كتب الصهيوني الكبير رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو كراسة لإثبات أسطورة واحدة فحواها أن إسرائيل هي معجزة العالم اليوم، كما كان اليهود هبة الله وشعبه المختار بالأمس، والكتاب قائم على افتراءات وافتراضات شتى تبدأ من عصر النبي والملك سليمان عليه السلام حتى وقتنا الحاضر، وفيه يتم صياغة وتفصيل كل شئ من جديد ليتناسب مع توراة نتنياهو و(المكراه)، الذي هو في الأساس جملة من الأساطير اليهودية التي صاغها الكهان اليهود عبر التاريخ.
يريد نتنياهو إيصالنا إلى أن اليهود هم كل شئ في التاريخ، أما العرب الذين سبقوهم بآلاف السنين من الكنعانيين والعموريين وغيرهم، والمسلمون فليسوا أكثر من غزاة برارة لا يستحقون الذكر، ويزعم أن البريطانيين وقفوا إلى جانب العرب ضد اليهود، وأنهم سعوا في نهاية الثلاثينات إلى إقامة دولة عربية إلى جانب الدولة اليهودية، ويصور الثورات الفلسطينية في أعوام 1920، 1929، 1936، ضد الهجرة والاستعمار اليهودي في فلسطين كمؤامرات مشتركة بين العرب والبريطانيين ضد اليهود متجاهلا كلية القمع البريطاني لهذه الثورات، والأهم التسهيلات التي وفرها الانتداب للحركة الصهيونية كي تعمل بحرية كبيرة لتحقيق مشروعها، ثم يهاجم نتنياهو قرار التقسيم شاكياً أنه لا يمنح اليهود سوى 10% من أرض إسرائيل، علماً أن هذا القرار منح اليهود 56% من أخصب الأراضي في فلسطين.
وكعادته يعكس الحقائق إذ يزعم أن اليهود دخلوا حرب 1948 في أسوأ الظروف رغم أن الظروف السيئة كانت من نصيب العرب في تلك الفترة، وهكذا تمر الأكاذيب وتقلب الحقائق لتحميل العرب وزر معاناة اللاجئين الفلسطينيين لأنهم وفق زعمه من شجع الفلسطينيين في البداية على الخروج، وهم يعقدون حل المشكلة برفضهم توطين الفلسطينيين، وهكذا فإن إسرائيل التي استولت على أرضهم وطردتهم منها وترفض عودتهم إليها بريئة من المشكلة.
يقول نتنياهو : “إننا نستطيع كبح عدوانية الأنظمة العربية بطريقتين فقط، بقوة الردع فإذا أخفق فبقوة السلام”، ويضيف: “كلما بدت إسرائيل أقوى أبدى العرب استعدادهم للسلام معها، وكلما بدا أنها ضعيفة تشجعوا على حربها”.
ويقول: “إذا أخذنا بعين الاعتبار الأهمية الاستراتيجية للضفة الغربية والجولان فلابد أن نستنتج أن شعار الارض مقابل السلام غير صحيح من أساسه، فسيطرة إسرائيل على هذه الأرض ليست عائقا أمام السلام وإنا هي عائق أمام الحرب. العرب سوف يتكيفون في النهاية مع الأمر الواقع (أي الاحتلال) لأنهم لن يضربوا رأسهم بالحائط إلى الأبد. لكنهم إذا رأوا حائط الحماية ينهار، أي الأمن والقوة الإسرائيليين، فإن التقدم التدريجي نحو سلام عربي إسرائيلي سوف ينقلب في رمشة عين”
عاصفة الصحراء – السوق
التطورات المتلاحقة التي شهدتها المنطقة حتى وصولها إلى الحرب العراقية الإيرانية، والغزو العراقي للكويت اللذَين دمرا القوى العسكرية والاقتصادية والمالية العربية وخلقا عصراً من التداعيات والانكسارات العربية، وفي نفس الوقت إنهيار الاتحاد السوفييتي وتفككه، لتصبح الساحة خالية لقوة وحيدة تستفرد بالعالم، وتفرض نظامها على عالم خال من أية منافسة لها تحت شعار (النظام العالمي الجديد)، وفي هذه الأجواء تحركت إسرائيل مستفيدة من تردي الوضع العربي والفوضى الدولية، ومن دعم الولايات المتحدة الأمريكية ومساعدتها المالية لصالحها، وبدأت تعمل لتحقيق حلمها للسيطرة على المنطقة العربية اقتصادياً وثقافياً، وتقسيم هذه المنطقة وإعادة تفكيكها وإزالة القواسم المشتركة بين العرب عبر مشروعها العدواني الذي أخذ أشكالا وأوجها مختلفة للتوسع والهيمنة.
في هذه الفترة ظهر كتاب مهم وخطير لشمعون بيريز وهو كتاب (نحو شرق أوسط جديد) رسم فيه رؤيته لمستقبل المنطقة، ودعا إلى ترك الحرب والعمل على تنظيم إقليمي يرتكز على أربعة أمور ذكرها كتابه هي: الاستقرار السياسي والاستقرار الاقتصادي والأمن القومي والديمقراطية، ولعلّ الجزء الاقتصادي هو أهم الأجزاء، حيث قال: “إن على دول المنطقة الانتقال من اقتصاد الحرب إلى اقتصاد وبناء السوق المشتركة من الآن ودون انتظار الانتهاء من الحلول السياسية، والانتقال من السياق في مجال الاستراتيجية العسكرية إلى استراتيجية التعاون الاقتصادي، وإقامة جماعة على نسق الجماعة الأوروبية بفصل خطة ثلاثية الاضلاع.
1. الضلع الأول: مشاريع ثنائية أو متعددة القومية ( معهد أبحاث الصحراء – تحلية مياه البحر- التعاون الزراعي )
2. الضلع الثاني: وتقوم به مؤسسات مالية دولية برساميل هائلة (قناة البحر الأحمر والبحر الميت – مشروعات سياحية – تطوير الطاقة الكهربائية).
3. الضلع الثالث: تخطي الانغلاق القومي إلى التطور القومي والتوصل إلى نزع السلاح.
ويحاول بيريز ربط العقل والعلم الإسرائيليين مع العنصر البشري العربي والتمويل الخليجي، ويبدو أن هذا المشروع أخطر المشاريع الصهيونية التي تهدد العرب جميعا، ويحقق لإسرائيل عبر السلام سيطرتها الاقتصادية. وقد بدأ العمل الدبلوماسي الجدي لتحقيق مشروع بيريز (الشرق الأوسط الجديد) منذ مؤتمر مدريد، وضمن مفاوضات متعددة الأطراف هدفت إلى تحقيق التعاون الاقتصادي قبل انسحاب إسرائيل من الأراضي العربية المحتلة عام 1967 وفقا لقرارات مجلس الأمن الدولي ذات الصلة 242، 338، 425، وبالتالي إضعاف الجانب العربي في المفاوضات الثنائية مع إسرائيل، ويمكن أن نلحظ أنها حققت وبدعم شديد من الغرب عامة، والولايات المتحدة خاصة، بعض أهدافها من المفاوضات متعددة الاطراف، تمثلت في إسراع عدد من الدول العربية بإقامة علاقات دبلوماسية وتجارية مع إسرائيل والبقية تأتي.
ولفهم كتاب بيريز (مشروع الشرق الأوسط الجديد) والتعرف على دلالاته ومخاطرة لابد من قراءة شاملة لجوانب كتاب بيريز، وأن إحلال المشروع الشرق أوسطي بديلا للمشروع القومي هي فكرة قديمة في الفكر الصهيوني، حيث يرجع البعض فكرة الشرق أوسطية إلى مؤسس الحركة الصهيونية (ثيودور هيرتزل) وفق صحيفة الجيروشاليم بوست الإسرائيلية والتي تقول: (إن مشروع الشرق الأوسط الجديد) هو خلاصة هيرتزل والصهيونية، حيث يتحول الشرق الأوسط إلى منطقة يخيم عليها السلام والتعايش، تجتمع فيها الثروات العربية الواسعة مع التمركز الاستثنائي للقوة العقلية التي يمتلكها الصهاينة لخلق جنة الرخاء على الأرض.
وينادي أهل التطبيع ودعاته من خلال مقولات خادعة، مثل: إذا كانت إسرائيل متقدمة في مجال العلوم.. فلماذا لا نستفيد من ذلك ؟ أليس هذا من الحكمة والعقلانية؟!، أو ما الذي يمنع من أن نبادل إسرائيل المياه التي تحتاج إليها بالعلم والتكنولوجيا التي نحتاج إليها ؟! هناك زيف في هذه المقولات، فإسرائيل وأي قوة مهيمنة حالياً أو سابقاً لا يمكن أبدا أن تساعد الأمة العربية، التي تسعى للهيمنة عليها بالعلم والتكنولوجيا.
يتناسى المطبعون شيئا أساسيا هو أن إسرائيل ليست جارة عادية نشأ بيننا خلاف استنزف كثيرا من مواردنا، وقد حان وقت الصفح والغفران والانتباه لمصالحنا كما قالوا، إسرائيل كيان استيطاني عنصري هدفه الأساسي بل إن استمراره يعتمد أساسا على الهيمنة بشتى أشكالها الاقتصادية والسياسية والعسكرية والثقافية والعلمية، وها هي ذي ممارساتها القمعية والعنصرية تصلان إلى درجات غي مسبوقة من القسوة والعنف، كما أن من الضروري الإشارة إلى نحو ثلاثة عقود من السلام بين مصر واسرائيل لم تؤد إلى الرضا، أو إلى مؤسسات علمية وصحية.
تمر المنطقة اليوم بظروف عصيبة، وهي متوجهة إلى تغير قسماتها إلى الشرق أوسطية، وهناك هدف كبير لدى الإمبراطورية الكبرى لتسوية أرض المنطقة بشكل مطلق، يدك كل العوائق التي تعترض مسار التطبيع والاعتراف بالكيان الصهيوني، وتجريد المجتمعات من دفاعاتها النفسية والثقافية التي تحاصر هذا الكيان ليبقى جسما غريبا وأجنبيا، فالهدف لا يتوخى تبيئة الكيان الصهيوني لجعله جزءا من المنطقة فقط، بل أن يجعل منه محور المنطقة عن طريق إرادة القوة.
الصهيونية والشرق الأوسط الجديد
الميزانية الجديدة والأسئلة المُلحّة
ربما من السابق لأوانه الحديث بشكل تفصيلي عن مشروع الميزانية العامة للدولة الذي رفع نهاية شهر نوفمبر الماضي من قبل الحكومة للسلطة التشريعية بغرفتيها، فالميزانية كمشروع ستخضع خلال الأسابيع القليلة القادمة لمزيدٍ من البحث والتمحيص والقراءة فيما بين اللجنتين الماليتين بمجلسي الشورى والنواب من جهة والحكومة من جهة أخرى، أملاً في الوصول إلى توافقات بشأنها بين السلطتين، وبما تتيحه الظروف المالية والاقتصادية من امكانات، لا شك أنها في أقل درجاتها تفاؤلاً.
لكن ما هو أكيد حتى الآن أنه لا يوجد جديد يذكر بشأن إعادة هيكلة الميزانية بشكل مقنع، كتقليص المصاريف المتكررة بأساليب مختلفة عن السابق، أو باتجاه وضع خطط لتقليص المديونية العامة المتضخمة للدولة، أو حتى بالنسبة لإطفاء العجز المزمن في الموازنة، حيث تستمر الحكومة في الحديث عن توجهات، ربما كان أبرزها سياسة التوازن المالي في الفترة التي سبقت شهر فبراير الماضي، أي قبل انتشار جائحة “كورونا”على المستوييين المحلي والعالمي، حينها كانت الآمال معقودة على النتائج المتوقعة من حزمة الدعم الخليجي لمملكة البحرين والتي كان مؤملاً لها، ولو على الورق، أن تنهي عجز الموازنة بحلول العام 2022 كما كان مرسوماً.
وبكل تأكيد تبقى تطلعات المواطنين لمشروع الميزانية مشروعة وقائمة، ويجب الإصغاء إليها جيداً، فالحكومة وبتعاونها المثمر مع السلطة التشريعية لا شك أنها استطاعت أن تلفت الأنظار إليها، لما قدّمته من معالجات وحزم دعم مالية، أنقذت وساعدت كثيراً في عدم إفلاس العديد من الشركات والمؤسسات وحافظت إلى حدٍ بعيد على امتصاص تداعيات الجائحة مالياً واقتصادياً، ولذلك لم نشهد خلال فترة أشهر الجائحة الكثير من التسريحات على مستوى العمالة الوطنية كما كان متوقعاً، وبقيت مسألة التسريحات في أضيق حدودها، لكن هذا لا يعفينا من القول إن لجوء السلطتين للاعتماد على صندوقي التعطل وصندوق حساب الأجيال قد أفقد الصندوقين جزءاً مهماً من رصيدهما التراكمي.
والأمر الآخر هو أن الحديث بدأ يتصاعد حيال مدى استمرار مشاريع الدعم والضمان الاجتماعي والمساعدات الاجتماعية التي تقدّمها الدولة على مدى سنوات وعقود، ومدى إمكانية الاستمرار فيها، خاصة إذا علمنا أن إيرادات الدولة المعتمدة أساساً على عوائد النفط، أصبحت متقلصة بدرجة كبيرة، حيث أن سعر برميل النفط في مشروع الميزانية الجديدة لن يتجاوز في أحسن الحالات ال45 دولار للبرميل مقارنة ب 60 دولارا في الميزانية السابقة.
ومما يجب التحسب إليه هو ما تقدّمه الحكومة من خطاب موجه ومترافق مع طرح مشروع الميزانية ذاتها، من أن الحكومة ستعمل على زيادة الإيرادات غير النفطية خلال الفترة القادمة!! وهو خطاب يشي بإشارات واضحة حول النية للتوجه أكثر للاعتماد على الضرائب وربما حتى زيادة بعض الرسوم، خاصة أن الحكومة تأمل في تحصيل إيرادات ضريبية تتجاوز ال 700 مليون دينار خلال العامين القادمين 2021- 2022 من ال 5% لضريبة القيمة المضافة وحدها، في حين لا يتحدث مشروع الميزانية عن أي زيادة حقيقية تذكر لزيادة عوائد شركات كبرى مثل “ممتلكات” أو غيرها من الشركات التي تساهم فيها الدولة، حيث اكتفت الميزانية فقط بإدراج عوائد لا تتعدى ال 10 مليون دينار لهذه الشركة القابضة العملاقة التي تضم تحت جناحيها أكثر من 74 شركة!!
من المهم التأكيد هنا أن الخطاب المعتمد حتى الآن من قبل الحكومة تجاه سياسات الدعم والإلتزام بالضمان الاجتماعي ومساعدات الأسر الفقيرة وعلاوة تحسين مستوى معيشة للمتقاعدين وإعانة المواد الغذائية، وبرنامج دعم علاوة الإسكان وغيرها من المساعدات لا زالت مستمرة كتوجهات، وهذا أمر محمود، لكن يبقى التحدي قائماً خاصة في حال استمرار تراجع أسعار النفط، وخطط الحكومة البديلة، وهل خطط إعادة الهيكلة على مستوى ضغط بنود الميزانية فقط هي الحل الوحيد، أم أن هناك خطط أكثر نجاعة يجب التفكير فيها، والتي من بينها التفكير الجدي بتطبيق ضريبة الدخل على الشركات الكبرى والبنوك كبديل ناجع عن التفكير في زيادة ضريبة نسبة القيمة المضافة مستقبلا مثلا؟، أو التفكير في ضريبة جديدة على التحويلات المالية للأجانب والمقيمين..الخ.
وعلى الجانب الآخر ربما يصحّ السؤال حول جدوى التضخم القائم في أعداد الوزارات والمؤسسات والهيئات الرسمية، وما يستتبعه ذلك من تضخم في الميزانيات الإدارية والمالية المرصودة لها، وكذلك التفكير سريعا بالإستغناء من أكثر من 7500 أجنبي لا زالوا يستنزفون عشرات الملايين سنوياً من ميزانيتنا دون مبررات موضوعية، حيث يمكن لنا أن نستبدلهم دون عناء بألآف من العاطلين وبأجور وإمتيازات أقل كثيراً مما يتحصلون عليه، وبالتالي حل جزء كبير من معضلة البطالة المتفشية في أوساط شبابنا وشاباتنا.
وبالمثل يحق لنا أن نتساءل عن توجهات الدولة من خلال مشروع الميزانية ذاته نحو نجاعة برامج مكافحة الفساد وحل قضية البطالة كجزء من السياسات المالية والاجتماعية والاقتصاية التي يجب ان تهتم بها الدولة كتوجه عام خلال الفترة القادمة.
اسئلة كثيرة يطرحها نقاشنا الجاد حول الميزانية العامة وتوجهات الدولة التنموية خلال الفترة القادمة، وهي منفتحة على فهمنا الأكيد لمشروع بأهمية مشروع الميزانية باعتباره راسماً لمعالم تنمية شاملة ومستدامة لفترة السنتين القادمتين على الأقل، وكمرحلة مهمة لتوجه الدولة خلال السنوات القادمة لحلحلة ملفات غاية في الأهمية كملفات المالية العامة للدولة، والحفاظ على الموارد، وتحقيق المزيد من التنمية، وتحسين جودة الخدمات من صحة وتعليم واسكان وكهرباء وبنية تحتية، وجميعها تحتاج منا للقول إننا ننتظر إعادة هيكلة حقيقية ليس فقط على مستوى الميزانية بل حتى بالنسبة للموارد وتنويع القاعدة الاقتصادية وتوجهات الدولة لبرامج الخصخصة ومعالجة المديونية العامة وحتى حول طبيعة الاستثمارات المستقبلية والمعالجات المنتظرة على أكثر من صعيد ضمن مشروعات الاصلاح الاقتصادي.
قصص قصيرة جداَ
قناع
كان منبوذاً إلى أن جعل ذقنه كثيفا .
ذنب
كانت أول وحشة له في القبر ظل المرأة التي خيرها بين شرفها أو تطليقها من زوجها المعنف .
مشاعر ملقنة
صاحوا بتلقين مبطن “هذا عهد لإنارة أم البدايات والنهايات ، حتى جاءهم نبأ استشهاد الطفل الصغير، زغللت عيونهم، ثم عادوا لأكمال لعبة خارطة “الطريق إلى مدينة الأنبياء”.
فجاجة
لا تهمني أصواتكم المعارضة، فأنا لا اتقن مصطلحات النضج والتأهيل، فقط اريد ان أتزوج في هذه الفرصة الذهبية، إنها سنة التخفيضات!
أفاق من ذاكرته وهو يحتضن طفله الأول في المحكمة لتوقيع أوراق الطلاق .
استشعار النعم
كانت تلعن وظيفة التعليم طوال أوقات العمل، تتذمر من الحياة الروتينية والسفر المكرر، تشتم زيارة أقاربها بين فترة وأخرى حتى جاءت 2020
كارما
قال متفاخرا: عنّفتها حتى تطيع ولكنها لم تخضع، هجرتها ثم أصبحت أقوى، فضربتها بالزوجة الثانية كي تكسر .
أفاق من غشيانه أثر ضربة المطرقة من “الضرة الثانية”.
حقوق مزيفة
كانت تظهر تحت الأضواء بمحاضرات اشتهرت بها لحقوق الطفل، ثم تعود لأطفالها الذين يتحتضون وحدتهم في المنزل … كانوا قد نسوا اسمها .
أبو سامر وجه لن يغيب
منْ يود الكتابة عن الفقيد إسحاق يعقوب الشيخ، المناضل والكاتب والصحفي والمفكر لن يحتاج إلى عناء ليجد في سيرته كتاباً مفتوحاً بإمكانه أن يغرف منه ما يشاء من تلك السيرة العطرة.
فإن أردت أن تكتب عنه مناضلاً ستجد في محطات نضاله الكثير من المواقف المشرفة، فمن المنافي إلى السجون تأخذك سنوات بعيدة، فمنذ الخمسينات من القرن الماضي وهو في معترك السياسة حاملاً راية التقدم منافحاً شرساً ومناضلاً صلباً من أجل الحرية والديمقراطية والعدالة الاجتماعية، نصيراً للمرأة في مساواتها مع الرجل في الحقوق والواجبات، واقفاً كالطود في سبيل تحريرها من عسف المجتمع وظلامات الرجل.
دفع ثمناً باهظاً لانخراطه في النضال ومنذ تلك الفترة دفاعًا عن العمال، في الاعتقال والتعذيب جراء ذلك، فالحرية للإنسان وسعادة البشرية بالنسبة له كانت مقدسة لابد وأن تتحقق وإن طال الزمن بالنضال السلمي وبالصبر طويل الأمد، فكان مثالاً لهذا النهج الصبور فعمل عليه هو ورفاقه، فكل لبنة من أي تطور إيجابي في بلده السعودية أو البحرين كان في مقدمة صفوف داعميه وبقوة عارفاً ومقدراً مقدار ما ينتج عنه لاحقاً للحركة التقدمية من أهمية للبناء عليه والسير به للامام ولمزيدٍ من المطالبات التي تؤدي في نهاية المطاف لتحقيق ما يمكن تحقيقه من إنجازات على كل المستويات.
كانت جلّ كتاباته سواء أكان في جريدة “الأيام” البحرينية أو في غيرها من الصحف السعودية ك”عكاظ” و”الرياض” ومجلة “الطليعة الكويتية”، تؤكد على هذا النهج الإصلاحي التنويري الصبور من أجل تقدم مجتمعه ورفاهية شعبه بالطرق السلمية، ولذلك كان عدواً لدوداً للإرهاب والإرهابيين، وشرساً مع الطائفيين الظلاميين من كل الألوان، فلم تخلُ مقالة من مقالاته من صب جام غضبه على تلك الجحافل الإرهابية الطائفية الظلامية، وما تعيثه من فساد فكري وما تبثه من سموم في المجتمعات المبتلاة بها.
عاش حياته كلها مدافعاً مبدئياً عن أفكاره اليسارية المتجذرة في وجدانه، مقتنعاً قناعة راسخه بتلك الأفكار، مدافعاً عنها بكل قوة وبإيمان الواثق من انتصار قضيته حتى لو طال الزمن.
من يعاشر أبا سامر سيجد فيه طيبة المعشر وحسن الخلق، مضياف إلى أبعد الحدود، يده ممدودة بالمحبة لكل من يحطّ في منزله، يجاهر بقناعاته دون خوف أو وجل، لا يساوم على أفكاره ولا يجامل أحداً فيها وبقى محتفظاً بتلك الخصال حتى آخر يوم في حياته، يكنّ له البعيد قبل القريب كل المودة والتقدير، وبذلك كان له الكثير من المعارف والاصدقاء في مختلف البلدان، فلا عجب أن تظل رفيقة دربه أم سامر ملازمة للهاتف من كثرة الإتصالات الواردة اليها معزية في رحيله، فكان معروفاً ومحط إعجاب لدى الكثيرين.
ظل إسحاق يعقوب الشيخ جسوراً في طرح أمور إشكالية كبرى كالدين والسياسة والحريّة، يتناول تلك التابوهات دون رهبة أو أقنعة، تلك الخطوط الحمر التي يرهبها الكتاب في بلداننا حين يقاربونها، غير عابئ بمنتقديه أو بما تجر عليه من عداوات، فلم يتخف بالتقية الرمزية أو الاسلوبية حين يقارب تلك الموضوعات، بل كان واضحاً كل الوضوح في طرحه واضعاً نصب عينيه ما قد يثيره منتقديه من ردود.
الرسالة الفلسفية لأبي سامرواضحة وضوح الشمس من خلال كتاباته، تجد الفكرة بين يديك وهي أنه رغم كل الصعوبات التي تواجهك عليك بالتحمل والصبر لتصل إلى مبتغاك، فالنفس الطويل شعار سار عليه واتخذه بوصلة لحياته فلم يتعب أو يتقهقر، بل أنجز مشاريعه في الكتابة على كل الصعد فكراً وثقافة وسياسة دون كلل أو ملل، فكان له ما أراد فأصدر عدداً من الكتب في الفكر والراوية والسيرة الذاتية وأدب السجون.
اللغة الأدبية الراقية إسلوب أجاده إسحاق الشيخ باقتدار ناتج عن ثقافة عالية وقراءآت غزيرة تشعر بقراءتك له بأنك في حضرة شخص متمكن ضليع ومتمرس فيما يكتب، يضيف إليك الجديد بلغة عربية فصيحة، ففي كتاباته لا يمر على القشور أو السفاسف، بل يخترق أعماق الموضوعات حتى النخاع، يُفصل ويشرح ويستفيض فيما يمكن أن يمرّ عليه كاتب آخر مرور العابرين، فيبرز ريشته التصويرية الفائقة حين يصف حادثة أو شخصاً، ولا شي إلا ويصوره تصويراً دقيقاً بعين يقظة تشبه عين الرسّام، بخبرة عاشق غارق في التفاصيل.
كان أبو سامر شخصاً ممتلئا بالحيوية والنشاط لا يهدأ أبداً، فجلّ وقته يقضيه في القراءة والكتابة وأعمال المنزل، تراه دائماً مهموماً بقضايا وطنه وشعبه، ومع كل ذلك كانت له أوقاته مع عائلته وأصدقائه في أمسيات جميله لا تنسى سواء كان ذلك في السعودية أو في البحرين.
إن الحياة الجادة مرهونة للأمور الجادة، فكانت حياته جداً واجتهاداً وعملاً مضنياً، لا يهدأ ولا يستكين رغم عمره المديد، فالعمل لديه لاينتهي عند كتابة مقال بل يتعداه إلى المطالعة والبحث والتدقيق ليبدأ مشوار الكتابة التي لا تنتهي أبداً، فالقلم بالنسبة له معين لا ينضب ملازم له دوماً وأبداً، ولم يدخر وسعاً في العمل الشاق حتى ينجز كتاباً، فهو رجل يجعل الأشياء تتحقق.
نافذ البصيرة ثاقب الفكر قارئ للتاريخ محب للشعر والادب، بارع في التقاط ما هو مضئ ونافع في التراث الإسلامي، يتقن بثراء ودائماً بدرجة عالية من الامتلاء والفصاحة وجلاء المعنى ذلك التاريخ وبرؤية نقدية يستنبط منه المعاني والأفكار الصالحة لزماننا.
ستبقى يا أبا سامر في الذاكرة الجمعية الوطنية وطني الهوى أممي التفكي، شخصية موسوعية موسومة بالزهو التقدمي، شخصية مألوفة وقارة في الأذهان داعية لا يرضخ للثوابت البالية من موروثات الماضي، فكل إنسان في الحياة يصنع النهاية على شكل مختلف فقد كان لحياته نهاية مجيدة.
وفي أواخر أيامه، وعلى الرغم من صلابته وقوة إرادته التي يتمتع بهما، ومقته لبكاء الضعف إلا أن المرض قد تمكّن منه، وأقعده كلياً بعد أن سطى على جسده، وكان على أتم الدراية بكونه قد أصبح غير قادر على التعافي والشفاء من هذا المرض الفتاك فأسلم الروح مساء الاثنين الحزين الرابع عشر من ديسمبر.
فلك المجد والخلود يا أبا سامر، نم قرير العين في وطنك الثاني البحرين الذي أحببته وأحبك، بين أهلك ومحبيك فقد تركت كتاباتك أثراً لن يمحى أبد الدهر وصورتك باقية لن تغيب.
غواية “الروهة”
تضجُّ نشرات الأخبار والتقارير حين القبض على مجموعة متطرفة، أو خلية إرهابية تدينها المجتمعات قبل الدول، على صور وخلفيات أبطالها الذين ورَّطوا أنفسهم في مأزق اللا عودة غالباً، إذ تكون أقدامهم قد انزلقت إلى إزهاق أرواح آخرين، ذلك حين يكون العنف منهجاً آيديولوجياً متبنى طول الوقت لكل من لا يتفق مع فكر هذه الجماعة/ الاتجاه، في ظل تراجع قوى معتدلة أخرى تُخفق في الاستحواذ على انتباه الجمع الأكبر – والأضعف أيضاً – من الجماهير. وتفتح هذه الموضوعات سؤالاً ملحاً لم تُحسم إجابته بعد: لِمَ ينضم من يعدُّون أسوياء لهذه المجموعات؟
في حركات التشدد، تستخدم مصطلحات الأصولية الإسلامية مرادفة للتطرف العنيف. ورغم أنها تأتي على ذكر مفردات بذاتها؛ مثل الجهاد/ الإسلاموية، المرتبطة بتبعية الفرد لقرارات سياسية تحت سيادة الدين، إلا أن التشدد لا يقع ضمن طائل الديانة الإسلامية فحسب، بل يشمل التطرف بأشكاله في كل الديانات، وأيضاً في الاتجاهات الفكرية، وكلها تميل لخلق الصراعات من أجل طريقين: خدعة أو تحقيق مال ووجاهة سلطة، أو هكذا كان الظن، حتى وقت ظهور الأخبار والتقارير التي توضح أن كثيراً منهم قادمون من بيئة وظروف مكتفية. فمن يتصور أن مغني راب – على سبيل المثال – له آلاف المتابعين على قنواته، مكتفٍ مادياً، ومتحقق، يتنازل عن كل هذا لينظم لجهة متشددة، لا يختلف عاقلان أنه تنظيم مجرم ولا إنساني؟
هكذا طالعتنا النماذج التي ظهرت لما استيقظ العالم ذات لحظة في العام 2013على وحش منظم ومسلح نما على مراحل بمرأى من الجميع، صار اسمه “الدولة الإسلامية في العراق والشام”، التابع للجماعات السلفية الجهادية، واستولى وقتها على جميع وسائل الإعلام، ووسائل التواصل المتاحة، عبر تشغيل ذاتي، أو عبر شغله للرأي العام في كل العالم، يبث فيديوهات إعدام الخصوم عبر تقطيع الرؤوس بوحشية، إلا عبر الدراما التي تحذر من هذه المشاهد المؤذية عبر التصنيف الذي لا يسمح لغير الراشدين بمشاهدته. كان الوضع خارج السيطرة بكثير، واستغرق وقتاً ليس بقصير – قياساً بالخسارات – حتى تمّ تفتيته لإيقاف الخراب الذي خلَّفه.
اشتغل الكاتب التونسي عبدالحليم المسعودي على النموذج المعاصر “داعش”، المستمد من الأحرف الأولى للتنظيم، في نص مسرحي مثقل –وما أجمله من ثقل منير!- يعج بالدلالات التي ترشد قارئه إلى البحث والقراءة في مصادر أخرى، بحثاً عن المعاني المتضمنة في متن النص والإحالات معاً. وكان المكان هو سيد هذه الدلالات في “الروهة”، فالحدث كله يدور في هوة مظلمة في الصحراء/ جب/ قعر/ مستنقع، أو مقبرة جماعية – صوَّرها للقارئ وتصميم الغلاف للشاعر محمد النبهان – تقبع تحتها جثث الجرحى والقتلى من ضحايا الدواعش، حتى لو كانوا من أفرادها. فشخصيات النص المسرحي اجتمعت من غير سابق معرفة، وأتت إلى هذا المكان بطرق مختلفة، يستعرضها المؤلف عبر الفصول التي منحها عناوين دالة من غير تفاصيل: بدور الموصلية/ سبحة الكهرمان/ الأرنب الأبيض/ كبول طرزة/ تركية/ طوروس وزاغروس/ أحلام القنفذ/ لحاظ.
لم يتوانَ المؤلف عن إشباع جمله بما يتناسب مع الانحطاط المكاني، عبر إقران كل الأفعال والأسماء بالفضلات الآدمية باسمها الصريح، والتي باتت ضمن الكلمات المشاعة شفاهية وكتابة للتعبير عن سوء الأوضاع. لكن الحوار الأولي غير المنسجم بين الشاب “أمير يونس” وقصير القامة “كجة مجة”، في أول “الروهة”، يكشف عن مستوى منحدر من الحديث المتبادل بين أي شخصين (1)، وسط أصوات ارتطام الجثث التي تنزل من الأعلى بين الحين والآخر، فيقوم كجة بتفتيشها لعل فيها ما يفيد في حياتهم التي يبدو أنهم اعتادوها في ذلك المكان. وكلما وفدت شخصية جديدة على الفصول، اتسعت الرؤية وضاقت في آن واحد، لأن كل ما يدور يدعو للتساؤل: من هم؟ وأين هم؟ وإلى متى سيظلون في مكانهم حدثهم، لا يتطور إلا بشكل أفقي بينهم وبين بعضهم، لا شيء يدفع للأمام، ولا أحد يفكر جدياً وعملياً في الخروج، ولا أمل أصلاً إلا في البشارات الملغزة التي يسري بها عبدالحي إلى أحدهم في حديث جانبي!
واختار المسعودي أن يلبس شخصية عبدالحي الترميذي شخصية تتداخل ضمن أطر السرد العجائبي لمخلوق لا يبدو أنه إنسان مثل بقية الشخصيات الأخرى التي تتكلم بلغة يومية مألوفة، وظيفته في النص: ميزان الحدث، الحكمة، والروية، والهدوء، وأيضاً البشارات نحو العبور، واستحضره المؤلف شيخاً في هيئة ملائكية، لا يكاد ثوبه يمس أديم الأرض، وهو يخطو ويظهر كوميض مطمئن للنفوس، وعارض للخبايا، ومستشرف لما هو آتٍ. ومن المهم الإشارة إلى ذكاء المسعودي في اختيار شيخ صابئي لنص يتحدث عن تطرف ديني إسلامي، استعمل قشور الدين لتبرير العنف والدموية الداعشية، وحتى في المسائل الأخرى التي تتطلب حياداً في الرأي دون إدانة أي طرف؛ مثل ذكر نجاسة الكلب وتحريم تربيته، ويدين الصائبة الذين يتبعون أنبياء الله آدم وإدريس ونوح وسام بن نوح، والصائبة المندائية هي الطائفة الوحيدة الباقية إلى اليوم.
يتلو “عبدالحي”، برمزية اسمه التي تعني “الحي الذي لا يموت”، من كتابهم المقدس “الكنزربا أو كنزاربا –ويعني الكنز العظيم-(2) ما يتناسب مع الموقف والشخصية، وأيضاً ما يتناسب وفخامة اللغة في الكتب المقدسة، وهذا ينعكس على حديثه العادي، حيث يعتبر في مستوى مختلف ومميز من الآخرين الذين ما فتئوا يستخدمون ألفاظاً دون المستوى في حواراتهم لبعضهم، رغم أنه انزلق مثلهم في “القاع”، وهذا ما يستلهمه القارئ عبر حواره مع أمير، لما استنكر وجوده بينهم وهو الرجل العارف، فكانت الإجابة: للمعرفة مزالق حين تكون الرغبة فيها منقوعة بشبق التسلط والتملك! (3) وهذا يعني أن لا أحد مستثنى!
أمير، الموسيقي المرهف، وباحث الدكتوراه في الموسيقى، والمتورط في حيرته، والشاعر بذنبين مصدرهما التردد أيضاً: لم ينقذ توأمه حين غرق أمامه جبنًا وخوفاً، وأيضاً لم ينقذ “لحاظ”، حبيبته، من زواج مدمر أجبرت عليه، فعاش بعدها حبيس الإرادة، مكبل الشعور، فاقداً لإنسانيته، حتى يجمع عبدالحي بينه وبين شاه بانو، المحاربة الكردية المستعدة للمواجهة في أي وقت، والتي قاست في حياتها ما قاسته لتكون هنا جريحة أو جثة، تجتمع مع أمير في طقس يشبه التعميد في مصير يجمعهما معاً دون الباقين. كجة مجة، المتخفي تحت قناع مهرج بشكله ولفظه، بينما تعطي حواراته مع الآخرين انطباعاً أن معلوماته ليست سطحية كما يحاول أن يظهر ذلك عن نفسه. شمس الدين العياري، الذي فقد نصف عقله وكل ثباته الذهني، لا قيمة للحياة عنده بعدما رأى كل الأقسى في حياته هو، سيكون من المنطقي أن تكون شخصية شمس الوحشية البوهيمية إحدى أفراد داعش.
كل الشخصيات في “الروهة” لا تتطور بالشكل المنشود لأي حدث يترقب تراكمه، لأن الهدف من وجودها -من الأساس- هو سرد تاريخها، وكيف وصلت إلى “القاع” بالمعنى الفعلي والدلالي. فهذه التونسية “صالحة التومي”، الطالبة الجامعية، التي عاشت مراهقتها وبداية شبابها في السكن الطلابي، تدخن السجائر، وتعبُّ البيرة، لتنتقل عبر غواية ابنة عمها إلى مجاهدة في الدولة الإسلامية، هروباً من جو العائلة الخانق، ولتلتحق بحبيب عرفته عبر الإنترنت! ثم الرغبة في “مكان بكر يمكن البدء فيه من جديد في كل شيء، وتغيير كل شيء؛ الاسم، والصفة، والوظيفة، والدنيا، والآخرة” (4). أغرتها الحياة الجديدة، رغم جهلها بالتفاصيل وبالثمن الذي دفعته تالياً، في “ماخور” تتعرض فيه للبشاعات الجنسية التي ظهرت بشهادات حية من إناث استطعن أن ينفذن بجلدهن من استهدافهن لحاجات غرائزية تحت جناح الدين والجهاد.
ومن المفارقة الكبيرة، أن يكون المؤلف عبدالحليم المسعودي كاتباً وباحثاً مهتماً بجماليات الصورة والمسرح والفنون الفرجوية، وأستاذاً جامعياً في ذات التخصص، ويمنح قارئه نفحة مقززة من القبح المقرر، لا شك أنها متعمدة لإيصال الصورة، رغم أن النص مكتوب بلغة فخمة في معانيها، وسلسلة في فهمها، ونص متعدد التأويل لا يمكن أن يأخذ خطاً واحداً من الفهم، لأن لكل شخصية أو حدث امتداداً وتاريخاً وإحالة، حتى لو كانت كلمة عابرة ضمن سياق الجملة، لكن المعنى العام للنص هو أن يعطي بعض إجابة لسؤال: كيف يحشر هذا القطيع لينتمي إلى داعش أو مثيلاتها، رغم لقائهم جميعاً بصدفة غير مرتبة، عن أن التطرف ليس خياراً يلجأ له سويُّ العقل، يقظ الضمير، ومن أسبابه الميل إلى التمسك بالكتب التراثية المكتوبة من أشخاص لا علم لهم إلا في الوقت الذي عاشوه، وحكمت أوامرهم البشر المنصاعين من غير التفكير أو إعادة النظر؟! وحتى إن كان الأمر مقبولاً حينها، فمن المنطق ألا يكون مقبولاً في عصر آخر، ومقاييس أخرى استحدثت بفعل الزمن.
وغالب الظن أنه لا يمكن حسم الأسباب التي تؤدي بصاحبها إلى التطرف، وإلى أن يكون فاعلاً في جهة متشددة، بعد أن كان ينعم بحياة عادية، بينما يذهب الظن بنا دائماً إلى أن المجاهدين المنضمّين من دول مختلفة غير سوريا والعراق -باعتبار سيطرة التنظيم هناك-، يكونون منقادين لأسباب مختلفة تتعلق بهم أو بمجتمعاتهم. وبعد دهشة العالم لانضمام أطباء ومهندسين للتنظيمات المتشددة، واعتبار المحللين أن طبيعة الدراسة العملية الجافة الخالية من أي خيال أو إبداع، تظهر التقارير أن الموضوع اتسع إلى رقعة ممن يصنفون في قائمة الفنانين (5)، بعضهم من أصول عربية، وآخرون من بلدان أجنبية، نفس اليد التي كتبت شعراً ورواية، أو عزفت على آلة موسيقية، هي نفسها التي تورطت باستخدام سلاح لسفك دماء آخرين لمجرد اختلاف العقيدة. تلك “الروهة”، أنثى الظلمات، التي وقع فيها المغني اللبناني صاحب الصوت الرخيم “فضل شاكر”، وورط نفسه باثنتين وعشرين سنة من عمره في السجن والأشغال الشاقة، لأنه لم يقتلها، ولا حاول تجنبها بالمعرفة، حسب نص المسعودي.
الهوامش
1. مسرحية الروهة، عبدالحليم المسعودي، مسكيلياني للنشر والتوزيع، الطبعة الأولى 2019م، ص 14،15،16.
2. نفس المصدر السابق، ص 100، ويمكن الإطلاع على المزيد في النسخة الإلكترونية للكتاب: http://www.mandaeannetwork.com/GinzaRba/index.html
3. الروهة، ص 113
4. الروهة، ص 79
5. https://youtu.be/Qxx5Qeie2iU
الشربيني وجدل الحجاب
الإعلامية رضوى الشربيني تُعيد فتح جدل الحجاب في مصر. حيث أطلقت تصريحاً قالت فيه باللهجة المصرية: “لكل واحدة هي المحجبة الوحيدة في شلة صحابها أو في عيلتها أو في شارعها أو في شغلها، أوعى تخلعي الحجاب، إنتِ أحسن مني ومن غير المحجبة ألف مرة”.
أثار هذا التصريح جدلاً واسعاً في الإعلام المصري ووسائل التواصل الاجتماعي بين مؤيد ومعارض. المؤيدين لكلام الشربيني يستندون على أن ذلك فرض على المرأة المسلمة التي تكون محتشمة بارتداء الحجاب. بينما المعارضون رأوا في كلامها إهانة صريحة للمرأة غير المحجبة وطعن في استقامتها وأخلاقها.
توجد صورة نمطية عند أغلب رجال الدين في مجتمعاتنا العربية والإسلامية تتمثل في النظرة السيئة للمرأة غير المحجبة، لأنها في نظرهم غير محتشمة وتشجع على الرذيلة وإفساد المجتمع. هذه الصورة النمطية المتخلفة تصدعت أمام تطور مجتمعاتنا وحصول المرأة على العديد من حقوقها في التعليم والصحة والعمل والتشريعات القانونية والسياسية، الأمر الذي انعكس على وعيها ومستوى مشاركتها في مؤسسات المجتمع والدولة.
بالعودة إلى تصريح الشربيني، نجد فيه إساءة بالغة لكل امرأة غير محجبّة، وتفضيل غير موضوعي للمرأة المحجبّة. من حيث المبدأ لا أفضلية لهذه على تلك، لأن المعيار الذي تستند عليه الشربيني محدود برؤيتها وقناعاتها، والتباينات الثقافية والفكرية والبيئية واسعة في المجتمع الواحد، فما بالك بين مختلف الشعوب والأمم!
إن ربط الحجاب بالأخلاق، قد يُعزز من مساحة التشدد والعنف في المجتمع الواحد. فعندما يوجد من يصف المرأة غير المحجبة بالمنحرفة أو السيئة أو الضالة، سيؤدي ذلك إلى تشجيع البعض على الانتقاص أو الإزدراء أو التحرش الجنسي أو حتى استخدام العنف تجاه هؤلاء النساء.
ليس كل امرأة غير محجبة هي علمانية كما يعتقد الكثيرون، بل إن أغلبهن نساء متدينات بالمعنى العام، ومتأثرات في سلوكهن بالثقافة الحديثة وملتزمات في أخلاقهن. غير أن هذا الطرح يستعصي على فهم الإسلاميين والمتمسكين بالثقافة الأبوية الذكورية.
عملياً تشارك النساء المحجبات وغير المحجبات بصورة نشطة وفعالة في كافة مجالات الحياة اليومية ومؤسسات المجتمع، ويلتقي هؤلاء النسوة على الحب والعطاء وتجمعهن الزمالة والصداقات وتحمل المسؤولية في كل الأماكن. وحدهم المتعصبون المتأدلجون من دينيين وعلمانيين يعترضون على هذا التواصل بين المحجبات وغير المحجبات. فكم من المؤلم أن يمنع أب ابنته من رؤية صديقتها غير المحجبة أو أن يمتنع الجار عن جاره لأن زوجته سافرة الرأس.
يأخذنا الحديث عن جدل الحجاب في أهمية الإشارة إلى الدول العلمانية المتشددة في بعض قوانينها التي تمنع المرأة المحجبة من الدخول إلى المدارس والجامعات، أو مختلف المؤسسات، بحجة أن ذلك يشكل خطراً على المجتمع والدولة. كما حدث في فرنسا على سبيل المثال لا الحصر . من المهم ونحن في القرن الواحد والعشرين التأكيد على تأميم الثقافة الحديثة – لا الغربية – المؤنسنة والمتقبلة لاختلافاتنا والعاملة على التقريب بيننا كشعوب متعددة في نموذج إنساني راقي ورفيع. فالشرعة الدولية لحقوق الإنسان، مثلاً، تُعد منجزاً عظيماً على جميع الدول العمل على تطبيقها والالتزام بتعليماتها، خصوصاً من قبل الدول الكبرى في العالم.
علينا كبشر أن نُدرك جيداً بأن هذا العالم قائم على التنوع والاختلاف، وفي ذلك يكمن جمال العالم واستمراره. يقول مهدي عامل: الموتُ في التماثل، والاختلاف حياة الزمن. بينما يُشير هادي العلوي إلى فشل الإنسان عندما أراد أن يضع العالم في حقيبته.
في مكان ما من العالم، ثمة بشر يحبون ما تكره كل الكره، ويؤمنون بكل ما تكفر به، يأكلون ما لا تحب ويتعجبون مما تأكل أنت. في مكان ما من العالم هناك من ينظر إلى مظهرك ولغتك ولونك وأفكارك وكلماتك باستنكار، تماماً كما تفعل أنت. في الجانب الآخر من الكون، الحقيقة المطلقة لديك، معكوسة بشكل مطلق، لم يكن العالم يوماً حكراً على أحد .
محطات مضيئة من نضال حركتنا العمالية – 3
كان تأسيس جبهة التحرير الوطني في الخامس عشر من شهر فبراير من عام 1955 علامة فارقة في التاريخ الوطني والعمالي، حيث كانت بمثابة الحزب الماركسي الطليعي في البحرين وعلى مستوى الخليج العربي أيضاً، وكان من ضمن المؤسسين لهذا الحزب الذين دخلوا التاريخ الرفاق الراحلين حسن نظام، حسن جناحي، أحمد الذوادي، علي دويغر، علي مدان، جعفر الصياد، وإبراهيم ديتو أطال الله في عمره.
تركز نضال الجبهة في صفوف الكادحين خصوصاً العمال في المعامل والمصانع، وتطوّر العمل الجماهيري والتنظيمي والتثقيفي والذي من خلاله ازداد منسوب الوعي في صفوف الجماهير في الجانبين المطلبي والنقابي. وجرى إعداد الكوادر العمالية والوطنية عن طريق التثقيف الذاتي، وأيضاً توفير فرص الإبتعاث للخارج لتلقي المفاهيم النقابية والفكرية وطرق النضال العمالي والوطني، في المدارس النقابية والحزبية للأحزاب العربية الشقيقة وفي بعض الدول الاشتراكية.
اصبحت جبهة التحرير الفصيل الوطني المناضل المدافع عن قضايا الجماهير خاصة مصالح الطبقة العاملة، وكان لمواقفها ونضالها صدى في صفوف العمال مما عزز نضالاتهم ضد صنوف الإستغلال والإضطهاد، والتحق بعضوية الجبهة المئات من العمال الذين تعلّموا وعلّموا الجماهير طرق العمل والنضال اليومي الثوري.
وخاض هؤلاء على رأس الحركة العمالية الاحتجاجات والمسيرات والإضرابات، و قد ازداد هذا التلاحم مع صدور برنامج الجبهة في عام 1962 الذي احتوى على خمسة عشر بنداَ منها ما يدعو إلى ضرورة تأسيس النقابات العمالية في البحرين على أرضية قانون العمل الصادر عام 1957.
ومن المحطات المضيئة في نضال حركتنا العمالية تفجر انتفاضة مارس المجيدة عام 1965 والتي كان للجبهة فيها أدوار ومشاركات، بحيث كانت منشورات الجبهة توزع في كل مكان وفي البيوت مطالبة بإرجاع العمال المفصولين من شركة بابكو، الذين كان فصلهم الشرارة التي أطلقت الإنتفاضة، عندما وضعت بابكو نحو ألف وخمسمائة عامل على قائمة التسريح بناء على توجيهات الخبراء التي جلبتهم الشركة من أمريكا.
بالإضافة إلى تسريح العمال طالب هؤلاء الخبراء بالبدء في خصخصة العديد من أقسام بابكو ودفعها للمقاولين من أجل تفكيك الوحدة العمالية في الشركة، إلا إن الانتفاضة استمرت على مستوى البحرين لما يقارب لثلاث اشهر بمشاركة عارمة من جماهير الطلاب والنساء وكل اطياف الحركة الوطنية،على الرغم من القمع الشديد وسقوط شهداء وجرحى في صفوف المنتفضين.
كوب «شوكولاته» ساخنة
تقول نادين تحسين بيك في مشهد من مسلسل «مسافة أمان» بنبرة سعيدة :”ايييييه الحبّ بينوّر وش البني آدم”.. لربما نشعر بأننا نبدو أكثر جمالاً في حضرة من نحبّ.. تبدو لنا أعيننا تلمع من فرط الشعوربالدفء وابتساماتنا صافية -تحمل أقل ما يمكن من شوائب الحزن-.. أخال أن هذا الإحساس يتأتى من الالتزام والمسؤولية -على نحوٍ لا تكاد تفرق كونه فرضاً أو خياراً-. الحبّ ببساطة قد يلمس كل قلب نعرفه، حتى القلوب التي نظنها باردة قد يحرقها الحنين.. مساورة الحبّ قد تتوهج في ذاتك بشعور صغير يزرعه قلبك من ثوانٍ لدهشة عابرة أو انبهار خاطف.. لكن التزامك بالواجب تجاه من تحب.. خوفك عليه.. شعورك بأنك يجب أن تكون جزءً من سلامه وضحكاته وفرحه.. شوقك له.. بلسمك الذي يداريه.. كل هذا يبلوّر مفهوم الجمال الذي يأخذنا إليه الحبّ.. الجمال المنبعث من حيوية الروح.
قد يكون الحبّ تماس روحي مشترك مع ذات أخرى؛ يهب المحبّ توليفة وارفة من الأمان المفتقد في الحياة السريعة.. تهدهد توتره برفق كأنما هو الشعور الوحيد الثابت والمطلق.. على نحو أشبه بنص الشاعر قاسم حداد «قل هو الحبّ ولا تصغي لغير القلب».. أقول ربما فيأتي «زيجمونت باومان» في كتابه «الحبّ السائل» ليدحض هذا النوع من التفكير؛ إذ لا يعد الحبّ مبعثاً للأمان بل جزءً من اللهاث في ماراثون الحياة بنسبية تفاصيلها وبسرعة أحداثها. حيث علاقات عابرة لا تؤرقها المسؤولية.. -حالمة بلا روابط والتزامات تنتهي بكبسة زر! فإن لم يحقق لك المنتج الرضا، يمكنك استعادة نقودك كاملة-.. نعم هكذا يقول باومان ببساطة روبوت آليي يمكنك استعادة قلبك أملساً لم تخدشه ندوب التجربة. ففي زخم العلاقات الافتراضية يمكنك وضع نبضاتك بأمان على منضدة العاطفة بحرية وسهولة ويمكنك تناوله بالخفة ذاتها! يمكنك تفحص خافقك بمغامرة قصيرة تتململ من ثقل الأعباء ويمكن تحديدها بساعات قصيرة!
بحسب وصف باومان، الأمر يبدو لي أشبه كوب شوكولاته ساخنة تبتاعه يومياً في المقهى نفسه وحين تألف طعمه تقوم بتغيير المشروب والمكان من دون أن تستدير للخلف. ويبرر باومان هذا التحوّل الدرامايتيكي بأن مجتمعنا الحداثي يخضع تحت مطرقة الأنماط الاستهلاكية والمشاعر المعلبة، إذ يتم التعامل مع الآخر كأنما هو سلعة استهلاكية لها صلاحية انتهاء تقاس بمقدار الشغف مثلاً، فتتوارى خلف الرتابة والملل وبمجرد ظهور سلعة أخرى تستحوذ على انتباهنا. وهنا ينتهي الحبّ الأفلاطوني أو المبني على أعمدة اليوتوبيا.. والقصص الملحمية على غرار «روميو وجولييت» تغدو نكتة سمجة حيث لا ديمومة ولا تضحيات ولا وعود تنطوي إلى الأبد. أسئلة كثيرة تخوضها رؤية باومان للحبّ، فهل يركن الإنسان للتعاسة عندما لا يحقق طبيعته الاجتماعية؟ هل تصبح حميمية علاقته بالآخر خافتة حد العدمية، ليغدو الآخر في هذا السياق مجرد وسيلة لتحقيق الاعتبار الذاتي؟
لقد نجح فيلم her لمخرجه سبايك جونز في بسط التصور الاستشرافي لواقع أصبحت فيه العلاقات الإنسانية مهووسة بالجانب الخدماتي على حساب وجهها البشري، في ظل مجتمع رأسمالي يتبنى شعار «كل شيء للبيع والشراء». إذْ يعرض الفيلم في أمثلة متشائمة لواقع مستقبل يعجز فيه الإنسان عن لمس عاطفته. بطل الفيلم «ثيودور» -لعب دوره خواكين فونيكس- يعمل كمحرر رسائل رومانسية لصالح الأزواج الذين ينالهم الفراق، مما يجعله وسيطاً بين الناس، يتكلم باسمهم ويكتب ما يعبر ظاهريا عنهم. ثيودور الذي أخفق في حياته الزوجية وأشرف على توقيع أوراق طلاقه يعيش علاقة حب مع «سامانثا» الصوت الآلي لهاتفه الذكي.. وتجسد هذه القصة فكرة السعي إلى إقامة البديل الإلكتروني للآخر، فإذا عجز الإنسان عن التعايش مع شريكه بسبب حدة التوتر التي لا تتقبل التنازلات، فالحل يبرق سريعاً عبر صناعة شريك مرسوماً بدقة! أي أننا مجبرون بحكم قانون الطبيعة على البحث عن شريك يفهمنا، يشاركنا اهتماماتنا، يساندنا.. ويمدنا بجرعات عاطفية كمطلب حيوي أساسي.
طوّر ثيودور علاقة كان مصيرها الفشل منذ البداية، فقد بحث عن ضالته في شريك ليس من نفس طينة البشر، فقد تخلت عنه سامانثا في النهاية، و هي إيحاء رمزي يعكس قيادة الإنسان نحو الوهم، و كأنما يخبره بضباية بأن الذات قد تستعين بجلد نفسها بحثاً عن السعادة من خلال تكنولوجيا تشبع كل احتياجاتنا بينما لا تكفي سرعتها لعناق قصير! لقد أدرك ثيودور في الختام أنه لم يفهم طبيعته تشكيله الجوانيّ، فهو كائن يبحث عن الآخر الذي يرضيه فحسب، بينما لا يبالي بأهمية رضا الآخر بما يحقق علاقة التكافؤ التي تكفي لانتشالنا من الوحدة. سبايك جونز في هذا الفيلم -الذي زاوج بين الإخراج و كتابة السيناريو في هذا الشريط- نموذج حياة مخيف. حيث صور واقعاً تغيب فيه مشاهد الحياة التي تحفل بالمشاركة الروحية.
يستلهم الفيلم فكرة أن التكنولوجيا تسرقنا من مجتمع حقيقي لآخر وهمي، تغتال أرواحنا الهسة لمجرّد إيهامنا بفكرة «شريك على المقاس» مما يدعونا لهدم علاقاتنا مع الآخرين. أرى أن هذا الطرح الفلسفي في الفيلم قد ترجم بنجاح بالغ على المستوى الإخراجي، إذُ نجح سبايك جونز في عرض فكرة الفيلم بواسطة لعبة المفارقات؛ حيث ألبس المخرج شخصياته أزياء كلاسيكية تنتمي إلى زمن الستينات بغية تصوير مفارقة بصرية تقحم الماضي في حياة المستقبل، لتبدو الأزياء المعتمدة متوهجة بالألوان و تحيل إلى الدفء الذي يميز الماضي حيث كنا أكثر حفاظاً على علاقاتنا إزاء برود رمادي باهت وخواء مريع في عالمنا الداخلي من الحياة المستقبلية التي يعرضها الفيلم فيُبدي المرء عكس ما يبطن، ليسوّق للسعادة التي توفرها التكنولوجيا الحديثة بينما في الواقع يغرق في الوحشة!
تجربتي مع الوباء
جسر نحو الذات اسمه “كورونا”
ثمة قاعدة عجيبة يعمل الدِّماغ وفقها، إذ يتعامل مع الرّفض بنفس الطريقة التي يتعامل بها مع الألم. حين يُمارَس علينا نوعٌ من الظلم، أو الإهانة، أو الإعتداء – لفظيا كان أو جسديا – يطلق دماغنا مُسَكّنا كيميائيا للتخفيف من معاناتنا. حين تزداد كمية المعاناة تلك، يحدث ارتباك في أفكارنا بسبب تلك المواد التي تعجز بكمياتها الطبيعية على مداواتنا، فنلجأ في الغالب إلى مواد أخرى نمررها إلى أجسادنا لنشعر بالخدر الذي يشعرنا بالسعادة. نلجأ للمهدّئات، والمسكّنات، والمخدرات في بعض الأحيان لتخطي الألم الذي يكتسح داخلنا.
لكن كل الآلام مقدور عليها إلاّ ألم الرّفض، في كلا الحالتين وأنت مرفوض أو رافض، يجعلك هذا الشعور متعبا، متألما وفي حاجة لفهم نفسك وفهم من حولك، وإعادة النظر في كل علاقاتك.
لا مسكّن يخفف وجعك القابع في أعماقك جرّاء الرّفض. مسكنك الوحيد يفرزه دماغك، وهو يعمل بسرعته القصوى ليرتب الأمور أمام بصيرتك بشكل مفهوم لتفهم ما يحدث لك.
مثل مريض كورونا يواجه مصيره وحده، في اللحظة التي ترتفع فيها حرارته، وتبدأ أوجاعه الجسدية، تنْفضٌّ جموع الأصدقاء والأحبة من حوله. وتنبلج اللحظة المخيفة على فردانيته في هذا العالم. مثل البصمة التي لا مثيل لها، تتوضح له أمور كثيرة.
عند بداية ظهور كوفيد 19 لم نهتم كثيرا به، رغم أن الكتاب في العالم أجمع وجدوا مادة دسمة للتعبير عن أفكارهم حول الوباء . بعض الكتاب غادرونا بعد إصابتهم وبعضهم شفي منه بأعجوبة، ولكن وتقريبا بعد سنة من تعايشنا معه لم أفكّر لحظة أنني سأكون بين المصابين به.
قضيت ليلة في المستشفى أعاني من حمى لا وصف لها، خانني جسدي فجأة ولم يعد يلبي أبسطَ أوامر رأسي، مثل إحضار كوب ماء من المطبخ، أو الدخول للحمام. تهاويت وكأن ما كان يشدُّ جسدي تفكك فجأة ولم يعد صالحا. ورغم هذا تناولت ما يمكن تناوله من مخففات الحرارة والوجع وأتممت قراءة رواية واسيني الأعرج الأخيرة ليليات رمادة، الكتابة في زمن كورونا، وحاورته في ندوة عبر زوم ليلة الثالث عشر من نوفمبر. قلّة من أصدقائي غضبوا مني لأني أكابر في وقت لا يحتاج لمكابرة بل لراحة جسدية كاملة. ولكنها طبيعتي أعتقد، فحين أقطع وعدا مع شخص ألتزم، بدا لي الإعتذار في آخر لحظة طعن في “كلمتي” …
هل أنا مجنونة؟ إلى نهاية الندوة كنت أحاول أن أبدو طبيعية، وأظنُّ أني بذلت جهدا خارقا لمقاومة الأوجاع التي اتخذت من كل جسدي مرتعا لها، الفيروس كان يحتفل بضحية جديدة، وبانتصاراته وهو يستحوذ على مساحات أكبر لبسط سلطته.
تبادر إلى ذهني خلال ليلة آرقة لم أذق مثل مرارتها سابقا أن كل ما قرأته في كتاب واسيني عن الكتابة في زمن كورونا لا علاقة له بالواقع الذي أعيشه، إنّ الكتابة في زمن كورونا من باب الفرجة، تختلف تماما عن الكتابة في زمنها وهي تخترقنا وتنهش كل خليه في أجسادنا، وتعيد شريط حياتنا أمامنا مثل المُقدم على دخول عالم الأرواح، وترك عالم الأجساد الملموسة خلفه.
اختلفت الآلام التي لا مسكّن لها غير الهروب للذات. أنا وحيدة تماما في مواجهة مصيري. حتى وأنا أحاول تسجيل حضوري عبر مواقع التواصل الإجتماعي يكتسحني شعور مرعب لا وصف له يشبه في الحقيقة لحظة المخاض التي تصفها النساء عند الولادة، وهن معلّقات بين الحياة والموت. أفتح بعض الكتب التي تشاركني فراشي، أقرأ ما يمكن قراءته، ثم أغلقها وأحضنها، في انتظار أن تستعيد عيناي قدرتهما على رؤية ما هو مكتوب جيدا. أردد بصوت خفيض كم أنا متعبة، أريد عناقا كعناق أمي، تهذي الكتب في حضني فأسمعها تردد هي الأخرى أنها تريد عناق أمها.
لا أفهم شيئا هل هي تأثيرات الحمى التي تضربني منذ خمسة أيام بلياليها؟ أم أن الكتب فعلا لها أمهات وآباء؟ لا يهدأ رأسي في تفكيك محطات كثيرة من حياتي، بما فيها علاقاتي كلها التي بدأت بحضن أمي وها هي تنتهي باحتضان كومة من الكلمات المكتوبة على الورق.
تذكّرت كم كنت أتمنى أمنيات مستحيلة أحيانا لأحظى بحضن أمي، أو حضن أبي رحمه الله، كأن أستطيع السفر عبر الزمن وأعود لطفولتي التي كان فيها أبي يقينا من كل أخطار العالم. ويحمينا من كل شرور الدنيا، فيما كانت يد أمي كافية لخفض الحمى حين تصيبنا. بين الحضنين لا فرق، سوى في نوعية الطمأنينة التي ننعم بها وكأنّها ستدوم إلى الأبد.
ثم يا لمرارة ما يحدث، كلما تقدّم بنا العمر، كلما تكاثرت علاقاتنا، وكلّما حاصرنا الخوف أكثر ، ونحن مجبرون على التّعامل مع أصناف سيئة من البشر، وأقصد تحديدا تلك الأصناف التي تحب أن تأخذ، وتنهش في أرواحنا حتى تصيبنا بالسّقم الروحي، وهي دوما تعرف كيف تطرق أبواب قلوبنا، وكيف تدخل وتلوِّث النقاء الذي خصّصناه دوما للأنقياء مثلنا، فتعبث بكل الجسور العاطفية التي بنيناها للحفاظ على متانة عقولنا وصحتنا النفسية.
وأنا شبه نائمة، وما عدت ملك نفسي بل ملك هذا الفيروس، تراءت لي الجسور التي شيّدتها بثقة وحب بعين مختلفة، وأدركت كم عين المريض ثاقبة، وكم بصيرته خارقة، وكم هو في عزّ صحته عاجز عن رؤية من حوله جيدا. وأتذكّر مقولة أمي حين تصف المرض بالرحمة من رب العالمين، تراها كانت تقصد هذا التّبصُّر العميق الذي يلامسنا بحكمة إلهية لا تفسير لها حين تهدأ أجسادنا وتنطلق أدمغتنا في رحلة استكشافية غريبة نحو الذات وتقييمها؟
منذ بداية جائحة كورونا ونحن ندرك أنها تجعلنا ننحسر نحو ذواتنا، وأنّ ما تعلمناه لم يكن كافيا لنفهمها. نحن غرباء عن أنفسنا بسبب ضجيج الآخرين …
ها أنا أقف اليوم على معطيات جديدة لم أكن أؤمن بها سابقا، وها أنا أستعيد ما تفكّك مني وضاع في زحام العلاقات اليومية. نعم، إنّ أول ما نعيد فيه نظر عند كل هزّة مرضية بحجم “كوفيد 19” هو هذه الجسور التي كنا نعمّرها دون وعي، حتى صنعت أقسى السجون لنا.
إن الذي يضيع منّا فعلا في تجربة المرض هو تدوين اللحظة بكل زخمها، إذ تصبح الكتابة مهمّة صعبة لإيجاد الكلمات الصحيحة للتعبير عن كمية الحرية التي نفقدها حين تسيِّجنا قضبان علاقات متعبة في حياتنا.
كم أنا سعيدة لأعرف اليوم أن من لا يحترمني لا مكان له في قائمة اهتماماتي، ولا أدنى محاولة للتشبث به، يجعلني المرض أكثر ثقة بيقيني أن أتركه يسقط وفق خياراته. كم أشعر بخفتي على مدى أسبوع وقد اختفى أولئك الذين لا يفوتون فرصة لإشعاري بالذنب تجاه شيء ما، وأولئك الذين لا يتغيّرون في نقمتهم على الحياة، وعلى أنفسهم، ويستمرون في حمل السوط وجلد كل ما تقع عليه أعينهم.
على ما يبدو أن عتبة الموت والحكمة واحدة، ولا بأس من مغامرة في العمر بهذا الحجم لإعادة ترتيب أثاث قلوبنا وعقولنا معا.
خلال أطول أسبوع في حياتي، عشت مئة عام وأكثر، وأدركت أن ما نعرفه نقطة من بحر التجربة الإنسانية، وأن ما يجب كتابته هو أولا تجاربنا السيئة كون الإنسان يكرر أخطاءه دائما، ولا معلِّم أفضل من سرد قصّة إعمار جسورنا العاطفية ومدى تحكمها في نجاحاتنا وإخفاقاتنا.
يمشي الفقير وكل شيء ضده والناس تُغلِقُ دونه أبوابها!
تحكي إحدى المواطنات أن عاملاً من عمال جر العربات في أحد المتاجر أثار شفقتها كالعادة فقامت بإعطائه إكرامية 300 فلس، لكنه تذمر من المبلغ الزهيد وذلك لأنه اعتاد على ان يُعطى أكثر من هذا. استثارتني ردود الفعل على وسائل التواصل، حيث يقول أحدهم: “من يريد ان يتبرع يدفع إلى الجمعيات لا تعوِّدوا الهُنودَ عليكم”. ويقول آخر: “فقط ارفضوا المساعدة، وإذا أصر على توصيل العربة فاعتبروها جزءاً من وظيفته ولا تدفعوا له فإنكم لم تطلبوا الخدمة، لا تسمحوا باستغلالكم إلا إذا أردتم الأجر فهذا أمر آخر!” ولم يكن هناك إلا القليل من الردود الإيجابية والمتعاطفة مع هذه الحالة الإنسانية.
يقول الإمام علي بن ابي طالب: “ما جاع فقير إلا بما مًتّع به غني”. إذا لم يقدر الإنسان على إصلاح الفساد الذي يعمّ العالم، وفي حين لم يقدر على أن يجابه الطفيليات الكبيرة التي تسرق بالملايين وتتسبب في تجويع الجماهير وسحقهم، فإنه يلقي كل سخطه ورفضه على الجماهير المسحوقة، على إنسان لم يكن ذنبه إلا أنه ولد في دولة فقيرة، ووضعته الأقدار بين يديك أنت الذي لم تختر أن تولد في دولة نفطية مغتربا عن أهله وناسه ليعمل بثمن بخس، يرسل ما استطاع إلى بلده ويُبقي ما يعادل كفاف يومه ثم تحاسبه على إكرامية 500 فلس أو دينار لا يسمنك ولا يغنيك من جوع ولكنه يعني له الكثير!
هل من العدل أنه إذا كان هناك عامل لئيم لا يشكر على إكرامية زهيدة، أن نأمر الناس بعدم مساعدة هذه الفئة الفقيرة كلها ونحرض الناس على قبض اليد عن إنسان أشفق عليه؟ إن المسألة ليست مسألة مثوبة وأجر أو أن ننتظر عائداً دنيوياً أو أخروياً، اخرج من حظوظ نفسك لأن المسألة هي مسألة إحساس بالآخر والشعور به، وإذا ما فقد الإنسان الشعور لن تقوده الإغراءات والمخاوف إلى السلوك الحسن.
ماذا يبقى من الإنسان حين لا يكون قادرا على التعاطف وتقمص حالة الآخر والإحساس به؟!.. لا شيء أبداً. فقبل أن ننطق بأي كلمة علينا أن نضع أنفسنا أمام الحالة الإنسانية ونعيشها فربما في قادم الأيام نكون نحن أو أبناءنا مكان هؤلاء وسيتمنون أن تكون هناك الكثير من النفوس الرحيمة التي ترحمهم وتساعدهم بمبلغ وجبة يوم واحد في غربتهم وفقرهم. فمن يعطي إنما يعطي لسماحة نفسه وكرمه ورحمته وقدرته على العطف بالآخرين وهذه من أكبر النعم على الإنسان، لكن من يأمر الناس بقبض اليد عن إنسان محتاج لموقف بدر من أحد المحتاجين فإنما يأمره بذلك لضيق نفسه وانقباضها عن الخلق.
لا يقتصر الأمر على العمالة الأجنبية بل عموم الفقراء، فآلية الحكم العام انطلاقا من موقف خاص هي آلية منطقية تستخدم كثيرا للإقناع، لكنها آلية خاطئة وخطيرة، فحين تحاول مساعدة فقير في الشارع ستجد من يقول لك، هؤلاء ليسوا محتاجين وهم أغنى مني ومنك، بل لا يوجد فقير في دولنا وإن الشحاذة مهنة اعتادها بعض الناس. تخيلوا لو أننا جميعا نفكر بهذه الصورة! وإذا ما كان هناك فئة قليلة تتخذ من الشحاذة مهنة… والله أعلم، هل هذا يعني ان نقبض اليد عن مساعدة انسان راجع كرامته ألف مرة ووقف بينها وبين ضيق حاله لينزل يطلب شيئا من الناس؟
في محاورة بين هادي العلوي وسعاد جروس وُضعت كجزء من كتاب بعنوان “حوار الحاضر والمستقبل” كانت سعاد تتذمر من الشحاذين وتصفهم بأنهم متطفلين يعيشون على تعب الناس. فأجابها هادي بأن الشحاذ ليس متطفلاً بل فقير عاجز عن العمل، أو عاطل لم يحصل على عمل، وهو لم يلجأ إلى الشحاذة تطوعاً وهواية، فالإنسان لا يفقد كرامته بسهولة لولا أنه يخير بينها أو الموت جوعاً. إنما المتطفل هو الحاكم الفاسد والتاجر والمثقف البرجوازي، أولئك الذين يأكلون قوت الناس ويدفعونهم نحو الشحاذة”.
من يعمل في وظيفة متدنية بالنسبة إليك كعامل جر العربة، ماسح الأحذية، والفراش الذي يعمل في المكتب هو فقير في وطنه ولم يحصل على عمل، فجاء ليجد فرصته في أرض الله الواسعة بدل أن يشحذ هناك. نعم أعينوهم قدر الإمكان لأن: النّاسَ للنّاسِ من بدوٍ وحاضرةٍ بعض لبعض وإن لم يشعروا خدمُ.