إبان اندلاع الحرب العالمية الأولى، كانت طلقة المدفعية مدّوية جداً لدرجة أنها كانت تكفي لإحداث الردة عند كبار الماركسيين.
الذعر كان كافياً ليجعل كباراً مثل كاوتسكي يرددون: “لا نريد سوى السلام! أولوياتنا التعايش السلمي ما بين الأمم (الإمبريالية)، ولتأتي الاشتراكية بعد ذلك!“. حينها لينين قال (اقتبسه هنا): “لا يعطينا كاوتسكي سوى وعود لأن يكون ماركسياً في حقب آتية، أما اليوم – في هذه اللحظة الحالية – فإنه يمتنع عن يكون ماركسياً. غداً: ماركسية مؤجلة، ماركسية مجمدة، ماركسية تحت الرهن. اليوم: نظرية انتهازية بورجوازية صغيرة؛ نظرية تهدف لتلطيف التناقضات.” (انتهى الاقتباس)
على الرغم من أن الكثير يفصلنا عن الحرب العالمية الأولى، إلا أن الذعر يبقى ذعراً. إن كتاب جيجك الذي أعرضه هنا، والمكوّن من 200 صفحة تقريباً، يمثل – برأيي – أحد أشكال هذا الذعر. لكن أرجوكم لا تظنوا بأنني بصدد علاج ذعره، كما لو كنت اخصائياً نفسياً، بل بتشخيصه كما هو عليه: ماركسية مؤجلة، ومجمدة، وتحت الرهن. إن ”الجائحة!“ (مع علامة التعجب) كانت كافية لتنفض ما تبقى من يسارية الكثير من المفكرين اليساريين، ومنهم سلافوي جيجك. إن أطروحة هذا الفيلسوف الأساسية هي: على الدولة أن تعظم من سيطرتها آلية السوق، ايّ تخضع السوق للمتطلبات الاجتماعية الأساسية. هذه العملية، حسبه، هي هي الشيوعية؛ بالتالي، وهنا نصل إلى لب أطروحته، تظهر اليوم ملامح الشيوعية في الدولة الرأسمالية، والفكرة هي تعزيز هذه المظاهر.
ومع أن هذه الأطروحة تبدو بسيطة، إلا إنها معقدة بتعقد أشكالها الآيديولوجية؛ لذا سيكون عليّ أن اعالجها – وإن بحدود – بشكل مضاعف في تحديد، أو إن شئت بشكل ديالكتيكي، عبر التقدّم بفرضيات نسقية (والتي تحتوي بدورها على أطروحات وحقائق) تبدأ من المحدد الاقتصادي إلى السياسي، وفي ارتباط هذا بذاك.
الفرضية الأولى: من بعد الجائحة، يتوجه النظام الرأسمالي العالمي نحو تقوية العوامل المناهضة للميل نحو هبوط معدل الربح؛ عبر قيادة طفرة في معدل التراكم.
إن التوجه العالمي لمعدل الربح قبل الأزمة التي أحدثتها الجائحة كان يتسم بنوع من ارتفاع تدريجي وبطيء، يشهد ازدهاراً مؤقتاً هنا وهناك، ولكنه بشكل عام محافظ على وتيرته. سأقول بشكل مقتضب جداً بإن التفسير الاقتصادوي الميكانيكي لهبوط معدل الربح يفترض بأن هناك حركة خطية لهبوط وارتفاع معدل الربح وبأنه من الممكن موازاة هذه الحركة الخطية بشكل مباشر بالحركة الدائرية الصناعية؛ لكنها، أعني الفكرة هذه، مغلوطة إذ إنها تنسى أهم محددات هذا القانون: وهو كونه قانوناً ميلياً. الميلية هنا، كما فسرها ماركس في المجلد الثالث، تعني بأن العوامل المناهضة والمساعدة لهبوط معدل الربح ليست خارجة عن بعضها الآخر، بل إنها دائماً متعايشة لأن جميعها آتٍ من مثل المصدر: علاقة القيمة الزائدة بسعر- التكلفة. ولما كانت الميلية تأتي بهذا المعنى وحده، فإنه لن يكون صعباً علينا ملاحظة بأن هذا الميل يعمل كالتالي: كلما كانت العوامل المناهضة أقوى كلما ارتفع معدل الربح، وكلما كانت العوامل المساعدة أقوى كلما انخفض معدل الربح.
إن ما شهده العالم في 2008 يفصح عن الحالة الأخيرة، ولكن العالم ما بعد 2008 لم يشهد حضوراً قوياً للعوامل المناهضة؛ فلن أكون على خطأ إن قلت بإن العالم لم يشهد ازدهاراً قوياً في العقد الماضي، وتلى ذلك طبعاً الجائحة التي وضعت النظام الرأسمالي مرة أخرى في أزمة عالمية. بشكل مفارق هذه الأزمة قد تعطي النظام الرأسمالي العالمي دفعة لتقوية العوامل المناهضة، وفرضيتي هي بأن بعض المفكرين اليساريين، ومنهم جيجك، رغم أنهم يجدون بأن بعض دعواتهم دعوات يسارية (أو اسوأ: اشتراكية) محضة، إلا إنهم يسلكون المسلك الجديد للرأسمالية العالمية.
دعوني اضرب مثالاً بسيطاً على ذلك، أرى بأن أزمة الجائحة قد تعطي دافعاً للنظام الرأسمالي في خفض -القيمة، والذي يترافق دائماً مع عملية فك-القيمة، وأحد مفاتيح ذلك هو التوجه نحو الطاقة المتجددة. سيعتقد بعضكم، بلا شك، بأن الرأسماليين اعتادوا على الوعود الكاذبة، ولا يمكن إطلاقاً أن يتجه الإنتاج الرأسمالي إلى الطاقة المتجددة؛ ظنكم صحيح بالمعنى الأخلاقي، لكنني أقيس هذه الحقيقة وفقاً لضرورة خفض- القيمة التي يأتمر بها رأس المال.
أدعوكم أن تمعنوا في عمليات أكبر الشركات الاحتكارية النفطية في العالم. أنظروا إلى الذعر الذي اجتاح هذه الشركات. مثلاً مؤخراً في مؤتمر صحفي قال المدير التنفيذي لشركة إي إن آي (Eni) الإيطالية بأنه من بعد أزمة الجائحة لا رجعة إلى العالم السابق، وبالتالي – مؤكداً على ما قاله بين كيفية إنتقال نحو الحفاظ على الطاقة في بعض لحظات الإنتاج، وبالأخص اللحظات التوزيعية والتسويقية.
إن الإتجاه نحو إنتاج الطاقة المتجددة، مثل الطاقة الشمسية وطاقة الرياح، موجود عند أكبر الشركات النفطية العالمية مثل: داتش شل، واكسون موبيل، وشيفرون. هذا لا يعني بأن مثل هذه الشركات ستتخلى عن الهايدروكاربونات، ولكنها الآن تتجه نحو فك القيمة من سعر التكلفة. لا تستغربوا إن وجدتم بأن الرأسماليين أنفسهم الآن سيدعوننا إلى الحفاظ على البيئة، إذ أن استقطاع القيمة من رأس المال الثابت هو نداء العصر (النمذجة عبر تقنيات ثلاثية الأبعاد، تقليص معدل الهدر”تسريبات الميثان“، فصل العناصر وإعادة تدوير المياه). وبالفعل، فإن التكاليف التي تفرضها الكوارث البيئية سنوياً على الحكومات هائلة جداً (تدمير الأبنية التحتية مثلاً: الحرائق، الأعاصير، إلخ).
من الناحية الأخرى: صعود ما يسمى بالاقتصاد التشاركي، وتعاظم دور الدرونات، والتعليم عن بعد، والاجتماعات الكبرى للشركات الكبرى والحكومات عن بعد (برامج مثل زوم)، وتعاظم دور الروبوتات في قطاع الصحة والتوصيل، والتكرير البايولوجي، واندماج الانترنت بالعملية -الإنتاجية، إلخ..، كل أحلام الثورة الصناعية الرابعة الموعودة!
إن هذه العوامل وغيرها لا تلعب دوراً هاماً في خفض لقيمة وحسب، ايّ في الخفض من قيمة سعر التكلفة، بل في تقليص وقت دوران رأس المال، والكثير من هذه العوامل مرتبط بكلا من وقت-الإنتاج ووقت-التدوير في مثل الوقت؛ خذوا قطاع المواصلات مثلاً: إن وجود نظام القيادة الذاتية الدقيقة (أو الدرونات) سيقلص من نسبة الخطأ، وبالتالي يقلص معدل الحوادث العرضية بالنسبة للإنتاج والتكاليف المتطلبة لتغطية هذه الحوادث، وهذا بدوره يقلص من وقت-تدوير السلع ووقت-إنتاجها: إنتقالها من مخزن إلى آخر، من نقطة إنتاجية إلى اخرى، إلخ. مثال آخر: التكرير البايولوجي قد يساعد على تقليص معدل إعادة إنتاج ما هدر في عملية الإنتاج، وفي نفس الوقت قد يقلص من معدل تكلفة صيانة المباني والمحروقات بالنسبة إلى رأس المال.
إن الطريقة التي يتناول فيها الرأسماليون المشاكل البيئية تختلف من حيث الجوهر عن الطريقة التي تتبعها الطبقة العاملة؛ الأولى تهدف إلى خفض القيمة، الأخرى تهدف إلى بقاء الجنس البشري. إن الرأسمالية ستتجه إلى الطاقة المتجددة في الحدود التي تلعبها الأخيرة في خفض القيمة ليس إلا، ولكن الرأسمالية العالمية (ايّ الرأسمالية الإمبريالية والكولونيالية معاً) غير قادرة على حل المشاكل البيئية بحكم التفاوت في التطور ما بين الأبنية الامبريالية والكولونيالية: تقسيم العمل العالمي، التفاوت في التقدم التكنولوجي، إلخ.
حقيقة أنه من الممكن لمعدل التراكم أن يجري بوتيرة أسرع تعني في ذات الوقت (ومن هنا نستطيع أن نفرق بنيوياً ما بين معدل التراكم الامبريالي والكولونيالي) بأنه كي يناهض رأس المال الإمبريالي ميله نحو هبوط معدل الربح سيشجع بشكل متعاظم على استحصال أكبر للريع الامبريالي، وعلى العكس من سمير أمين أفرق ما بين الريع الإمبريالي والريع الاحتكاري الإمبريالي، مما يشجع بدوره البلدان الكولونيالية على تعظيم الإنتاج الكولونيالي من جهة وتوفير الملاذ المناسب لرأس المال الإمبريالي من جهة أخرى؛ وفقاً للتقسيم العالمي للعمل.
أنا لا أقول بأن دعوات بعض المفكرين اليساريين اليوم إلى الحفاظ على البيئة (والمشاكل البيئية تشكل الرعب الأساسي بالنسبة لجيجك) هي باطلة أو لا يمكن دعمها؛ بلا شك، إن لم نرد أن نوصم بالإنغلاق الكهنوتي، لا بد أن نقدّم دعمنا لأي حراك تقدمي في العالم، ولكن أحياناً لا بد أن يكون هذا الدعم مشروطاً.
لكن، في مثل الوقت، أنظروا ما صنعه جيجك من صيغة ماركس: ”من الكل حسب عمله إلى الكل حسب حاجته“؛ هذا اليوغسلافي (سابقاً) لم ينس التيتوية بشكل كلي. كما إنه واضح لماذا تشكل هذه الصيغة فريسة سهلة لهذا التلاعب، إذ أن ماركس، في (نقد برنامج غوتا)، استحضر هذه الصيغة لا ليتحدث عن اسلوب الإنتاج الشيوعي، آيّ الاقتران ما بين العلاقات الإنتاجية والقوى الإنتاجية، بل أسلوب التوزيع في هذا النمط. إن ماركس في رده على اللاساليين كان يتحدث ضمن سياق معين، وهو مفهوم تماماً، ولكن طلاق عملية الإنتاج بعملية التوزيع التي يقوم بها جيجك لها معنى يتعدى الرمزية التي يستعملها.
إن هذا الطلاق طلاق واعي، مارسه تيتو قديماً: ”سيطرة الدولة الاشتراكية على السوق الرأسمالية = اشتراكية السوق“. هكذا، تنظيم الإنتاج من أجل الحفاظ على البيئة، أو بإختصار تنظيم الإنتاج من أجل تقليل مساوئ السوق على الحياة اليومية لا يمكن أن تكون دعوة تقدمية على الإطلاق. وكما سلف لي القول: إن هذه الدعوة تتماشى تماماً بالحركة الراهنة للنظام الرأسمالي نفسه.
من الواضح بأن التحكم بالسوق أصبح مرادفاً للاشتراكية عند الكثير من الاشتراكيين الناشئين، ولا يمكن أن نلقي اللوم على التلميذ الذي يخطىء، ولكن أن يحضر هذا الخطأ الساذج عند عموم المثقفين هو شيء لا يغتفر له. إنه لأمر جيد، على الأقل، بأن جيجك واع بأن ما يطرحه يختلف كلياً عن اشتراكية ماركس العلمية، وأنه يقوم بذلك تحت اسم الواقعية: مثل الواقعية التي أوقعت هيغل في المثالية! لكن التحكم بالسوق ليست دعوة اشتراكية، مثلما التأميم لا يمكن أن يكون دعوة اشتراكية (راجعوا لينين وماركس في هذا الشأن)، على العكس تماماً: ما لم نكن جاهلين كلياً بتاريخ الرأسمالية، ما لم نكن واقعين كلياً في وهم الأيديولوجيا البورجوازية، سنجد بأن ليست ثمة مرحلة تاريخية من تمرحل نمط الإنتاج الرأسمالي لم تكن فيها للدولة الرأسمالية دوراً فعالاً.
من هنا نلتقي بالجانب السياسي والأيديولوجي. وسنواصل عرض الفرضيتين التاليتين في العدد القادم.