هكذا بدأ الأمر
كقطعة ناتئة
تتلون بكذب أبيض
ثم تلف شاشاً نظيفاً
وتتظاهر بأنها لا تنخر من الداخل
أنا الآن واقفة على سكة الحديد
ثم إن قطاراً ما لابد وأن يمر
قبل أن يتجذر هذا الجرح في الداخل
في جانبي الأيسر
أضع المحفظة
والمحبس
وقليل من الأوراق الملونة الصغيرة بحجم الكف
ثم أتظاهر بأنني لست بحاجة لأن أكتب قصيدة الآن
أنني غارقة في الوهم
في افتعال الأشياء
في التغاضي المرير
ثم إنني أنتظر الآن ورأسي في القطار
أفكر ملياً
كيف ينتحر الناس بهذه الوحشية
وبأنني ربما أتعذب قليلاً عندما تتقطع ذراعاي
وتدهسني العجلات الحديدية
قد أكون تحت وطأة الصدمة أصلا
وأعرف حينها أنني لن أشعر بشئ
إن اللحظة الوحيدة هي تلك التي سأفقد فيها إحساسي بهذا العالم
ثم سينتهي كل هذا الروع
ليكون مشكلة الآخرين الذين سيتناقلون بشاعة الخبر
أنا لا أشعر بشئ الآن
القطار كان سريعاً جدا
لم يترك ما يكفي ليسمى جثة
إذا أنا أعلم أني لم أترك وجبة كافية للدود
الأمر لا يعنيني حقاً
المهم أن القطار برمته
كان أسرع بكثير
من الكذبة
كان موتاً سريعاً
وأقل بياضاً من جرح غائر
تنمو له جذور وأذرع طويلة
من كذبة بيضاء.
كذب أبيض
التغيير الوزاري.. لماذا وكيف؟!
هل نحن امام استحقاق تعديل وزاري وشيك؟ وهل نحن بالفعل أمام تحولات نوعية بالنسبة لطبيعة الأداء الحكومي؟ وهل الاعفاءات الأخيرة لبعض المستشارين والوكلاء والوكلاء المساعدين وبعض المدراء واستبدالهم بقيادات شابة، مغمورة نسبيا..هي إحدى مؤشرات المرحلة القادمة؟!
تلك الأسئلة وغيرها يتم الحديث حولها الآن في السر والعلن، وتخلق لأجلها السيناريوهات التي في العادة لا يصدق أغلبها، لكن وعلى الرغم من ذلك فإنها تبقى مؤشرات على مكنونات ومزاج الشارع بشكل عام حيال طبيعة ونوعية الأداء الحكومي، على الرغم من ان هناك الكثير نجاحات لا يمكننا اغفالها تحرياً للدقة والمصداقية، والتي ربما كان آخرها النجاح والاستعداد المتميز للبحرين بالنسبة لملف جائحة كورونا، وهو أهم وأخطر ملف لازلنا في مواجهته حتى اللحظة ومعنا الكثير من دول العالم.
إلا أن ذلك لن يعفينا من القول إننا يجب أولاً أن نعترف أننا في البحرين أمام استحقاقات جدية وجديدية قادمة إلينا بقوة وعلى أكثر من صعيد، فها هو الوضع الاقتصادي يرمي بثقله على كاهلنا جميعاً، بكل ما يحمله من عجوزات مزمنة في الميزانية العامة للدولة، وها هو الدين العام ينحو باستمرار باتجاه تصاعدي وحيلتنا أمام وقف هذا التصاعد دونها العديد من العقبات، وقد ازدادت أوضاعنا الاقتصادية سوءاً على مدار العام نتيجة ما فرضته جائحة كورونا من تحديات غير مسبوقة، حيث جرى حتى الآن استنزاف الميزانيات وجزء مهم من احتياطياتنا، عبر صندوقي التعطل واحتياطي الأجيال لتسهيل مهمة التعاطي مع تداعيات الجائحة.
وبالمثل تستمر معاناتنا مع ملفي البطالة والإسكان والتعليم وبض الخدمات الأساسية بشكل أكثر حدّة في ظل تعطل الكثير من المؤسسات والقطاعات الإنتاجية وعدم وجود منهجية واضحة لكيفية التعاطي معها، وتخفيف حدّتها اقتصاديا واجتماعيا، وعلى الجهة الأخرى استمرار الرقعة الجغرافية المتاحة أمام المشاريع الإسكانية في التقلص، علاوة على الميزانيات الشحيحة التي لم تعد كافية للتعاطي مع زيادة الطلبات الاسكانية عاماً بعد آخر نتيجة الزيادة في عدد السكان.
أمام هذا المشهد وتعقيداته لن يكون كافياً أو حتى مقنعاً مجرد الحديث عن تغيير وزاري مأمول يأخذ من تغيير بعض الوجوه القديمة بوجوه أخرى جديدة وسيلة طالما ألفناها حد السأم لسنوات، بل يبقى السؤال رهناً بطبيعىة ونوعية التغيير الوزاري القادم – إن حصل – فعلامات التذمر من أداء بعض الوزارات الخدمية ووزراءها لم يعد خافياً على أحد، وأصبح الجميع منتظراً قدوم التغيير الوزاري لإعفاء بعض الوزراء الذين يكفيهم أنهم أُعطوا الفرصة كاملة من قبل الحكومة والناس ولم يقدموا ما يشفع لهم فعلاً الاستمرار، ولم يقدموا لنا إلا التراجعات والتخبطات على المستويين الإداري والمالي.
هناك من سيقول أن الوزير أياّ كان فهو ينفذ سياسات مرسومة له سلفاً، وبحسب ما يُطلب منه، الا ان ذلك المنطق لا يستقيم بالفعل مع ممارسة العمل الوزاري، ولذلك فنحن أمام نجاحات لدى بعض الوزارات بطواقمها المحترفة والمهنية، وفي مقابل فشل ذريع للعديد من الوزارات الأخرى بطواقمها غير المهنية وغير النمسجمة أصلاً مع توجهات الحكومة، يشهد على ذلك تكرار اخفاقاتها، وفساد بعض مسؤوليها وبشكل مستمر، كما تسجل ذلك تقارير ديوان الرقابة المالية والإدارية سنويا، دون أن نجد أدنى محاولة لإصلاح الأوضاع من أولئك الوزراء في وزاراتهم، مكتفين بتبريراتهم المعتادة حفظا لماء الوجه ليس إلا!
ما يدعونا للحديث عن ضرورة التغيير الوزاري وأهميته، ليس فقط الإستغناء عن تلك الوجوه الوزارية العاجزة، بل يتعداه إلى ما هو أبعد من ذلك، وهو ضرورة الحرص على أن يأتي التغيير الوزاري القادم والذي نرجو أن لا يتأخر- كما يشاع حالياً – إلى ما قبل الانتخابات البرلمانية نهاية العام القادم، بتغييرات جوهرية ونوعية في الكفاءات والطواقم والنهج والمتابعة اللصيقة لممارسة جميع الوزراء ووزاراتهم، فالمهمة الكامنة امام السلطة التنفيذية الحالية بقيادة صاحب السمو الملكي ولي العهد رئيس مجلس الوزراء هي مهمة ذات أبعاد وتحديات غير مسبوقة، ولا سبيل أمام الجميع للتعاطي معها إلا بتوافر الصدق والمصارحة والتفكير في كيفية النجاح.. والنجاح وحده، حتى نعبر معاً ما ينتظرنا من مهمات بنجاحات، فلقد تغير عالمنا بدرجات كبيرة، ولم يعد ممكنا القبول بمجاملة وزير او مسؤول على حساب الوطن، وطالما قبلنا بحقيقة أن البحرين ولّادة، فلن يعيينا البحث عن تلك الكفاءات الوطنية التي لم تنل بعد فرصتها في خدمة وطنها، وحسناً فعل سمو رئيس مجلس الوزراء عندما أقدم على خطوته الأخيرة بإعفاء العديد من الوجوه التي يكفيها أنها أعطيت الفرصة لسنوات، وصار لزاماً ان يعين مكانها وجوه شابة ومتنوعة يحضر فيها العنصر النسائي بشكل أفضل ومختلف هذه المرة، مما يزيدنا تفاؤلاً بأننا على موعد مع تحولات نوعية أخرى قادمة نرجو ان تعطي دفقاً جديداً لعطاء نوعي، وعبر منهجية خلاقة وبرامج عمل عصرية تؤسس لتعاطٍ مختلف مع ما ينتظرنا من تحديات ومصاعب، وهو أمر ليس مستحيلاً بمقاييس الشعوب الطامحة للتغيير والنجاح والتفوق.
مطر صيف
كلمات الأغنية العراقية الجميلة، “حجيك مطر صيف” للراحل الكبير فؤاد سالم ولمؤلفها الشاعر ناظم السماوي، تحمل في مضامينها معاني الحضور والغياب في آن، حضور المطر وغياب تأثيره بسبب حرارة شمس العراق الساطعة.
وكذلك، صار الحديث عن تقارير ديوان الرقابة المالية والإدارية لا يعدو كونه “مطر صيف”، حيث تصدر التقارير وتُحال للجان وزارية لدراستها، ويتم انتقاء بعض ما جاء فيها وإعادة توجيهها للنيابة العامة، وفيما بعض الملاحظات فإنها تذهب إلى لجان الجزاء الإدارية.
وقد رفضت لجنة الشؤون المالية والاقتصادية بمجلس الشورى في العام 2018 إلزام ديوان الرقابة المالية والإدارية بإحالة ما يراه من مخالفات ترقى لمستوى الجناية للنيابة العامة، وأصرّت اللجنة الشورية على “جوازية” الديوان لرفع المخالفات للنيابة العامة دون “وجوبيتها”.
وبررت اللجنة ذلك بأن “إلزام ديوان الرقابة المالية والإدارية إحالة المخالفات التي تنطوي على شبهة جنائية يعني إحداث خلل جوهري في عمل الديوان، إذ من شأن ذلك تحويله من جهة رقابة وتدقيق إلى جهة تحقيق، وهذا أمر تختص به النيابة العامة ويختلف عن دور الديوان المتمثل في الرقابة والتدقيق”.
لمعالجة ما ذهبت إليه اللجنة الشورية، هناك تجربتان خليجيتان سعودية وكويتية، ففي الدولتين الشقيقتين استحدثت جهة مستقلة محايدة مهمتهما “حماية النزاهة وتعزيز مبدأ الشفافية، ومكافحة الفساد المالي والإداري”، و”درء مخاطره وآثاره وملاحقة مرتكبيه وحجز واسترداد الأموال والعائدات الناتجة عن ممارسته وفقا للقانون”.
ولعلّ هذا ما نحتاج نحن إليه تحديداً، جهة مستقلة ومحايدة يكون تأسيسها من الجهات ذات الاختصاص قضائياَ، والمعنيين من ممثلي مؤسسات المجتمع المدني العاملة في ذات المجال، تكون مهمتها دراسة تقارير ديوان الرقابة المالية والإدارية، ولكونها جهة ذات استقلالية فإن ذلك سيضمن سرعة النظر في تلك التقارير واتخاذ اللازم بديناميكية. كما يمكن أن يُعهد لها مهمة استلام بلاغات شبهات الفساد أياً كان مصدره، وهو أمر لا يمكن أن يتحقق على أرض الواقع حالياً لتضارب المصالح وتداخل الاختصاصات بين مختلف الجهات المعنية بالرقابة وتتبع بلاغات الفساد.
إيجاد جهة مستقلة تعنى بالنزاهة بحرينياً أسوة بنظيرتيها في السعودية والكويت، وفق أسس الحياد المهنية وبما يضمن المساءلة للجاني وحفظ هوية وحقوق الكاشف عن تلكم الممارسات التي امتلأت بها صفحات تقارير ديوان الرقابة المالية، قد يسهم في إعادة ثقة الرأي العام في أهمية وجود ديوان الرقابة والمالية والإدارية بصفته حامي المال العام وحصانته.
حامل في زمن “كوفيد”
طرقت عاملة المنزل باب غرفة مخدومها والذي يقيم في غرفة منفصلة عن زوجته. قالت: “سيدي أودّ أن افاتحك بأمر يخصني”. توجس الرجل شراً، أسرعت هي بالقول: “أنا حامل ولا أدري ماذا أفعل”. ارتسم الغضب والاستياء على وجه الرجل، حامل في زمن كوفيد، حيث صعوبة السفر وإغلاق المطارات وتعثر استقدام العمالة من الخارج، لم يدر ما يفعل إزاء هذه المفاجأة، قال لها: غداً افاتح زوجتي بالأمر، ونناقش المسألة بمختلف جوانبها، قبل أن يغلق باب غرفته،علقت العاملة: “سيدي، دعني اذهب إلى بلدي وأسوي أموري واعود إليكم. أنا فقيرة وعائلتي تعتمد على راتبي ولا أود خسارة ذلك من أجل خطأ غير مقصود”.
في الصباح اجتمعت الأسرة واضعة أمامها عدة خيارات للتعامل مع حمل الشغالة، الابن الأكبر أصرّ على أخذها إلى الشرطة والتبليغ عن واقعة الحمل ثم تسفيرها على أقرب وأنسب رحلة طيران على حسابها الخاص عقابا لهاً على استهتارها. الأب اختار المعالجة الهادئة بعيداً عن “الشوشرة” والفضائح مفضلاً تسفيرها قبل تطور الحمل وإلغاء تأشيرتها والبحث عن عاملة منزلة جديدة .
أما الأم التي كانت أكثر حزناً من الجميع لشعورها بخسارة عاملة المنزل التي وثقت فيها، وقامت بتدريبها وتحملت أخطاءها وغفرت لها مراراً، فرأت منح عاملة المنزل فرصة جديدة ومختلفة هذه المرة لتصحيح ومعالجة خطأها في بلدها ومنحها تذكرة سفر مرجعة واستعادتها مجدداً.
وما هي إلا عدة ساعات حتى انقلب البيت رأساً على عقب. احتدم النقاش والصراخ وقرر الابن أنه سيترك البيت إذا تمّ الإبقاء على هذه المرأة التي رأى أن الأسرة تكافئها على خطأها بدلاً من معاقبتها وتسريحها وتحميلها وزر ذنبها.
عاملة المنزل الإفريقية تبلغ من العمر 27 عاماً، على قدرٍ من الجاذبية والجمال.عاشت مع الأسرة أربعة أعوام تخللتها زيارة واحدة إلى بلدها قالت إنها تتهيأ للزواج من أحد أبناء بلدها، حين عادت راحت تشتري لوازم للبيت المستقبلي من ستائر وأوانٍ منزلية وغيرها، لا تبارح البيت إلا برفقة مخدومتها أو لشراء لوازمها الخاصة. لم تعترف عاملة المنزل بمن تسبب في حملها بل تذرعت بالقول إنها دخلت دورة مياه غير نظيفة في أحد الأسواق، وربما كان ذلك هو السبب. قال لها الابن بغضب: “قولي لزوجك إن والد الطفل هو الحمام”.
الأخطاء تحدث وعلى جميع الأصعدة مع هذه النماذج من البشر الذين يفدون إلينا حاملين معهم إرثهم وثقافتهم المختلفة عنا، تاركين خلفهم عائلاتهم وعلاقاتهم وملاذاتهم الاجتماعية الآمنة، وكل يوم تسجل مراكز الشرطة ومقار إيواء العمال الوافدين والسفارات مئات الشكاوى للعمال ولعاملات المنازل، وللنساء النصيب الأكبر فيها، إذ قد يتعرضن للاغتصاب أو يستسلمن لنداء الطبيعة ولغريزة الجنس الجبارة الطاغية، أو يتم اغوائهن فينتهي الحال بهن إلى الحمل المباغت أو الإقدام على الإجهاض بوسائل بدائية أحيانا قد تعرض حياتهن للخطر.
انتصر قرار الأم وسافرت عاملة المنزل على أمل العودة بعد شهر، لكنها كتبت إلى مخدومتها رسالة على الواتس اب بعد وصولها تقول فيها: “سيدتي: شكراً على تعاطفك معي ومساعدتك لي، ولسوف أكون ممتنة لك طوال عمري، لكن الاجهاض فضلاً عن أنه محرم في ديني فإنه قد يحرمني أيضاً من فرصة الإنجاب مستقبلا”.
ثم كتبت لاحقاً: “أنا في حيرة من أمري، ولا أدري ماذا أفعل؟ لكني أعتقد أنني سأبقى على الطفل هنا في بلدي وسوف ترعاه أمي وزوجي وأختي في حال حصلت على وظيفة جديدة خارج بلدي، وإذا رغبتم في استقدامي فسوف أكون جاهزة للقدوم بعد ولادة طفلي”.
هذه العمالة المنزلية تعيش بين ظهرانينا، لها ما لها وعليها ما عليها، إلا أنها تتوغل عميقاً في أدقّ تفاصيل معاشنا، تربي أبناءنا والمسنين منا، ترعى شؤوننا في حضورنا وغيابنا، تصير جزءاً من نسيج حياتنا، لكن حين يصدر عنها خطأ ما يجري التعامل معها بوصفها مخلوقات غريبة، وكثيرون عند حدوث الإشكالات معها، ينزعون عنها لا مجرد حقوقها القانونية بل حتى هويتها الإنسانية التي يتشارك فيها جميع البشر، وهم “إما أخوة لنا في الدين أو نظراء لنا في الخلق” كما يفصل الإمام علي، ترى لو أن أحد ابنائنا أقدم على أخطاء مماثلة، هل كنا نكيل بنفس المكيال؟
فنجان قهوة
لونه كحبة قهوة ورائحة كلامه كلون الليل، ينسج بيارق الألم وهو يكلمني، غافلته ورسمت ابتسامة رقيقة على شفتي، كانت رسالة بريئة ودعوة مفرطة لترك هذا الألم، غافلني وقهقه بصوت حزين، ضحكت وتناثر صوت ضحكاتنا في أرجاء ذلك المقهى، اغرورقت عيناه بالدموع من شدة الضحك لكنه صمت مرة أخرى وراح يهلوس ويتمتم بكلمات مبهمة.
ماتت وغادرت أرضاً تحمل لها النوارس وتزرع ياسمين الحلم على عنقها، كانت رقيقة، ناعمة، مخلصة تصوري ماتت على يدي، بين أحضاني وهي تُسمعني اعترافات حب مزقه الصمت: أنت من أحببت دائما، كنت هنا وتشير لقلبها تسكن حناياه بهدوء لم تكن كالآخرين، تحب في هدوء ويقين لا طمع في مال ولا جسد، وكنت أنثر حولك نظرات مليئة بالحب والعطف، لم أكن أستطيع أن أبثك حبي أنت بالذات، لا أستطيع أن أبثك هذا الحب إلا وأنا على هذا الفراش، أحببتك دائماً. أخذت يديّ واحتضنتهما بين دموعها، كانت تلوم هذا القدر الذي يجعل منا طبقات، قبلتني ونامت، نامت كملاك يحرس قلبي وبقت على حراسته حتى اليوم، لا يمكن لأنثى أن تفك هذه القيود وتزيح حراستها. كيف يمكن أن أحتمل؟ مرت السنون وأنا أذكر نظرتها وأحقد على المرض والطبقات.
كان يتكلم وهو ينخر في قلبي ذكرى لا تندمل جراحها: أيها الموت ماذا لو أعطيتني قليلا من الوقت لأراه؟ كان يرفل في الحب، وكنت متيمة، وكانت المسافة تخرق القلب، والبعد لا يصنع إلا قربا أتنفسه ويعيش على هوائي، نقتات بكلمات رسائلنا ونثرثر بأيام اللقاء القليلة، نشرب ذكرياتنا مرا وعسلا، وكان المرض ينهش كليتيه، كان يكابر كي لا أعرف ولم أعرف ولكنني كنت في شك دائم. هناك أمر ما تركني وترك الشك يساورني، كان يهدف أن أكرهه وأحقد عليه وكنت في شك من أن ينساني، كانت الصديقات المقربات يعلمن وكنت أردد لهن لماذا يتركني؟ وتمر الأيام متشابهة سلاحف تجر ثوانيها، ومازال حبه يغرد بصمت.
داخلي هتاف لا ينفك يتطوح مع أنفاسي ينادي باسمه كصدى الليالي الباردة في كهوف الوحدة، كيف يحرك نرجسات العشق بداخلي وهو الذي خذلني وتركني فريسة لوحوش الظنون تقتات من قلبي؟ لماذا لا أكرهه؟ لماذا هذه الذكرى تحاصرني وتشد قيودها وتترك آثارها على معصم القلب وتغلفه بحزن قاتل؟ لماذا لا يتناغم قلبي مع غيره وهو المخادع في نظري، ولكن هيهات، للقلب حس صادق، وشهقات الحب مازالت تصلني عبر ابتكارنا الخرافي “ناديني فقط حين يضيق بك الوقت سأنفلت من المكان وأرسل محطات قلبي لتستريحي عليها” وأناديه وكان يحضر متعبا يملأ القلب بصليل لا يهدأ، كانت الصدفة وحدها التي أخبرتني أن هناك خطبًا حين رأيته كان هزيلاً. رميت بجسدي المثقل بالهم والحب عليه. ذكرني حينها أننا في الشارع سألته عن صحته ولما هو هزيل، ضحك وقال: العمل كثير، كنا نودع صديقاً مشتركا ولم أره بعدها إلا بعد معرفتي بمرضه.
أمه من أخبرتني حين اتصلت بحجة واهية أطلب المساعدة بما أني غريبة عن بلدي. قالت: “يا عيني عليه هو بالمستشفى مريض.. ألا تعلمين؟ تكلمت كثيرا لا أعرف كيف انتهت المكالمة ولا كيف عدت لبيت صديقتي التي تستضيفني كل ما أعرفه أني تمرغت على أرض الألم أصرخ بجنون وعتب لصديقتي لما لم تخبروني؟ والتقيته كان لقاء الوداع ودعته قبل أن يسافر لأحدى الدول طلبا للعلاج.
عدت لبلدي وكان الهاتف هو همزة الوصل، إلى أن كان ذاك اليوم اتصلت فيه للاطمئنان على صحته، وكنت أغالب حلم فسره أحد الأصدقاء بما لا أرغب، كلمني أخوه بعد سلام قصير (……….)، هل يمزح؟ ماذا يقول؟ كيف أتصرف؟ لمن ألجأ؟ كل دموع الدنيا لا تشفي غليلي كل الحزن يتواضع أمام حزني، هو هناك في البلاد البعيدة وأنا أغالب وجعي، هل أبتر الحزن ودموعي؟ أبتر روحي؟ وأكمل لك حكاية قلب حين غادر الحب كيف استحال رمادا.
من أجل حزنك اختصرت كل الحزن، لم أذكر التفاصيل الموجعة وتغاضيت عن مشاعري، من أجل حزنك نفيت روحي لبلاد الصمت ومزقت ذكرياتي على فنجان قهوتك، حين زرته كان شاهداً واسماً. صمت كثيراً قبل أن يطلب فنجان قهوة أخرى ويطلب مني أن أحتسي الحزن وألم الفقد.
المجتمع الأمريكي بين الإنقسام والديمقراطية المعتدلة
عندما يستهل الرئيس الأمريكي الجديد عهده بمخاطبة الرأي العام الأمريكي بالقول: “لا يمكننا ترك الأمريكيين يجوعون أو يطردون من بيوتهم، ويفقدون وظائفهم”، فهذا معناه استشعار بخطر تصدّع المجتمع، وان ما يواجه الداخل الأمريكي من خطر ليس نتاج أسباب خارجية، إنما نتيجة معضلة داخلية تكمن في ازدياد الفجوة بين مختلف ألوان وأطياف وطبقات الشعب الأمريكي، وذلك بعد بعد استشراس الرأسمالية الأمريكية لصالح تعزيز سطوة شركات التكنولوجيا والصناعات العسكرية المرتبطة بالدولة العميقة ارتباطاً وثيقاً.
جاء ذلك في تحليل لموقع “المراقب” ولكن يجري ذلك على حساب أهمال الرعاية الصحية والعائدات المالية والتعويضات الاجتماعية التي تخصّ عامة الشعب، إضافة إلى انكشاف واخفاق وعجز الإدارة الأمريكية في مواجهة جانحة كورونا.
بدأ الداخل الأمريكي في مشهد غير مألوف، فهناك مشاكل عدة تفاقمت منها المشكلة المزمنة، وهي عنصرية اللون بين الأبيض والأسود، وازدياد الفارق الطبقي في المجتمع بين مواطن ومهاجر، إضافة إلى تراجع واضح في ميزان الناتج القومي وانخفاض معدل النمو الاقتصادي لأدنى مستوى منذ عقود خلت نتيجة العوامل التي ذكرت والتي اسهمت في تعميق الفوارق الطبقية والإنشقاق بين مختلف مكونات المجتمع الأمريكي، لتنتقل أمريكا بعدها إلى مرحلة أخطر وهي مرحلة الإنقسام العمودي على مستوى الشعب، بين مناهض لسياسات الدولة العميقة وبين مؤيد للرئيس السابق دونالد ترامب الذي اجتهد في تعصبه لمصلحة أمريكا بمعزل عن أجندة الدولة العميقة، ولوكان ذلك عن طريق السطو على ثروات دول لتوظيفها في مصلحة بنوك أمريكا ولمصلحة الشعب الأمريكي.
انقسم المجتمع الأمريكي بين مؤيد لترامب وبين مؤيد لجوزيف بايدن الموصوف أنه سليل الدولة العميقة، انقسام تُرجم بأعمال شغب وفوضى في الشارع الأمريكي نتج عنه ما عرف ب “غزوة الكابيتول” فضاعت الديمقراطية في زواريب واشنطن، الأمر الذي أدى إلى احتلال المبنى لساعات، ما استوجب استدعاء الحرس الوطني الأمريكي لإنهائه، وهكذا استطاعت الدولة العميقة فرض ديمقراطيتها بقوة العسكر وبالتالي تثبيت فوز مرشحها بايدن رئيساً لأمريكا.
انقسم المحللون وأصحاب الرأي بين إمكانية تجاوز أمريكا للإنقسام الداخلي بترميم الديمقراطة فيها، وبين من رأى أن ما شهدته أمريكا مؤخراً خلق مناخاً جديداً سيعمق الانقسام مستقبلاً، وخصوصاً أن قسماً من المجتمع الأمريكي تذوق طعم التمرد على الشرعية في محاولة لمنعها من فرض ديمقراطية مزيفة، وأنه لن يكون باستطاعة أمريكا تجاوز ارتدادات ما حصل لأنه سيشكل عاملاً ضاغطاً على الإدارة الأمريكية للانكباب على ترميم ديمقراطيتها المعتلة والبحث عن السبل الآيلة لإصلاح البيت الأمريكي الداخلي.
بعد دخوله البيت الأبيض صرح بايدن أن اولوياته هي إعادة اللحمة وتعزيز الاتحاد في المجتمع وهذا دليل بأن إرهاصات الإنقسام الداخلي قد بلغت مرحلة خطيرة إلى مستوى غير مسبوق في تاريخ أمريكا، وباتت تهدد معها أسس النظام، وإن اصلاح ذات البين في الداخل الأمريكي سيحتاج إلى وقت طويل.
وبالانتقال إلى منطقتنا العربية وأزماتها المفتوحة نرى أن بعض الجهات تعوّل على تغيير في نمط سلوك الإدارة الأمريكية الجديدة وانها ستكون أكثر عقلانية من سابقتها في التعاطي مع القضية الفلسطينية وإيران وسوريا والعراق واليمن وليبيا.
وفي نظرة سريعة على مكون أعضاء إدارة بايدن يتضح لنا عبثية هذا التعويل، لأن هؤلاء داعمون للعدو الإسرائيلي بشكل مطلق، وهم انفسهم أصحاب فكرة تقسيم العراق، وهم من رافضي تنفيذ الإنسحاب الأمريكي من سوريا، وهم الداعون للاستيلاء على نفط العراق وسوريا، وهم اصحاب مشروع اقتطاع شرق الجزيرة عن سوريا وتنصيب شخصية سورية رئيساً عليها شبيهة ب” اخوان غوايدو” في تكرار للسيناريو الفنزويلي لإبقاء المنطقة بحالة اضطراب مع حروب مفتوحة بالوساطة من خلال اعادة الحياة في “الإسلام السياسي” واطلاق جديد لتنظيم داعش في كل من سوريا والعراق ولبنان وتنظيم الإخوان في كل من تونس ومصر والسودان وليبيا.
في روسيا اقتتحت إدارة بايدن عهدها بتورط فاضح في محاولة افتعال ربيع روسي من خلال استثمار قضية المعارض الروسي الكسي نافالتي، وبالنسبة لإيران وبرغم إعلان بايدن رغبته بالعودة إلى الإتفاق النووي مع طهران، يبدو أن الدولة العميقة في أمريكا صعّدت من شروطها مضيفة برنامج إيران الصاروخي وانضمام دول الجوار بما فيها إسرائيل بحجة تطوير الإتفاق.
صحيح أن الاهتمام الأمريكي حالياً منصب على تلميع صورتها عالمياً من خلال اعادة الإنخراط في معاهدة المناخ في باريس واعادة العمل باتفاقية سارت للحد من انتشار الأسلحة النووية، لكن الهدف الأساسي لإدارة بايدن هو إعادة ترميم التحالف الأوروبي الأمريكي، وربطه بها لتشكيل جبهة مواجهة ضد الصين وروسيا، لذلك نرى تناغماً فرنسياً ألمانياً لتنفيذ رغبات إدارة بايدن الموالية للدولة العميقة في أمريكا تحمل معها مؤشرات تصعيد الحروب في دول المنطقة الداعمة لمحور المقاومة مترافقة مع ضغط اقتصدي وعسكري متواصل.
البطالة قلق دائم لشباب البحرين
تُشكل البطالة قلقاً دائماً لشباب البحرين منذ سنوات، عاماً بعد عامٍ تزداد تعقيداً وصعوبة أمام خريجي الجامعات والثانوية العامة الباحثين عن العمل، ولتحقيق آمالهم وتطلعاتهم في بناء مستقبلهم، ولكن كل تلك الطموحات والتمنيات تصاب بالخيبة واليأس، فطوال عقود من السنين لم تضع الجهات المعينة في الدولة رؤى واضحة للخروج من تلك الأزمة المتأصلة، والتي أصبحت مثل المرض المزمن، والدواء الموجود لا يعالج الجسد المريض ولا يخفف آلامه المستمرة، مشاريع ومعارض ومؤتمرات التوظيف تنظمها الجهة الحكومية المعنية ربما في العديد من المرات في السنة دون جدوى، لأنها لا تتوجه لمعالجة جذر المشكلة.
البحرنة ليست شعاراً يُرفع أو كلاماً يتردد على لسان هذا المسؤول أو ذاك، وليست شهادة بحرنة تفرض على تلك الشركة أو الأخرى استخراجها من أجل الحصول على مناقصة حكومية في هذه الوزارة أو تلك، بدونها لا تستطيع الدخول فيها، بل يجب أن تكون “البحرنة” استراتيجية واضحة المعالم، عندما توضع تتم دراسة كل الصعوبات والمعوقات وكيفية التغلب عليها، من أجل تحقيق الأهداف المرجوة منها، وأن تكون ملزمة لكل الجهات، أي القطاعين العام والخاص، وهذا لن يحدث إذا لم يكن مدعوماً بقرار سياسي، يبدأ بتحديد الوظائف التي يجب ان تكون حصراً على البحرينيين، وبالأخص في القطاع الخاص وهي كثيرة مثل: الموارد البشرية، الهندسة، السكرتارية، المحاسبة، تكنولوجية المعلومات، تدقيق الحسابات، المبيعات، المشتريات، والقطاع العام “الحكومي” في وزارات التعليم والصحة وغيرها حيث يتعين تقليل نسبة العمالة الوافدة فيها، وإحلال المواطنين العاطلين من الشباب الخريجين، مثلما فعلت سلطنة عمان الشقيقة.
جاءت جائحة كوفيد 19 وما أحدثته من أزمة اقتصادية ومالية كبيرة في مجالات عدة وتداعياتها المستمرة، لتسرع من تنفيذ ذلك القرار المؤجل منذ سنوات في العديد من دول مجلس التعاون الخليجي، وكان بالإمكان تنفيذه في السابق، فالعمل به حالياً يعتبر خطوة إيجابية لحل مشكلة البطالة في المجتمع البحريني والخليجي، في الوقت التي تعج بلداننا بالملايين من العمالة الوافدة، ففي بلادنا البحرين عالجت الدولة معضلة العمالة السائبة أو الهاربة من أرباب العمل بإعطائها ما يعرف ب”التأشيرة المرنة”، بالرغم من معارضة أرباب العمل لهذه الخطوة الحكومية إلا أنهم لا يستطيعون الوقوف ضدها.
وقد عبَّر رئيس غرفة تجارة وصناعة البحرين في مقابلة مع الصحافة المحلية في العام الماضي، عن استيائه من ذلك، حيث يبدو واضحاً أنه لا يوجد اتفاق بين الحكومة والغرفة بشأن “الفيزا المرنة”، حيث أصبح حاملو تلك التأشيرة “أرباب عمل” ينافسون كفلاءهم السابقين في العديد من الأعمال والمشاريع وبأسعار أرخص منهم، وأصبح البحرينيون من أصحاب الشركات والمشاريع الصغيرة هم الأكثر تضرراً، وجاءت جائحة كورونا لتقصي من تبقى منهم في السوق.
ما يجري تجاهله هو أن أي مشروع استثماري أو صناعي لا يستفيد منه أبناء الوطن لا جدوى منه، فهو واستنزاف للمال العام لصالح مستثمرين أجانب ومشاريع تجارية فاشلة يجب أن تتوقف، وأن لا تكون البحرين حقل تجارب للفاشلين والفاسدين الأجانب، الفساد المالي والإداري والاقتصاد غير المنتج لا يمكن ان يبني وطناً متقدماً في الصناعة والتجارة والاقتصاد.
منذ فترة وجيزة طرحت الدولة مشروع توظيف 20 ألف من المواطنين الخريجين في عام 2021، فكرة ممتازة، وإنْ سبق طرحها في السنوات الماضية، السؤال هنا، كيف تتحقق وماهي الخطوات التي وضعت لتنفيذه؟، لا نريد أن ندخل في تفاصيل المشروع، ولكن الشفافية مطلوبة لمحاسبة الجهة المقصرة في التنفيذ، فما أكثر المشاريع والرؤى التي طرحت ولم تتحقق على أرض الواقع، واستمرت البطالة وجعاً يقلق آلاف الشباب ومعهم أسرهم في بلادنا، خلافاً لما ينصّ عليه الدستور في مادته ( 13) – ب، التي تنص على أن “تكفل الدولة توفير فرص العمل للمواطنين وعدالة شروطه”.
بالمقابل يجب أن تتوقف الحكومة من استنزاف صندوق التأمين ضد التعطل عند كل مشروع أو أزمة تحدث في البلاد، مثلما حصل مع مشروع تمويل التقاعد الاختياري لعام 2019 بمبلغ وقدره ( 230 ) مليون دينار بحريني، وفي جائحة كورونا تم سحب ( 215) مليون دينار بحريني من الصندوق لدفع رواتب البحرينيين في القطاع الخاص لثلاثة أشهر (مارس، أبريل، مايو 2020)، إجمالي المبلغ 445 مليون ديناراً بحريني، حوالي نصف مبلغ الصندوق ( 800 مليون ) دينار أو اكثر بقليل، كان الاجدر بأن يتم إنجاز مشروع كبير في البلاد يُوظف فيه العاطلون ويوفر لهم حياة كريمة بدلاً من الانتظار والبحث عن العمل لسنوات طويلة، فالمطلوب مشاريع جادة ذات منفعة للمواطنين، واعتماد الشفافية في كل مشاريع الحكومة المعلن عنها، وعلى أعضاء مجلس النواب القيام بالدورالرقابي والتشريعي المناط بهم بهذا الشأن.
الأزياء حكايات
كوكو شانيل وقصة نجاح
“الطبيعة تمنحكِ الوجه الذى تحملينه في العشرين، والحياة تشكل وجهكِ في الثلاثين، ولكن في الخمسين تحصلين على الوجه الذى تستحقينه”.
بمقولة كوكو شانيل أبدأ، تلك المرأة التي استطاعت أن تصنع أسطورتها في عالم الموضة، فتحوّلت إلى مادة مليئة بالمغامرات لأكثر من 10 أفلام في السينما العالمية، وهذا ما جذب النجمة الشابة كرستين ستيورت لتصبح بطلة أحدث الأعمال السينمائية، فمن هي كوكو شانيل؟ وما الذي دفعها لتكون من أهم المؤثرات في عالم الموضة؟ وقد تركت بصمتها في أهم الماركات العالمية.
ولأننا مشغولون بحكايا النجاح، وليس أي نجاح، تخيلوا فقط طفلة يتيمة، تدعى جابرييل بونور شانيل وهو اسمها الحقيقي، تستطيع أن ترسم طريقها في عالم الشهرة، وأن تنتقل من دار الأيتام، إلى أهم دار في عالم التصميم والموضة.
ومما لا شك فيه، فإن للأزياءِ حكاياتٍ، ارتبطت بمن يقفون وراءَها، لا سيما في عاصمة الفن والجمال باريس، ويأتي اسم كوكو شانيل بين أهم عمالقة مبتكري تصاميم الأزياء في العالم.
ولدت كوكو شانيل في فرنسا 19 آب عام 1883، وعاشت في غرفة واحدة هي وإخوتها الخمسة، وكانت ببلدة في الريف الباريسي ” Brive-la-Gaillarde”. شاء القدر أن تفقد والدتها وهي في الثانية عشرة من العمر، بعد أن أصيبت بمرض السلّ، فأرسلها والدها لدار الأيتام وقد فتحت أمامها هذه الدار دربًا جديدًا، بعد أن بدأت تكتشف موهبتها في عالم الخياطة والرسم والتصميم، ولم يكن أمامها سوى طريق الحلم والتحدي.
فقد تعلمت الخياطة وأتقنتها في تلك الفترة، وحين بلغت الثامنة عشرة من العمر تركت الدار، إلى دار داخلية أخرى للفتيات، أتقنت خلالها الخياطة أكثر، ويرجع اسمها إلى أغنيتين شعبيتين تميزت في غنائهما Coco ، Ko Ko Ri Ko وQui qu’a vu Coco..
كانت مغنية، لكنها سرعان ما عادت إلى فن التصمصم الذي شكل لها هاجسًا حقيقيًا، ترسم تقص، تحاور الورق والقماش، ويفتنها اللون، لا سيما اللون الأسود، الذي يعتبر سيد الأوان. بدأت شانيل رحلة التصميم بابتكار تصاميم خاصة للقبعات النسائية، وحصلت على ترخيص كمصممة عام 1910، ثم افتتحت بوتيك بباريس أطلقت عليه اسم شانيل موديل، شكّل بداية لها في عالم التجارة وسرعان ما أطلقت أول عطر، إلى جانب ما تميزت به من تصاميم، لا سيما الفساتين التي حملت لونًا أسود، والتايورات ” Chanel Modes”.
بدأت ممثلات المسارح بارتداء قبعاتها، لاسيما غابرييل دورزيات في إحدى مسرحيات فيرناند نوزييغ ” Bel Ami”، فانتشر الخبر في مجلة وكان هذا أكبر إعلان لها، بدأت بعدها ببيع القبعات بشكلٍ خيالي، إذ تحوّلت إلى موضة زمانها. ثم أضافت الفساتين والتايورات، بعد نجاحها في تصميم فستان من قميص شتوي قديم، وما حققته من نجاح، وكانت ترد على الصحفيين: لقد بنيت ثروتي من هذا القميص الذي كنت أرتديه.
في عام 1920 أطلقت عطر شانيل 5، وكانت تتفاءل بهذا الرقم، بعد أن قالت لها عرافة تمسكي بالرقم خمسة، فإنه رقم الحظ لك. في عام 1925، واصلت مسيرتها بنجاج ملفت، وكان هذه المرة تصميم أسطوري أهم ما يميزه الأنوثة والبساطة الجارحة، طقم مكون من سترة بلا طوق مع تنورة من نفس قماش السترة، واعتبرت امرأة ثورية، كونها كانت تستعير تصاميم للرجال وتعدلها محققة شرط الراحة للمرأة.
وكأي سيدة أعمال وفنانة، عانت كوكو شانيل في فترة الحرب العالمية الثانية من ركود اقتصادي، أثر عليها. ويقال إنها كانت على علاقة مع ضابط ألماني، أثناء الاحتلال الألماني لفرنسا، وقد تمّ استجوابها ولم توجه لها أي تهمة، رغم الشائعات الكثيرة حينها، وقضت بعدها عدداً من السنوات في سويسرا كنوع من راحة الفنان، بعيدًا عن أجواء القيل والقال، والحروب أيضًا.
بقي الحلم يراودها، بأن تبقى حاضرة في هذا العالم المثير للأضواء والشهرة، ولم يهمها أنها في سنّ الـ 70، عادت شانيل إلى عالم الموضة. تلقت تعليقات مسيئة من بعض النقاد، ولكن بتصاميمها الأنثوية المريحة حصلت على المتسوقين من جميع أنحاء العالم.
عام 1969، أصبحت قصة حياة شانيل الرائعة الأساس لمسرحية برادواي الموسيقية واعتبرت من أهم 100 شخصية عالمية مؤثرة في القرن العشرين، حسب مجلة التايم.
كوكو شانيل”مصممة الأزياء الفرنسية لا يزال اسمها خالدًا حتى الآن وتحلم جميلات العالم باقتناء قطعة أزياء أو حقيبة تحمل توقيع دارها العريقة، والاستمتاع بعطرها المميز.
ما تبقى من “كوكو شانيل” ليس فقط علامة الأزياء العريقة، ولكن أيضًا آراءَها ومقولاتها التي تعكس طريقة تفكيرها المميزة التي تحتاج كل فتاة للتعرف عليها، ومنها: بعض الناس يعتقدون أن الفخامة عكس الفقر، ولكن العكس هو الصحيح، فالفخامة هي عكس الابتذال. “كي تكوني امراةً عصيةً على الاستبدال، يجب أن تكونى دائمًا مختلفة”. ارتدي فستانًا رثًا وسيتذكر الناس فستانك، ولكن إذا ارتديتى فستانًا أنيقًا سيتذكرون المرأة التي ترتديه”، “أي امرأة لا تضع العطر، هى امراةٌ لا مستقبل لها.”
آمنت بالبساطة، البساطة التي تكثف معنى الأناقة، فالبساطة هي كلمة السر للأناقة الحقيقية، وأجمل الألوان هو اللون الذي يبدو عليك جميلًا.
ولأنها أعطت معنىً للجسد، والحركة، والرشاقة، في منح القطعة التي تصممها معنىً، فقد اعتبرت أن الفستان قد يبدو جميلًا على الشماعة، لكنه يصبح أكثر جمالًا مع حركة الجسد والخصر، وروح صاحبته وحضورها الذي يمنح الأشياء جمالًا.
التنوير في الأدب البحريني ( 2- 2)
لا شك أن أمكنة اللقاءات التي تجمع الأدباء والمثقفين والكتاب والفنانين وغيرهم، مثل المقاهي الشعبية، والصالونات الأدبية والثقافية، وبعض منازل رجالات المجتمع، كل هذا هي منارات ثقافية أتت أكلها، كمقاهي باريس التي أشار لها جيرار، وجورج لومير في كتابهما (المقاهي الأدبية من القاهرة إلى باريس)، وكذلك صالونات مصر كصالون مي زيادة، أو صالون عباس محمود العقاد، وتلك مقاهي العالم العربي، وتحديدًا في دول الشمال العربي، إذ كانت لهذا المقاهي دور كبير ومهم في نشر الوعي الاجتماعي والثقافي الذي تمظهر فيما بعد في الكتابات الإبداعية عامة، والخطب السياسية ضد الدول الاستعمارية، والخطب الدينية، فضلاً عن دور الحكواتي آنذاك بشكل أخص.
وبما أن التنوير في الأدب عامة وفي الحياة والمجتمع يدخل في سياقات جدلية وثنائية ضدية، أي التنوير الذي يراه هذا المرء صحيحًا، يراه آخر غير صحيح، وأكان تحليل مفهوم التنوير يكون في دائرة التأويل الذي نحتاجه حقيقة لتأويل قضايانا المجتمعية، أو لقضايا فكرية أو فلسفية أو ثقافية، أو أدبية، أو لقيم ومفاهيم ومبادئ، وكأن التأويل هو التنوير، والتنوير هو التأويل، وهكذا تتم العملية التي تسعى مفاصلها إلى الكشف وإزالة الإبهام، وفتح كوة أفق في جدار الانغلاق، الأمر الذي يتطلب مناخًا من الحرية المسئولة لوجود هذا التنوير، فالتنوير والحرية المسئولة صنوان لا يمكن أن يتفرقا.
وكما يعرف المتابع للمشهد الأدبي والثقافي البحرينيين في بداية الثمانينيات حين برزت الحوارات والمقالات والبيانات التي تتناول الكتابة والفن إن كان من أجل الحياة أو من أجل الفن، ففي الوقت الذي كنا نرى هذه المقالات على الصحافة المحلية ضمن السجال والحراك الأدبي شكل من أشكال الحوار والمناظرة في المفهوم، وكيفية التعامل معه، فإنها أسهمت في وعي القارئ بأهمية الكتابة، ودورها في المجتمع وعلاقتها بالفن، وأهمية الالتزام بالنسبة للكاتب تجاه النص الإبداعي وقضايا المجتمع والقارئ، وأي تلك الزوايا والبؤر التي يضعها التنوير أمام القارئ لكي يطرح عليها أسئلتها، وهذا ما يعني أن كتاب ومبدعي تلك المرحلة يحملون هم المجتمع وقضاياه، ولديهم رؤية تجاه ماضيهم، وواقعهم، ومستقبلهم، لذلك كانت نصوصهم مهما كانت المناداة في اتجاه الفن أو في اتجاه الحياة، فهي تتضمن بل مشحونة بالرمز المفضي إلى الواقع، ونقده وما يحمله من تناقضات، وكيفية السيرورة فيه.
ولكن لو عملنا مسحًا دقيقًا لإصدارات المبدعين في السنوات العشرين الماضية، وبالأخص الشباب، هل نجد فيها مسحات وإشارات تنويرية؟ أم المجتمع لم يعد بحاجة إلى التنوير في وجود الشبكة العنكبوتية، وتحويل العالم إلى قرية كونية؟ أم أن هؤلاء الكتاب ليسوا مشغولين بالمفاهيم والمصطلحات والمبادئ التنويرية نفسها، بقدر همهم وتطلعاتهم محصورة في الكتابة فحسب، وطرح بعض قضايا المجتمع العادية والسطحية التي نقرأها في العديد من الكتابات والنصوص المحلية والخارجية؟ أم هو نقص في وعي الكاتب بدوره الإبداعي تجاه الوطن وقضايا المجتمع؟ أم أن الاهتمام منصب على كتابة الإثارة وليست القضية.
ومن خلال التواصل المباشر مع النص السردي البحريني (قصة ورواية)، لم أجد بين كتاب هذا النوع منهجًا أدبيًا أو مدرسة أدبية واحدة تجمعهم، أو يتكئون عليها في أثناء كتاباتهم الإبداعية، وإنما التباين بينهم في ذلك، ولكن بحكم التأثير والاطلاع وبالأخص أجيال القرن العشرين، فهؤلاء لا شك قد قرأوا الأدب العربي عامة ونهلوا من قديمه وحديثه، كما نهلوا من الآداب الأجنبية، فهناك من جعل المدرسة الأدبية الروسية مرجعية له، كما هو واضح عند عبدالله خليفة، وهناك من تنوعت مرجعياته الأجنبية مثل: محمد عبدالملك، وهناك من جعل الأدب اللاتيني متكأ له، مثل: فريد رمضان، أما جيل الألفية الثالثة – وهنا لا أعني الكل ولا أعمم – هذا الجيل من الكتاب عندنا في البحرين مصاب بعدم الوضوح في رؤيته، والأهداف التي يرمي إليها، إذ يقع هذا الشاب في المنتصف، بين الامتداد التاريخي والماضي وللموروثات، والتسليم بها كليًا من دون التفكير في مدى توافقها والمرحلة الراهنة، ومدى صلاحياتها لحياة وزمن مختلفين، ولهما معطياتهما وتطلعاتهما، وبين تلك الظواهر والحالات التي تتسرب إليه من خلال اللقاءات الثقافية والحوارات الأدبية، وبعض القراءات، والندوات التي تتصف بالعلمية والتفكير الناقد المؤمن بالعقلنة والتجريب، وعدم التسليم بكل شيء دون فحصه ودراسته.
وهنا يقع الكاتب الشاب بين الإخلاص للماضي كله، وموروثاته، وبين التذبذب في الإخلاص، أي أنه لا يستطيع تقديم رؤية صافية المعالم في نصه، وربما لاعتقاده أن الماضي وتركته هو الفعل الحقيقي القادر على حل كل الأزمات، وهو المعول الذي يحفر في الحاضر ليبني المستقبل، وطالما هذه هي المعضلة التي يقع فيها، فلن يتمكن من دخول عالم التنوير الذي يعتمد في الأصل على العقل وعلمية التسليم، فضلاً عن أن هذا الجيل – بحسب تصوري – لم يستطع صنع قارئ متحفز، ينتظر النتاج الأدبي الذي ينبغي أن يتلقاه بين الحين والآخر، وإنما الذي صنع القارئ وللأسف إنه قارئ سلبي، فما يقرأه لا تسهم في تنمية وعيه فكره وقدراته، إذ قامت بدلاً من الكاتب دور النشر المنتشرة حاليًا بين منطقة الخليج المهتمة بالكسب المادي من النتاج، وليس قيمة النتاج، وإذا كتب آلان دونو كتابه الذي أخذ شهرة عالمية (نظام التفاهة)، فأعتقد بعد سنوات قليلة سنجد ما يشابه هذا، سنجد نص التفاهة، وتفاهة النص، وقارئ التفاهة للأسف، والسبب عدم وجود فكر يتجول في فضائه الكاتب الشاب، ولا رؤية تجاه المجتمع والفرد والحياة.
وهنا لابد من التفريق بين الثقافة التي نستقيها ونتلقاها شفاهية، أو كما يطلق عليها بــ (ثقافة الشارع) تلك الثقافة التي يتداولها الناس عامة، وربما التسليم بها من دون التأمل في مفرداتها ومضامينها، وهي غالبًا ما تكون ثقافة مسطحة خالية من البرهان والعلمية والعمق، وبين الثقافة المعتمدة على العلمية التي عادة نستقيها من المصادر والمراجع المدونة، ومن خلال الحوارات العلمية الجادة، والموضوعية الهادفة، وطالما نحمل بين جوانحنا العقل فلابد من تحكيمه في النقل والتقبل والتسليم، إذ لا ينبغي الإذعان إلى قشور الأفكار والتطلعات، وإنما إلى جوهر الأشياء والأفكار وعمقها، فهذا يأخذنا إلى بناء حضاري، وثقافة رصينة متماسكة، صلبة الجذور، قوية الفروع، الأمر الذي يتطلب منا جميعًا، ومن يتكئ على ثقافة الشارع تحديدًا أن نتحرر من الداخل قبل كل شيء، نحاول مناقشة قناعاتنا التي تجذرت في عقولنا، وبخاصة بعض الموروثات والخزعبلات التي يراها البعض وكأنها من صلب حضارتنا وثقافتنا.
وإذا أرجعنا كل هذا إلى الوعي الثقافي والفكري ومعرفة الكاتب بدور الأدب في المجتمع، فإن هذا يرجعنا إلى مسألة جد مهمة وهي المتعلقة بالمعلم نفسه. فالمعلم الذي يعلّم الطلبة الدروس طوال العام الدراسي، ويكرر ذلك كل عام، وهو في الأصل لم يفتح كتابًا أو يطّلع على بحث هنا أو هناك يخص مادته، فإنه مع مرور الوقت لا يختلف عن بقية طلبته عدا عمره الزمني. كذلك كتاب النصوص الإبداعية، إذ ربما هذا الكلام يزعل البعض، ولكن هي الحقيقة الظاهرة ظهور تعاقب الليل والنهار، بل من يسجن نفسه في قراءة مجال إبداعه فقط، أي إن كان شاعرًا لا يقرأ إلا الشعر، وإن كان قاصًا لا يقرأ ألا القصص، وإن كان روائيًا لا يقرأ إلا الروايات، بهذا يكون الكاتب هنا (المبدع) مكررًا لكل هذه القراءات في نص واحد أو عدة نصوص، ولكن حين يخرج من هذا السجن ويدخل في حقول أخرى قراءة وتأملا ومناقشة بين النص الاجتماعي والنص السياسي، والنص الفكري والنص التاريخي والنص التراثي وهكذا، فلا شك تتكون عنده حصيلة معرفية كبيرة وواسعة بالإضافة إلى قراءاته في مجال حقله الإبداعي، فينتج نصًا إبداعيًا رائعًا وعميقًا وملفتًا لأنظار القراء والنقاد والآخرين.
ولدينا من الأدلة التي تكشف أهمية القراءة وعمق الأفكار، إذ حاول أدونيس في كتابه (الكتاب) إعادة قراءة المتنبي ليس بوصفه شاعرًا بل بوصفه إنسانًا مبدعًا له مشروعه الإبداعي والأدبي، وكذلك قام كمال أبو ديب بالشيء نفسه حين أصدر كتابًا بعنون (عذابات المتني في صحبة كمال أبو ديب)، وكتب قاسم حداد في هذا السياق نفسه كتابه (طرفة بن الوردة)، وعبدالله خليفة أخذ من التراث الإسلامي، وأنتج عددًا من الأعمال الروائية، والفكرية، إذن نحن مع النص الإبداعي البحريني الذي يتطلع إلى بناء جسور بين الأجناس الأدبية والحقول المعرفية، كما يتعاطى مع النص القديم والتراثي بروح نقدية صادقة وليس بحالة من الانقطاع، أي لا ينبغي تجاهل الماضي، وإنما دراسته في سياق واقعه الاجتماعي والتاريخي والثقافي، أي من لا يتواصل مع تراثه كيف يتمكن العيش في حاضره ثقافيًا، وكيف له استشراف المستقبل.
ومع الحديث عن التنوير في الأدبي البحريني الذي يشكل العتبة المثلى، ربما يتساءل المرء، هل التنوير محصور في الأدب أم هناك حقول أخرى ومجالات غير الأدب في البحرين أسهمت في عملية التنوير؟ لا شك أن الثقافة عامة في البحرين لها إسهامات كثيرة في التنوير، سواء أكان ذلك عبر الحراك الاجتماعي والتوعوي تجاه قضايا الإنسان الذي قادته مجموعة من أفراد المجتمع منذ عشرينيات القرن الماضي، أم من خلال الكتابات التي نشرت عبر السنين حتى يومنا هذا، بل لم يعد الكاتب الآن معنيًا بوضع العلامات الكاشفة لرؤيته تجاه التغيير والتنوير والتحديث والوعي بشتى مجالات، فالقارئ الحصيف يعي تمامًا تلك البوصلة التي تسيّر هذه الكتابة أو تلك.
وبعيدًا عن النص الأدبي أو الثقافي، فهناك مؤسسات بحرينية أدت دورًا تنويريًا منذ النصف الأول من القرن العشرين، مثل الأندية الأدبية، والأندية الرياضة والثقافية في المدن والقرى، ثم لحقت بذلك الجمعيات النسائية بدءًا من الخمسينيات، وإن كان دورها محصورًا في عالم المرأة الاجتماعي والتعليمي والصحي والأسري، فإن توعية ذلك هو بمثابة تنوير المجتمع عامة، والمرأة بشكل خاص لدورها الذاتي، والمجتمعي الخاص والعام.
ويبقي القول: هل يمكن لنا تنوير المجتمع من خلال كتاباتنا المؤجلة أم عبر تلك الكتابات الخارجة من جلباب الثقافة والعلم والمعرفة بعيدًا عن الإيديولوجيات؟ سؤال يبقى مطروحًا في الوسط الثقافي والأدبي.
برزخهم
حكاية قديمة تتجدد بصور مختلفة في كل زمان: “قبر الولي الصالح”، هذا المكان الذي يمتلئ بأصحاب الحاجة، المؤمنين بالوصول للشعور بالطمأنينة، شفاء الأرواح المنهكة الذي لا يهتم معظم القادمين إليه بالسؤال عن أصل الحكاية؛ قدسية/ خصوصية/ إرث اجتماعي/ مفهوم ديني، فكرة تعمقت عبر الوقت، سمِّها ما شئت، فكل التبريرات مقبولة لأنها تقع ضمن نطاق المعتقدات غير القابلة للمناقشة – خصوصاً الدينية -، جدل عقيم لا يفضي إلا للمشاحنات والتوتر، ولن يستفيد أحد من تغيير قناعات إيمانية لشخص آخر على الإطلاق، ما عدا نزعة الانتصار الداخلية التي يشعر بها بعض المتشددين! فالممارسات الدينية خاصة بالفرد وحده فقط، ولا أحد غيره.
ولا يُعدّ موضوع قبور الأولياء في البلاد العربية أمراً مستنكراً أو غير مألوف، مهما بدا هذا الأمر غير منطقي للعقلانيين. فهو ملاذ للقادمين متوسلي الرحمة، دافعهم الضعف الإنساني الذي يجعل من الإيمان بالخوارق والمعجزات باباً كبيراً للأمل والنجاة، مثلما يلجأ بعض الراشدين – بدون مقارنة-في غفلة من الوقت إلى مشعوذ/ قارئ كف أو فنجان يرشدهم أو يعلمهم عن الماضي والمستقبل. شعرة تفصل بين الإثنين مثل ما قال عبقري السينما المصرية أحمد زكي في فيلمه الشهير “البيضة والحجر”: “الضعف ما بيفرقش بين جاهل ومتعلم!”. هي طبيعة النفس البشرية التي تمر بانكسارات، أو تعيش انهزامية، دون البحث عن الأسباب الحقيقية. وبعيداً عن التشدد الذي يصل للتحريم عند البعض، لا يتوقف الناس في مختلف بقاع الأرض عن إنشاء وتمجيد هذه الأماكن – غير المعروفة والواضحة تاريخياً تحديداً – ومن ثم توافد العامة للتبرك. وللتذكير؛ فإنها عادة لن تنقطع مادامت الحياة ومادامت هذه “العقيدة الحياتية”.
في “قبر الولي” للكاتب المسرحي الإماراتي جمال مطر، استخدم هذه الفكرة؛ حيث تناول النص الثيمة العامة لقصة المثل الشعبي “دافنينه سوا”: صديقان يمتلكان حماراً يستعينان به لقضاء الحوائج، ومات “أبو الصبر”، كما كانا يسميانه من ثقل الحمل عليه، فحزناً عليه حزناً شديداً، حتى أنهما قاما بدفنه بشكل لائق، لفت نظر العابرين الذين سألوا عن الميت، وتأتيهم الإجابة بأنه أبو الصبر، ليظن الآخرون أنه ولي صالح! فتنهال عليه التبرعات التي تتضرع أن تلبى أمنياتها وحاجاتها. وهكذا ظلّ الصديقان في عيش رغيد من جراء هذا الكسب غير المتوقع، حتى اختلفا يوماً ما على اقتسام الهبات والتبرعات، فأشار أحدهما أن مقام سيدي أبو الصبر سيأتيه بحقه! ليجيبه الآخر: “احنا دافنينه سوا!”، وهذا المثل يستخدم في السر بين اثنين، لا يعرفه غيرهما.
لذا يبدو أن ما قام به مطر ليست فكرة جديدة، لكنه عمّق لمفاهيم ومعانٍ مرتبطة بالبيئة، والمكان، ووزن الأشخاص في مجتمعاتهم. فهذان غريبان قررا المجيء إلى القرية القاحلة لبيع الماء بسعر مضاعف للسعر الحقيقي، ممنياً “يوعان” نفسه، ومرافقه وابن أخته “عبيدان”، بالأموال التي سيجنيانها من تجارتهما الرابحة. لكن لما مات الحمار من ثقل الماء على جسده، ونزل المطر، قاما بتغيير الخطة حسب الأجواء التي تهيأت أمامهما!
وكما سيناريو قصة المثل الشعبي هو ذاته، ذلك أن عموم الناس مستعدون لتقديس العادي إذا تلاشى أملهم في الواقع، وهذا ما حصل حينما شاءت الصدف أن يتساقط المطر بعد موت “أبو الصبر”، نفس الأفراد الذين هيئوا المكانة والقدسية الوهمية لــ”يوعان” و”عبيدان”، هم من لجأوا لاحقاً لتقديم النذور والتبرعات حتى تقضى حوائجهم! الفرق بين القبور الصامتة وبين ما هو مختلق هنا بالنص –ولازال قائماً في أماكن كثيرة – هي أنها طرحت بركتها وتركت للزمن استمراريتها عبر القائمين عليها، وهو مصطلح مقلق، لأن المقدار غير محسوب، وأموال الناس والتبرعات والهبات تذهب على “هوى” القائمين!
ونستفهم من سياق النص سيكولوجية الطرفين: المحتاجون، وهم كل الأهالي الذين ظهروا في النص، في رضوخهم غير المبرر لأشخاص لا يبدو أنهم يملكون أية مؤهلات “روحانية”، ولا قدرات خارقة لعلاج العقم، أو رد الغائب، أو فك السحر، ومنطقياً لا يبدو أن هذا يمكن حصوله، ومع ذلك يتآمر الأهالي على تعزيز مكانة “يوعان” ويتبرعون بابتكار شهادات حية، عن قدرة الشيخ على “التفل” في عين أعمى فــ”قام يشوف زين”!(1)، أو حين يمسح بيده “المباركة” على قدم مكسورة، ليقوم الولد بالمشي فوراً، وكلها حكايات تظهر الرغبات الداخلية في أن يكون هذا الكلام صحيحاً ويتحقق مرادهم مهما كان!
أما نفسية الطرف الآخر، التي كشفها مطر، فتكمن في شخصية “التاجر” الحسابية، الذي يحسب كل فرصه في الربح. نموذج “يوعان” لا يخسر، لأنه متحول، ومستفيد من أي وضعٍ حوله! وحتى الحلول التي من المفروض أن يقوم بها لزواره، يأتي دائماً من القدر الذي يتعامد مع رغبة الشخص الشديدة، واستعداد كل طاقات الجسم والعقل نحو الهدف المنشود. فإن تحققت فعلاً، فالخير ينسب لــ”يوعان”، ولو حصل العكس، فإن لذلك مبررات وتفسيرات “إيمانية” أخرى متعلقة بالرضا بالقضاء والقدر.
وتتقاطع هذه الصورة مع مشاهد عرضت في السينما بشكل واضح أكثر من المسرح، ولا ينسى المتابع الضجة التي حصلت بعد عرض فيلم “صاحب المقام” المنتج في 2020 للكاتب إبراهيم عيسى، بين مؤيد ومعارض، إذ يصرّ البطل على بناء منتجع سياحي بعد هدم “مقام”، لتتوالى النكسات المتلاحقة في حياته، حتى تظهر له “روح” مرشدة لتدله على تلبية الطلبات في مقام آخر، اعتاد رواده الكتابة على شكل رسائل.
ولم تكن هذه المرة الأولى في تاريخ السينما المصرية التي يعرف أهلها بحبهم لآل البيت، وزيارة المقامات للتبرك والدعاء، باعتبارهم أصحاب مكانة عند الله، بل إن أكثر من فيلم تعرض ولو بشكل جزئي لهذه المعتقدات، مثل الطبيب إسماعيل في “قنديل أم هاشم” للروائي يحيى حقي، الذي حارب الجهل في قطرة زيت قنديل المسجد، فحاربه مرضاه، لأنه ببساطة ضد معتقداتهم غير القابلة للنقاش. ولا ينسى المتابع “حادثة” زيارة الست أمينة لمقام الحسين في فيلم بين القصرين لنجيب محفوظ، وغيرها من الدراما التي تظهر القناعة والتسليم الشديدين من قبل فئات البشر بأهمية بركات صاحب المقام، حتى لو كان مختلقاً، كما في نص “قبر الولي”.
ومن هذا المنطلق، يجيد “يوعان” تجيير الأمر لصالحه، فيقول إن لله عباداً، متى أرادوا أراد! ويسوق من الآيات الكريمة ما يعتقد أنها مؤثرة في النفس، مثلما استشهد بسورة يونس:” أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُون الَّذِينَ آمَنُواْ وَكَانُواْ يَتَّقُونَ لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَياةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ لاَ تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ”. وهو بذلك ترسيخ لمكانته بينهم، حسب النص القرآني الذي يعني به نفسه! أما التأكيد لكل ما سبق، فهو في تذكيره لمريديه “أن لا ننسى وتشغلنا الدنيا أن للولي حقوقاً وواجبات، لذا وجب أرضاؤه، وهو لا يطمع إلا في القليل من أموالكم، القليل من زرعكم، والقليل من أغنامكم”. وأخيراً، لإحكام الخطة بالتأثير والترهيب الخفي لمرضاة الله عن طريقه، يوصيهم بالكتمان، حتى لا تفضح مقدار العطايا التي تصله منهم تحت مبرر” “كل يفعل الخير بطريقته وخفية عن الناس”!(2)
واستخدم قبر الولي الأنثى للتضحية بها من أجل استجداء نزول المطر، وهي عادة وجدت في الحضارات القديمة، خصوصاً فيما يتعلق بخصوبة الأرض المرتبطة بنزول المطر، وإعطاء حياة جديدة مستمرة تعيد إحياء الزرع والبشر. ولم يجد أهل المكان ضحية أفضل من “المستضعفة”، المرأة البلماء/الخرساء التي تعاون الجميع على توجيه الاتهام لها، وأنها سبب كل القحط وشبه انقطاع الحياة عن المكان، ومن الواضح أنه تم اختيارها تحديداً لأنها وحيدة، لا تجد من يدافع عنها، وفاقدة للنطق، أي لن تستطيع الدفاع عن نفسها، والسبب الأكبر أنها جميلة إلى حد أن لا ذكر في الحي قاوم جاذبيتها ولم يغازلها. ويفهم القارئ من هذه المقدمة الكاشفة أن سبب إصرار الرجال على ربطها في جذع الشجرة وتركها لمصيرها هو مستوى متأخر بالنسبة لشعور الزوجات/ النساء بوجه عام من الغيرة التي نخرت قلوبهن، حتى دفعوا الرجال/ المجتمع إلى نبذها بهذه الطريقة، وتحميلها أعباء اضطراب الطبيعة، الذي يعبر عن اضطراب هذا المجتمع بالكامل.
واشتغل جمال مطر على مفارقات فاضحة تعكس الخيوط الداخلية للنص، مثل المرأة الخرساء التي لم يحدد لها أي ملمح في توصيف الشخصيات، ماعدا صفة الجمال التي تكشفها الحوارات لاحقاً، صفة مصدر ضعف وقوة الضحية تتهم بها، لكنها تقضي على “يوعان” بنظرة عين! “من شفتها وأنا حالتي جيه جنها ضربتني بعين.. أنا ميهود ومريض، وأحس إني ما بقوم من الفراش بعد هاليوم”(3) ومن دون الإشارة أن المقصودة هي المرأة الخرساء، حتى يكشف النص هذا في نهايته. أيضاً بائع الماء “عبيدان”، لما قرر أهل القرية تكريمهم كضيوف وذبح الذبائح لهم، كان طلبه الأول أن يشرب ماء!
ولن يبدو غريباً وصية “يوعان” أن يرجع “عبيدان” ابن أخته إلى دياره الأصلية، حتى لا يكتشف الأمر حتى بعد وفاته، أو حتى لا يكون المستفيد الوحيد من الخال ذي القدرات “الوهمية”، والوصية الأخرى هي أن يتحكم الحمار بتحديد مكان قبره. واسترجاع سريع لمكانة الحمار في الثقافة العربية سيكون لها مبرر مضاعف، كون البطل مقروناً بحماره، وأيضاً لاختيار الأخير مكان المقام المختلق، أي أن جثة يوعان ستكون جنباً إلى جنب مع الحمار الهالك، حامل الماء! قبر حمار اختاره حمار آخر ليدفن فيه من “استحمر” الناس، مع شديد الاحترام لهذا الحيوان الصبور المقرون بصفات بشعة عن بعض البشر.
نص من القطع الصغير، لا تتجاوز صفحاته 46 صفحة، لكنه يفضح كثيراً من الصفات البشرية التي تحتاج للإفشاء، لعلنا ننتبه لبعض عيوبنا الآدمية، ونصلحها –لو أدركنا مدى بشاعتها- أو نتكأ على أمثال الرجل الذي فتح الباب للوهم وجر المجتمع إلى مجموعة رذائل، قاصداً أو غير قاصد، وأول اسم “يوعان” في إشارة لعدم الشبع، إلى يوعان “جائع” في طلب المعرفة والعلم، وهي الدرجة الأولى للوصول على أكتاف مدلسين وجهلة إلى مكانة لا نستحقها بالفعل.
الهوامش
1. قبر الولي، جمال مطر، دائرة الثقافة والإعلام، سلسلة المسرح، المسرحيات العربية، دولة الإمارات، الطبعة الأولى 1998م، ص 19
2. نفس المصدر السابق، ص 29
3. نفس المصدر السابق ص 43