشئ في منطقة الخليج مُوجَّه ويُستخدم من أجل الحيلولة دون، أو على الأقل إبطاء، تشكل “نواة” نظام استثماري – حسابي يقع خارج “الفضاء الدولاري”، على قاعدة العائدات النفطية لدول المنطقة، والحفاظ على القنوات التقليدية لاستنزاف القدرات الاستثمارية من اقتصادات بلدان المنطقة. ويفترض المشروع الأميركي للنظام الاستثماري الاقتصادي الاستراتيجي للمنطقة اعتبار إيران مركزا له. وفي كل النقاشات الدائرة فوق الطاولة أو تحتها يركز كلٌ من الطرفين على تحقيق مكاسب أكثر.
وقد ظل الصراع الأميركي – الأوروبي حول إيران موجودا، لكنه تَبدَّى أكثرَ وضوحا في عهد الرئيس ترامب الذي حدد هدفه بصرامة – إزاحة رأس المال الأوروبي من كل القطاعات الهامة في الاقتصاد الإيراني – بل وحتى إدراج الموارد الاستثمارية الإيرانية ذات العلاقة بتصدير النفط في النظام المالي الممركز أميركيا، وإلا ففصل هذه الموارد كلية من التداول النشط.
وفي حين عجزت أوروبا عن الدفاع عن مصالحها خصوصا ما يتعلق بحاجاتها لمصادر الطاقة في إيران، وعجزها عن تطوير هذه المصالح، بسبب تبعيتها للسياسة الأميركية، فإن روسيا والصين في موازاة سريان “الاتفاق النووي”، ثم انسحاب ترامب ثم عودة بايدن إلى المفاوضات بشأنه، عملتا بنشاط على تطوير استرتيجياتهما الخاصة في العلاقات الاستراتيجية مع إيران. وقد وجد ذلك تعبيره في تطور التعاون الروسي الإيراني الفعال في مجال الصناعات العسكرية والصاروخية والفضائية والتكنولوجيات المختلفة وفي أسواق النفط والتبادل التجاري، إضافة إلى التعاون العسكري والأمني في سوريا ومناطق أخرى.
الصين رأت نفسها فائزًا محتملاً في “الاتفاق النووي” مع إيران. فهو يوفر لها فرصة للمناورة ليس فقط باعتبارها أكبر مستورد للنفط وشريك تجاري واستثماري، طامح إلى تطوير مشاريع البنية التحية في إيران، ولكن أيضًا باعتبارها أكبر فاعل وشريك إقليمي في مجال السياسة الأمنية. وكان أشد ما تخشاه الصين، وتحاول منع وقوعه، احتمالان : حرب أميركية إيرانية تغلق الطريق أمام إمدادات النفط إلى الصين، أو تحالف أميركي إيراني قوي يشكل تهديدا للشركات الصينية الراغبة في الاستثمار في إيران. من هنا كانت السياسة الصينية الحذرة بين مسايرة المواقف الأميركية ومراعاة المصالح الإيرانية. لكنها عززت علاقاتها التجارية مع إيران، فساعدتها في تخفيف الضغط الاقتصادي في فترة العقوبات. وفي حين لا تشجع الصين تطوير أسلحة نووية في إيران، إلا أنها ترى في تزايد قوتها إمكانية للحد من النفوذ الأميركي في المنطقة.
في الوقت ذاته عمل الطرفان بعد توقيع “الاتفاق النووي” على إعداد وثيقة معاهدة بينهما تمتد لربع قرن تحت إسم “برنامج التعاون الشامل” الذي تم التوقيع عليه أواخر شهر مارس 2021. وهو الآن بالنسبة لإيران أهم بما لا يقاس من “الإتفاق النووي” ذاته. يربط البرنامج الماضي بالحاضر إذ ينطلق من كون كل من البلدين يشكل “حضارة آسيوية قديمة”، وأن هذه الوثيقة هي “فصل جديد في مجال العلاقات بين الحضارتين الآسيوتين العظيمتين” في مختلف المجالات في إطار مبادرة “طريق الحزام”. وهذا الربط إذا يؤكد على القواسم المشتركة فإنه يحترم الخصوصيات ويؤكد على علاقات سيادية متكافئة. وينص على اعتبار “كل منهما شريكا استراتيجيا” للآخر على أساس “المصالح المتبادلة والربح المتساوي”. وبما أن البرنامج هو في إطار “طريق الحزام” فيفترض فيه مبدأ المنفعة المتبادلة المتساوية مع جميع الدول التي ترتبط مباشرة بهذه المبادرة وذكرتها الوثيقة بالإسم (أفغانستان، تركيا، ذربيجان، باكستان، العراق وسوريا)، بما يعني انتقال تأثير وتطبيق هذا المبدأ من الإطار الثنائي إلى القاري من الصين إلى غرب آسيا إلى شرق المتوسط، وفي ذلك بُعدُ جيوسياسي بالغ الأهمية.
وامتاز البرنامج بشموليته لجميع القطاعات الإنتاجية والخدمية والاجتماعية والنشاطات الدينية والترفيهية والسياحية والنشاطات المعرفية المدنية والعسكرية والأمنية والقضائية ومشاريع البنى التحتية في معظم المرافق الإيرانية في البر والبحر. وجرى التأكيد على البحث والتطوير التكنولوجي المتقدم والاتصالات السلكية واللاسلكية والتعاون المالي والاقتصادي والتجاري وتنمية الطاقات البشرية والمؤسسية في معظم قطاعات الاقتصاد الإيراني. برنامج بهذه الشمولية، إن تم التغلب على تحديات تنفيذه، فسينقل الاقتصاد الإيراني إلى آفاق تنموية متقدمة، بحيث تحتل إيران دورا مركزيا في مبادرة “طريق الحزام”. ولا شك أن ما تتمتع به الصين من احتياطات مالية هائلة تؤمن عنصر اليقين في تمويل تحقيق هذا البرنامج وبمعزل عن عملة الدولار الأميركي. وبهذا أيضا لن تتحول عائدات النفط إلى “فوائض” مالية، بقدر ما تتجسد مباشرة في برامج تنموية مادية وخدمية وثقافية وتطويرية لراس المال البشري وتعظبم قدرات الدولة.
ولا شك أن برامج طموحة بهذه المديات الاستراتيجية تحتاج إلى استتباب الأمن والسلم في المنطقة. وبديهي أن الصين معنية إلى حد الحساسية بعلاقات سعودية – إيرانية تحول دون نشوء أي صدام، إذ أنها مستورد أساسي للنفط من البلدين كليهما. ولذلك تدعم الصين بقوة المشروع الروسي (السوفييتي الأصل منذ الثمانينات) لتحويل الخليج إلى منطقة سلم وتعاون من أجل التنمية. هذا المناخ تحتاجه جميع دول المنطقة التي ضاعت عليها فرص تاريخية كبيرة لاستثمار “فوائضها” المالية التي استنزفتها أخيرا التقلبات الحادة في أسعار النفط والأزمات المالية والاقتصادية والتوترات الأمنية والحروب وجائحة فيروس كورونا.
سيبقى التعامل ليس سهلا مع إيران كدولة تحمل مستقبلا بالمعنى الاستراتيجي العالمي، بغض النظر عن نظامها الاجتماعي السياسي القائم. لكن مسار المفاوضات حول “الاتفاق النووي” وفي العلاقات مع أوروبا وروسيا والصين يبين أن الجانب الأيديولوجي، بما في ذك تصدير الثورة الإسلامية، ليس هو المكون والمحرك الوحيد في السياسة الخارجية الإيرانية. فالجانب الأيديولوجي يسبقة الشعور بالتهديد الخارجي المحفز للتهديد الداخلي، والذي يمثله الوجود العسكري الأميركي في المنطقة. ويُقدر بعض الخبراء أن الولايات المتحدة لم تعد قادرة على دعم تواجد عسكري دائم في المنطقة ارتباطا باستراتيجيات عسكرية في مناطق أخرى، وخصوصا بحر الصين. وعاجلا أم آجلا فسيتراجع الوجود العسكري الأميركي كثيرا في المنطقة، ما سيساعد على جعل توافق بلدان المنطقة على الأمن الإقليمي أكثر ضرورة وأكثر منالا. المكون الذي لا يقل أهمية والدائم في السياسة الخارجية الإيرانية هو الدولة القومية بحضارتها الفارسية التي تبحث دائما عن اعتراف بمكانتها كقوة فاعلة في الشرق الأوسط. وهنا يتراجع الجانب الأيديولوجي لمصلحة المساومات التاريخية مع الشركاء الدوليين والإقليميين. فقد أظهرت إيران استعدادا للتراجع عن التزاماتها الأيديولوجية الخارجية في سبيل تعزيز مصالحها الجيوسياسية. فهي، مثلا، تدعم أرمينيا المسيحية وليس أذربيجان الشيعية. كما امتنعت عن دعم الحركات الإسلامية في آسيا الوسطى لتلافي استياء روسيا. وتسعى الصين إلى التعاون مع إيران في مسائل أمن آسيا الوسطى، بما يعنيه ذلك ما يتعلق بالأنشطة الإنفصالية الموجهة للمجتمعات المسلمة في مقاطعة هينيانغ وأمن الحدود الصينية الباكستانية والصينية الأفغانية، وكذلك كشمير.
ومن العوامل المؤثرة على السياسية الخارجية الإيرانية توازن مراكز القوى في هذا البلد. في كل الحالات تبقى الكلمة الفصل للمرشد الأعلى في جميع قضايا السياسة الخارجية. وهو ينطلق من لازمته المتسقة وعنوان كتابه “أنا ثوري ولست دبلوماسي”، خصوصا عندما يتعلق الموقف بأميركا. بكلمة، هو أقرب إلى مراكز القوى المتشددة، ولكنه يأخذ في النهاية مواقف القوى “الإصلاحية” بعين الاعتبار. يميل “الإصلاحيون” عادة إلى التركيز أكثر على تنفيذ الإصلاحات المحلية بدلا من التغييرات الجذرية في السياسة الخارجية. ولا شك أن السياسة الخارجية الإيرانية تتأثر بشدة بمن هو في الحكم في المقطع الزمني المعني. والاحتمال الأكبر بأن يصل المتشددون إلى السلطة في الانتخابات خلال الشهرين القادمين. غير أن التجارب والزمن وارتقاء الاستراتيجيات في التعامل مع العالم الخارجي كفيلة بإضفاء نوع من البراغماتية على سياسات الحكومة القادمة.
أخذا بعين الاعتبار تفاعل هذه المكونات الأساسية في السياسة الخارجية الإيرانية تستطيع دولنا في مجلس التعاون الخليجي رسم استراتيجية بناء للتعامل مع جميع القضايا الخلافية مع إيران، من حيث حسن إدارة الخلافات أولا، ثم العمل على حلها على أساس توازن المصالح والمصالح المشتركة.
إن ما يجري من تحضيرات لمستقبل منطقة الخليج أشبه بانزياحات جيولوجية تحدث تحت سطح الأرض، وستكون بمثابة إرهاصات لإحداث تغييرات كبرى على مستوى الاستراتيجيات الدولية والتطورات الإقليمية. ويجب أن تستعد بلداننا منذ الآن لاستنفار كل مصادر قواها الداخلية من تعبئة موارد وخلق مناخات اجتماعية سياسية ديمقراطية صحية وعدالة اجتماعية في توزيع الثروة وإعادة العافية لكامل مجلس التعاون الخليجي كتنظيم إقليمي، وذلك من أجل ضمان التعامل مع الإقليمي والعالمي كشريك قوي، فاعل حقا، لا شريك تابع.
“الممتنعون” و”المتغيبون”
على كثرة الكلام الذي قيل عن القيود الكثيرة المفروضة على مجلس النواب المنتخب، خاصة من خلال أحكام اللائحة الداخلية للمجلس، فإن الحكومة أظهرت، خاصة خلال السنوات الأخيرة، ضيقها حتى من الحيز المحدود المتاح للمجلس كي يقوم بدوره الرقابي على أداءها، ومارست ما تستطيع من ضغوط لتمرير “تعديلات” على هذه اللائحة لفرض المزيد من القيود على أداء المجلس، والحدّ من فعالية الأدوات الرقابية المتاحة له.
وبعد أن بات استجواب الوزراء في حكم المتعذرداخل المجلس، كما أوضح عضو كتلة “تقدّم” النائب الأول لرئيس المجلس عبدالنبي سلمان في مداخلة أخيرة له، لجأ النواب المخلصون إلى أداة المناقشة العامة، لمناقشة السياسات الحكومية وأداء الوزرات المختلفة، وهي مناقشات لا تصل، بطبيعتها، حدّ إدانة الوزير المعني، ورغم ذلك ضاقت الحكومة ذرعاً بالنقد الذي وجه لبعض أعضاءها وكبار المسؤولين فيها، على ما وجده النواب، وإلى جانبهم ناخبيهم، من أوجه قصور في أداء هؤلاء.
ولم يطل الوقت حتى اقترحت تعديلات على اللائحة الداخلية تفرغ أداة المناقشة العامة من محتواها الفعلي، و”نجحت” في تمريرها عبر المجلس نفسه المعني بمحاسبة الحكومة والرقابة على أداءها حسب الدستور وميثاق العمل الوطني، فكان لها ما أرادت، وتمّ ذلك في مشهد هزلي بالفعل.
إذا استثنينا الموقف المشرف لاثني عشر نائباً، في مقدمتهم رفاقنا في “تقدّم” الذين رفضوا تلك “التعديلات” بوضوح وحزم، فإن المتبقين من أعضاء المجلس، أي ثمانية وعشرين نائباً من مجموع الأربعين عضوا الذين يتكون منهم المجلس، “تفننوا” في أساليب تمكين تعديلات الحكومة من المرور.
بعضهم لم يجد حرجاً في حضور الجلسة التي ناقشت الموضوع والتصويت بنعم كبيرة (!) مع مرور المرسوم بقانون بشأن التعديل المقترح، فيما وجد آخرون من الحاضرين ضالتهم في بدعة “الامتناع عن التصويت”، أما البقية فإما أنهم تغيبوا متعمدين عن حضور الجلسة، فيما اختار بعضهم اغلاق الميكرفون لحظة التصويت، والنتيجة جاءت كما هو مخطط لها: “لم يرفض المرسوم العدد اللازم من الأصوات لعدم تمريره، اي 21 صوتاً”.
يتوهم “الممتنعون” و”المتغيبون” إن حسبوا أنفسهم يختلفون في شيء عمن صوتوا بنعم لتمرير المرسوم، وأن هروبهم بهذه الطريقة عن الإفصاح عن موقف واضح تجعلهم مختلفين عنهم، وجلّ ما فعلوه أنهم وضعوا شخوصهم في محل السخرية من الناس، لأنهم، في النهاية، شركاء في التطاول على حق نيابي كفله الدستور، أثبتوا أنهم ليسوا أهلاً لممارسته.
لعصر العيد.. مرثية
اعتاد واعتدنا أن يطرز عصر كل عيد بوصله الجميل تزينه خيوطٌ ملونة باهية تحيط به وبنا من كل ناحية. نعرف وقته، نتهيأ، نتأهب لرنة الجرس. جمع أجراسٍ العائلي يطرق الباب، وما إن نفتح حتى يطل بابتسامته الرائقة الحميمة التي تنفذ إلى القلب، كأنه يقول: ” كلنا بخير، كيف أحوالكم أنتم”. تغمر الابتسامة المشرقة الجمع المرافق قبل أن يخطو من عتبة الباب ويلج المجلس. يدخل محيياً ومباركاً بالعيد بصوته المميز الذي لا تخطئه أذن.
لم يخلف الصديق الغالي سلمان زيمان عصرَ عيد سوى مرات تقل عن عدد أصابع اليد الواحدة ولظروف جد قاهرة. ظل عصر العيد – كل عيد – ولما يربو على الثلاثة عقود يزدان ويزهو بمقدمه برفقة أفراد عائلته الكبيرة، بعض الأشقاء والشقيقات، زوجاتهم، أزواجهن وأولادهم وأحفادهم. قد يغيب البعض في عيد أو آخر، لكن المجلس يمتلئ بحضورهم المحبب عصر كل عيد.
يعرف مكانه بقرب رفيقه في لمسة وفاء أصيل متواصل، وهل هناك وفاء أصدق من زيارة ثابتة لصديق مدرجة على الأجندة العائلية لزيارة الأهل والأقارب عصر كل عيد. وفاءٌ مقيمٌ لصاحب المجلس الذي كان هو الآخر يدرجُ على أجندته اليومية المرور كل مساء على مقر أجراس سنوات تألقها على الساحة الفنية في بحرين التسعينيات، لحضور تدريباتها تقديراً وتشجيعاً لفرقة مختلفة ومحبة خالصة لأعضائها.
المجلس يعبق بأنفاسك يا أبا سلام وبكلامك وضحكاتك، دخلته في كل وقت، في أيام اللين والشدة، أيام الفرح والألم. لم تفوِّت زيارة عصر العيد أنت وأجراسك الشجية حتى حين غاب صاحب المجلس لفترةٍ عنا وعنكم. لم تفوِّتها حين ألمَّ به المرض وصعُب جلوسه بقربك في المجلس. لكنه سرعان ما نهض، تمكَّن من ذاته واتخذ مكانه بقربك عصر العيد التالي.
كنت دؤوباً بهمةٍ عالية ومودةٍ صافية، وبكل ما أوتيت من سبل لتمكينه من الاندماج في الحياة. تستمع له بصبرٍ خرافي، تطرح عليه شتى الأسئلة في محاولةٍ لاستنطاقه، ولا تهدأ نفسك إلا حين تشعر بتقدم ما. تجول به في مناطق البحرين المحببة له، تستنهض ذاكرته. تجلس معه بالساعات كي يتمكن من الانفتاح على عالم شبكة المعلومات الالكترونية. أنت من أدخله وفي خضم حالته المرضية لهذا العالم الذي غدا وجهته اليومية بمقدار ما يحوز من مهارات ذهنية للتواصل مع الحياة وعوالم المعرفة. كنت أيها الصديق الحميم علاجاً مكيناً ونجحت في كل ما بذلت.
وكنت حريصاً على توثيق مسيرة حياته، تبحث بهمة عالية وسمو لا يُضاهى عن سبلٍ لدفع الآلام عنه. أحضرت آلة التصوير الفلمي وجلست معه ما شاء لكما من وقت، منحته ثقة التكلم أياً كان. ولم يلبث أن جاء صديقكما بآلة تصويره الفوتوغرافي، وانغمرتم في صدقٍ خالصٍ يرفرف عليكم ما يجمعكم من محبة وفيرة.
كيف لك أن تغادر وتتركه يكابد لوعة الغياب وعصف الاشتياق تحيط به غيوم حزنه عليك من كل جانب، لا ينفك يستعيد بقلب ملتاع التسجيل الفلمي، تحتقن عينه بحزن كظيم ويتألم حد البكاء. كنت يا أبا سلام تبغي توثيق سيرة رفيقك وحفظها، وها هي اليوم بعد غيابك قد غدت فصلاً من فصول سيرة محبتك ووفائك الأصيل لأصدقائك يحفظها هو ويتلذذ أو يتألم باستعادتها كل وقت.
أبا سلام، يا من أدميت قلوبنا برحيلك المفاجئ، كيف لنا أن نتحمل هذا الفراق اللعين الذي لن ينتهي. لربما يُحسب لوباء كورونا أنه عوَّدنا على عدم انتظار رنة جرس أو طرقة باب في الرابعة عصر العيد. لكن ماذا نحن فاعلون حين تغرب الغمَّة وتعود حياتنا لإيقاعها الطبيعي، من سننتظر؟ من سيطرق الباب؟ وماذا سيخيم على المجلس عصر العيد؟
آن الأوان لتشريع تأمين اجتماعي يشمل الجميع
(تكفل الدولة تحقيق الضمان الاجتماعي اللازم للمواطنين في حالة الشيخوخة أو المرض أو العجز عن العمل أو اليتم أو الترمل أو البطالة، كما تؤمن لهم خدمات التأمين الاجتماعي والرعایة الصحية، وتعمل على وقایتهم من براثن الجهل والخوف والفاقة).
المادة (5/ج) من دستور مملكة البحرين
تُظهر الدراسات لعدة منظمات دولية، ومن ضمنها منظمة العمل الدولية الأثر المباشر لجائحة كوفيد-19 على العمال الفقراء والمنشآت الضعيفة، وكيف فاقم الوباء هذه التحديات الأساسية، وجعل كسب العيش وتأمين مصادر الدخل أكثر صعوبة بالنسبة للناس الضعفاء؛ وخاصة ممن يعملون في ما يعرف بالاقتصاد غير المنظم، والذي يعمل به عدد غير قليل من العمالة الوطنية البحرينية، وفاقمت منها الأعداد الكبيرة من العمالة الوافدة خاصة من إفرازات ما عرف “برخصة العامل المرن” مما أضاف تحديات أخرى ووضعها في منافسة أشدّ في سعيها لتحصيل قوتها اليومي.
وبالرغم من أن الدولة قدمت في بداية الجائحة دعماً لجميع أصحاب العمل، بتحمل تكلفة 3 شهور من أجور جميع العاملين البحرينيين، واستمر الدعم لعدة أشهر لبعض ممن يعمل في هذا القطاع، مثل: سواق سيارات الأجرة، وباصات نقل الطلبة، والعاملين في المطاعم، عبر دعم أصحاب المطاعم، وبعض المؤسسات الصغيرة والمتوسطة، والتي تأثرت أجور العمالة البحرينية فيها بصورة كبيرة أو كاملة من جراء الجائحة، مما ساهم في تخفيف أثار الجائحة على بعض من أفراد هذه الفئة. إلا أن اتساع هذه الشريحة (كالبائعين الجائلين والعاملين في الأسواق بصورة أفراد، وغيرهم من الذين لم يشملهم الدعم) وطبيعة عملها غير المنظم، ومع غياب الإحصائيات الدقيقة عنها (1)، جعلهم يفتقرون إلى العديد من الحقوق وفي مقدمتها الحق في التأمين الاجتماعي.
إن مقدار الانكماش في عمل هذا القطاع وصل إلى مستوى جسيم، الى درجة توقف العمل في بعضها، بحكم أن طبيعة العمل فيها تستلزم حضوراً جسدياً أو مرتبطة بالنشاطات الاجتماعية والسياحية. وهي قطاعات كان يعول عليها لاستيعاب أعداد من المواطنين، سواء كأصحاب عمل لمؤسسات صغيرة ومتناهية الصغر، أو كعاملين وحرفيين وأصحاب مهن. مما أدى إلى تقلص أو توقف مدخولاتهم طوال الفترة الماضية منذ بداية الجائحة إلى الآن.
وبالرجوع الى ما تنص عليه التوصية العربية رقم (5) بشأن الحماية الاجتماعية في القطاع الاقتصادي غير المنظم من تعريف لهذه الشريحة ب “مجموعة الافراد والوحدات التي تمارس أنشطة مشروعة وتنتج سلعاً أو تقوم بتوزيعها وتعمل لحسابها أو لحساب الغير ولا تشملها الحماية الاجتماعية”، وهذا ما تفتقر له هذه الشريحة من المواطنين في جانب الأمن الاقتصادي وهو عدم شمولهم بأنظمة الحماية الاجتماعية، وهي المنظومة التي مع كل الملاحظات على إدارتها، تبقى هي الملاذ القادر على معالجة تبعات الكوارث والأزمات، عن طريق تشريعات تؤمن لهذه الشريحة من المواطنين الانضواء تحت مظلتها بتشجيع ومساهمة من الدولة.
فإجراءات الدعم المالي المؤقت وإن كانت مهمة، إلا أن تأثيرها محدود ولا يمكن أن تستمر لفترات طويلة، وبذلك فإن من المهم معالجة هذا الأمر عن طريق تشريع يوسع الحماية الاجتماعية للجميع، ويكون في استطاعتهم الاشتراك فيه، مع أهمية تمديد الدعم اللازم للعمال الضعفاء من غير المسجلين في الضمان الاجتماعي أو التأمينات الاجتماعية، فهم يعتبرون في حكم البطالة أو البطالة الجزئية.
هذا مع أهمية إعادة النظر في سياسات التشغيل الموجهة والمعتمدة نحو هذا القطاع غير المنظم، والانتقال إلى تنظيم هذا القطاع عن طريق تنظيمهم في مؤسسات من ضمنها مؤسسات ذات شكل تعاوني أو قادرة على معالجة تبعات مثل هذه الكوارث والأزمات.
(1) (رغم إعلان وزير العمل في تصريح سابق بخصوص حجم القوى العاملة البحرينية والتي قدرها بـ 198 ألف بينها 152 ألف ممن هم مسجلين في مؤسسات وينضوون تحت مضلة الحماية الاجتماعية، وبذلك يتضح أن هناك أكثر من 40 ألف ممن يمكن تصنيفهم بالعاملين في المؤسسات او القطاع غير المنظم)
علاقة المرأة باللغة
تفادت مطبّ الصمت وباحت بما يجول في نفسها
هناك مثل صيني يقول بأن اللغة سلاح المرأة، وأن المرأة تفعل كل ما بوسعها كي لا يصدأ هذا السلاح، فاللغة رأس مالها الوحيد. وهناك من اللغويين من يقول بأن المرأة لشدّة حذرها في استخدام اللغة، تقع كثيراً في مطب الصمت، حين تشعر بأن الكلمات لا تسعفها على قول ما تريد قوله.
وأنا أكتب أطروحة الماجستير عن انعدام الأمن اللغوي لدى النساء المهاجرات من شمال أفريقيا، مرت عليّ مشاهد أدبية لكاتبات كثر تطرقن لعلاقتهن باللغة في وصفهن لها بأنها سلاح ذو حدين، فهي كالأيام، قد تكون يوماً لنا ويوماً علينا. أبرز مثال لرواية تضع قاصتها في انعدام أمان لغوي هي “كدمات النحل” للأرجنتينية لورا ألكوبا، إذ تحكي صفحات الرواية علاقة الكاتبة بلغتها الأم، الإسبانية، واللغة الفرنسية، التي اضطرت لتعلمها لدى هجرتها مع أمها الى باريس بعدما تم سجن أباها في ستينات القرن الماضي بسبب آرائه السياسية، فتعبّر في صفحات الرواية عن شعورها بعدم الأمان عند تحدثها هذه اللغة الجديدة، غير المتمكنة منها: “أخجل من لهجتي”.
كلما طلب أحد منها مشاركته الحديث باللغة الفرنسية، تشعر أنها تكرر ذات الكابوس، إذ هي في الباص عارية وسط جموع غفيرة، وهي لا تعرف كيف وصلت عارية و كيف يمشي الباص بهذه السرعة، رافضاً التوقف، والكل يسمعها ويعرف أنها أجنبية وأنها لا تتقن الفرنسية بشكل جيد بعد. هذا كابوس فعلي عانت منه لورا وهي طفلة، وكان انعكاس لخجلها من لهجتها الإسبانية عند تحدثها باللغة الفرنسية ، وكرهها للغتها الأم، لتشعر فجأة بأنها عارية، دون لغة. هذه الاستعارة التي استمرت لصحفات من الرواية تعكس علاقة المرأة الحميمة باللغة، التي إن خسرتها، خسرت كل شيء، وكيف أن لورا قاومت حتى تمكنت منها، ليصبح سلاحاً لها، لا عليها.
تجد سيمون دو بوفوار بأن “المرأة لا تولد امرأة بل تصبح امرأة” ، وكذلك لغتها التي تقوى أو تضعف بحسب خضوعها للظروف الاجتماعية التي قد تفرض عليها. تقول سيمون أنها لم تدرك مدى الاضطهاد التي تتعرض له المرأة من قبل المجتمع إلا في سن الأربعين، لأنها لم تتعرض له قط، فقد ولدت في وسط اجتماعي شجعها على إكمال تعليمها، وتقلد مناصب مرموقة بفضل اللغة. لم تكن تدرك بأن البعض الآخر من النساء لم يحظين بهذه الفرصة، وبأن اللغة ليست حليفة الجميع.
هناك من يستعمل اللغة سلاحاً ضد المرأة، من أجل إحباطها والتقليل من شأنها، لأنه يعرف مدى قوتها وقدرتها على التفوق. المرأة تفعل كل شيء بحب، وان تحدثت أو كتبت، فعلت ذلك بحب، مختارة أجمل الكلمات الموجودة في مستودعات عقلها المنظم. وهي تتحدث عن الكائن الذي يصبح امرأة، ترمز سيمون إلى شيء من الضعف جعلها تربط نفسها بعالم الرجال، حتى لا ينظر الآخرون اليها بدونية، أو يسند إليها مهام تعيقها من إعتلاء عرش المثقف، كالزواج وإنجاب الأطفال، والجلوس في المنزل. أنا لا أتفق مع سيمون، لأن المرأة من فرط قوتها تستطيع القيام بكل هذه المهام وهي مبتسمة راضية عن نفسها.
ما سر علاقتها المتذبذبة مع اللغة اذاً، التي قد تسعفها حيناً و تغيب عنها حين آخر؟
هل هو الصمت ؟ ذلك الهدوء الذي تحتاج إليه المرأة كي تستجمع قواها وتنطلق مجدداً، مثل الصمت الذي وصفته فيرجينا وولف في “إلى المنارة”، وهي تشبه السيدة رامساي، الزوجة والأم، بالمدفأة التي يجتمع أفراد الأسرة حولها، لتعطيهم من دفئها دون كلام أو طلب مقابل. هناك الصمت الذي تحدثت عنه كذلك في “غرفة تخص المرء وحده” وهي تفكر بالجملة النسائية، فهو لا يعني بالضرورة أن المرأة ضعيفة، أو أنها تعاني من انعدام الأمن اللغوي، بل أنها في حالة ترقب لما يتوقع منها أن تقول، وما ترغب هي أن تبوح به.
تتحدث فاطمة المرنيسي في “أحلام النساء” عن الحدود التي تفصل الرجال عن النساء، وعن ما أمره الأباء من احترام لهذه الحدود في الكلام و الفعل، إلا أن المرأة عرفت كيف تخترق هذه الحدود باللغة التي عملت على تنميقها، والتحدث بها بالعرف السائد، كي تسمع صوتها.
أولئك النساء اللاتي لا يعترفن بالقوانين اللغوية الأبوية قررن صنع كلماتهن الخاصة وإدراج اسمائهن بين كل مذكر، فولدت الكتابة الشاملة التي ترفض الكثير من الحكومات الأوروبية الإعمال بها، معللة بأنها تسبب انعدام الأمن اللغوي عند الكتابة أو التحدث وتعطي اللغة بشاعة، كأن تقول أو تكتب على سبيل المثال “الطلاب والطالبات”، بعدما كانت كلمة “الطلاب” تشمل الجنسين. اللغة الشمولية أعطت اللغة الفرنسية كلمات حروفها مفصولة بالنقاط étudiant.e ومناصرو المرأة في إسبانيا قرروا استحداث اللغة المحايدة، فأضافوا حرفاً في نهاية كل كلمة يرمز للرجل والمرأة.