يتردد مصطلح مسافة الأمان كثيرا في حياتنا هذه الأيام، وذلك على خلفية جائحة كورونا، وضرورة التقيّد بالتباعد الجسدي اتقاء لوباء سريع الانتشار. رحم الله امي التي لم تصدق مرض كورونا ولم تقبل به، ولم تعترف بمسافة الأمان الضرورية التي اعتمدناها في التعاطي معها منذ بداية الجائحة، بل كانت ترى الأمان الجسدي والإنساني العاطفي في قربنا منها وفي تحلقنا حولها وفي قبلاتنا واحتضاننا وملامستنا لها، وتجد في هذا التلاحم والتلاصق بلسماً ودواءاً يعين على مواجهة ألم الشيخوخة ومرارة العزلة وقسوة الضجر.
مسافة الأمان الضرورية للسلامة وحماية الناس كانت غائبة في مرفأ بيروت عندما جرى تخزين مواد شديدة الخطورة وقابلة للاشتعال، وتمّ تأجيل البت في أمرها قانونياً وسياسياً وقضائياً حتى انفجرت وأودت إلى كارثة كبرى.
بعد الانفجار طرح التساؤل في كل مكان: كم هو مقدار الأمان الذي يتوفر في منشئآتنا الحيوية والخدمية التي تستخدم الأدوات والأجهزة والمواد الخطرة ؟ وهل نحن محصنون من انفجارات مماثلة ؟
لكن قبل أن نستطرد دعونا نتساءل: ألسنا نتعاطى يوميا مع مسافات الأمان المادية والمعنوية والصحية والسياسية والاجتماعية في حياتنا وعلاقاتنا ومعاملاتنا؟ ألا تتضمن العقود التي نوقع عليها في شؤون معاشنا العديد من مسافات الأمان التي يجدر بنا معرفتها جيداً، إذ عبرها يتحدد دورنا ومسؤوليتنا وحقوقنا، في قبال مسؤولية الآخرين، كي نعرف لاحقاً من نساءل ومن نلوم ومن نقاضي إذا انفجر الجهاز أو تصدعت المؤسسة التجارية أو انفرط عقد الشراكة السياسية ؟
ولعلنا لا نجافي الحقيقة إذا قلنا إن مسافة الأمان السياسية الغائبة في العالم العربي هي التي قادت إلى الاضطرابات والانفجارات السياسية عام 2001 . منح الحكام لأنفسهم كل الأمان وكل وسائل الحماية وباعدوا بينهم وبين شعوبهم التي لم يترك لها أي وسيلة للتنفيس وللحركة والتعبير أو الاحتجاج ضمن مسافة الأمان المعتادة والطبيعية بين الراعي والرعية. في كل المجتمعات الديموقراطية الحرة المتحضرة، تصنف الدول العربية ومنذ سنوات في اسفل قوائم حقوق الانسان والحريات الصحفية والسياسية وحرية الانترنت وحرية التغريد .
على أن هناك مسافات امان أخرى، مرئية وواضحة أحيانا أو متوارية أحيانا أخرى، أو ربما معروفة بداهة أو عرفاً، بيد أنها تبرز عند المحك، وأولها العلاقة مع النفس، ثم مع الآخر، القريب والبعيد، الشريك والزوج، رب العمل، الخادم، الأجير، الطبيب. إن رسم طريق الأمان لا يتأتى دون الوعي والإدراك بكل التزامات المرء وحقوقه في مقابل حقوق الآخر.
وحين نأتمن قائداً أو رئيساً أو شريكاً على مصالحنا وأموالنا ومستقبلنا، فإننا نكتب العقود الموثقة ونحدد مالنا وما علينا ضمن مسافات الأمان التي تحمي حق كل طرف.
وفي العلاقات الزوجية والاجتماعية والتجارية على اختلافها، تنشأ المشكلات حين يفتح أحدهم ثغرة في مساحة الثقة والأمان متوسلا الخديعة والتلاعب، ونحن نقول في امثالنا “أعطيناه الخد فتطاول الشفاه”، “اذا رأيت صديقك حلوا فلا تأكله كله”، وكلها أمثال تشي بانتهاك مساحات الأمان المسموح بها.
ويتعامل الكاتب والصحفي بوصفه ضمير الأمة كل يوم مع مسافة الأمان هذه للإبقاء على راسه حراً وقلمه مستقلا ً.
وليس هناك أوضح من تلك المسافة المرورية الآمنة التي نعرفها جميعا ونحن نقود سياراتنا، وحيث تشير علامات الطريق إلى الحدود والضوابط، وتقع أغلب الحوادث القاتلة والمميتة حين نتخطى مسافاتنا أو سرعتنا تهوراً أو استهتاراً أو سهواً أو انشغالاً بهواتفنا المحمولة.
الشفافية والوضوح والصدق والمصارحة والرضا عناصر مهمة في كل العقود والمواثيق الضامنة للأمان المادي والمعنوي لكل الأطراف المشاركة فيه، وذلك منعاً للتجاوز وتجنباً للكوارث الراهنة اوالقادمة.
على أن مسافة الأمان ليست ثابتة بل متحركة ومتغيّرة ومتحوّلة، وفقا لتصاريف الزمن ومعطياته وقوانينه، فلكل عصر ثوابته وحدوده التي يُعدّ الالتزام بها علامة على وعي المجتمع ورقيه وتحضره.
لكن هذه المسافات تظل موجودة وفاعلة ومؤثرة دوماً، خصوصاً إذا حظيت بالاتفاق والإجماع والقبول من كل الأطراف، واسوأ الأمم والشعوب تلك التي تلكأت أو أجلت وضع المسافات الآمنة في كل مفاصل دساتيرها وعقودها وقوانينها وعلاقاتها بغيرها.
عن مسافة الأمان في حياتنا
الديمقراطية أولاً وأخيراً!
بغض النظر اتفقنا أم اختلفنا حول اهمية وصلاحيات المجالس التشريعية في دولنا العربية أو حتى في غالبية دول ما يعرف ب”العالم الثالث”، أو حول مدى استقلالية تلك السلطات التشريعية القائمة وما يكتنفها من عيوب ومثالب، وبالتالي قدرتها على إحداث الرقابة المطلوبة على أداء الحكومات، واجتراح الحلول والمقترحات التي تلبي طموحات مجتمعاتنا في تحديث وتطوير منظومة التشريعات والقوانين لديها، وتحقيق الإصلاح الحقيقي ومكافحة وجوه الفساد وحماية المال العام.
إلا أن تلك السلطات التشريعية على الرغم من مقوماتها المتباينة بين بلد وآخر، تبقى في البدء وفي الخاتمة مؤسسات موجودة ضمن الهياكل السياسية القائمة في بلداننا، ويبقى بعدها التحدي الأكبر الذي ليس لدينا للأسف، خيار آخر سواه هو مدى قدرة مجتمعاتنا ودولنا على الصبر على مهمة تطوّر تلك التجارب(..) لإحداث التحوّل الإيجابي وتقويم عوامل الإعوجاج والنكوص فيها.
وفي المجمل هي تجارب إما غير مكتملة أو معاقة أو حتى مشوّهة، ونحن بطبيعة الحال لا نريدها أن تبقى عنواناً فارغاً للتجاذبات السياسية العدمية إلى ما لا نهاية، في وقت تتسارع فيه تحولات الجغرافيا والتاريخ وتداخل المصالح وقوى النفوذ إقليمياً ودولياً، ويتمّ تهميش ادوارنا واضاعة أبسط الحقوق وإهدار أبسط المسلمات والثوابت والقيم ويكون علينا بعدها أن نقبل فقط بدور المتفرجين.
وكثيراَ ما يتمّ التعويل على حيوية المجتمع ودور مؤسساته ومواقفها تجاه مختلف القضايا وقدرتها على إحداث الفارق في الممارسة السياسية والاقتصادية بشكل عام، وهذه قضية تستحق فعلاً التوقف عندها طويلا، فتلك الحيوية هي باروميتر ومقياس التطور للمجتمعات، مضافا إليها فاعلية النخب من المثقفين والسياسيين وكتاب الرأي والفنانيين والباحثين وغيرهم، والمشكلة تصبح عصية على الجميع حين يغيب او يُغَيّب هذا الدور لسبب او لآخر، نتيجة ما تعانيه تلك المجتمعات من كبت سياسي وقهر اجتماعي، وانعدام للحريات، أو من تغييب لدور النخب والنقابات والشباب والمرأة، واستبدال مؤشرات وعوامل النهوض تلك، بأخرى تعزز السقوط في براثن التراجع والاسفاف وإشاعة الانتهازية في المجتمع والنكوص مجددا عن قيم التحديث والتطور والتقدم.
هنا يكون المجتمع أكثر تعطشاً لاستعادة واسترداد عوامل نهوضه مجدداً، ليبدأ في رفض واقعه الجديد الذي أصبح عبئا، محاولاً مقاومة السقوط المريع في مجموعة القيم والمبادىء والثوابت التي فقدها المجتمع عبر مراحل زمنية محددة، محاولاً التشبث بتلك القيم والثوابت، لأنها ببساطة هي آخر ما تبقى له من رصيد إنساني وحضاري ولا يريد أن يفقدها مهما كان الثمن.
ذلك هو شعور شرائح واسعة من مجتمعاتنا العربية والشرق اوسطية وسط هذا الكم من الدمار الاجتماعي والثقافي والفوضى وضياع الهوية الوطنية،وهنا بالضبط تبحث الشعوب الحية عن دور النخب والمؤسسات والأحزاب الحقيقية القادرة على قيادة واستنهاض تلك الروح التي سادت يوماً، وتلاشت لاحقاً بفعل عوامل الزمن وهيمنة السياسات المعقية لحركة المجتمع.
هنا يصحّ القول إن إرادة الشعوب تبقى هي الخيار الحاسم والمتاح، ولا سبيل أمامها سوى التعويل على مزيد من الوحدة والتلاحم، عوضاً عن الوضوح في الأهداف وتعزيز النظرة المتفائلة للمستقبل، والوعي بحجم ما هو قادم من تحديات ومخاطر لا طاقة للمجتمع على تحملها من دون أدوات حقيقية، في مقابل عالم هو أكثر تقدّما واستعداداً ويمتلك الكثير من أدوات وعوامل التقدم العلمي والتكنولوجي، ويحفل بصراع اقتصادي وهيمنة وتدخلات وسباق تسلح غير مسبوق.
أقول ذلك وأنا اتابع ما يجري في أكثر من دولة من دولنا العربية وحتى في بعض الدول المتاخمة لجغرافية منطقتنا العربية والخليجية، والتي إما أن تكون تورطت أو ورطت في العديد من الصراعات الداخلية والإقليمية والاضطرابات والحروب، حتى تقهقرت واستنزفت مواردها وخيراتها وقدراتها على لجم عوامل الانحدار والتراجع، وكان بعضها حتى سنوات قريبة خلت يحتل مواقع اقتصادية ويحظى باحترام دولي، وينظر لها باعتبارها مراكز اشعاع وتنوير حضاري وثقافي.
وعند البحث عن مسببات ذلك التراجع المريع نكتشف أنها قد فرطت في هيبتها واحترامها، وتنازلت راضية عن هويتها وسيادتها واستقلالها وسمحت بإهمال وتغييب أبسط مقومات صناعة القرار لديها عبر السماح باستشراء وهيمنة قوى الفساد، وتغلغل تأثير ما بات يعرف بالدولة العميقة، وتمكنها من قمع مجتمعاتها بأساليب وحيل متعددة وتلاعبت بالديمقراطية وحولتها لمسخ دون مضامين تمت لما بات يعرف بالحكم الرشيد، وتسببت تلقائيا في غياب الحريات وانعدام الأمن الحقيقي وتراجع الثقة في المستقبل وعدم قدرة مجتمعاتها على ادارة صراعاتها بحضارية أو على أسس من الديمقراطية وتحقيق العدالة الإنسانية، وتعاملت بفوقية وأساليب بآلية حيال صيانة عوامل التوازن المجتمعي، وساعدت على تحقيق الإنقسام المدمر لمجتمعاتها رغبة منها في إحكام السيطرة، ودون أن تسعى لوضع الحلول والمعالجات الوازنة لحركة المجتمع واستيعاب عوامل تطوره اللاحقة.
لا تشغلني النهاية.. ولا أبدية اللحظة الناعمة
لا أزعم أن امرأة مثلي
تستطيع أن تخمّن المسافة بين التجربة والكلمات
المجنونة التي تعيش في داخلي
تمسح أحمر الشفاه
دون أن تمحو أثر القبلة
تعلق في رأسي مسماراً غائراً عن الموت
وتضيء فكرة خافتة عن الأمل
تغني ببرود في جبيني
تسرح شعري بكامل هدوئها
لتدس أفكارها الحادة..
*****
أحاولُ أن أتصرفَ كامرأة ناضجة
تحتفظُ في حقيبتِها بمناديل معطرة
لتبكي بوقارٍ خلف جنازة قلبها.. .
امرأةٌ تقيسُ ذكرياتها
وهي تتسوق في متجرٍ نسائيٍ متواضع.. .
تُكوّمُ أياماً كثيرة على الأرض
لتشتري ابتسامة واحدة
أمام مرآةٍ عريضة!
*****
لستُ ملاكاً
ابتسامتي خَجْلى
طولي ليس فارعاً كعارضاتِ الأزياء..
ملامحي أقربُ لطفلةٍ عنيدة
غموضُ وجهي واضحٌ كنَمَش
أخبئُ انفعالاتي جيداً وراءَ قلبي
أبللُ شفتيَ بكلامٍ لا أملكُ قولَه
وردودُ أفعالي غالباً متأخرة..
كيف ابتسمت لي بهذهِ الوداعة
كأنكَ تَمسحُ بعينيكَ على روحي؟
****
مثل بطلة فيلم حسناء أريد أن أكون..
ترقص التانجو مع حبيبها
على أغنية لفرانكس سينترا
تغوص ابتسامتها في وجنتها وهو يغازلها
تشرب كأساً من الحلم
تختال بقلبها وهو يخرج من الدانتيلا لبطانة الفستان
قد لا تملك في تلك اللحظة سوى قصراً شفافاً من الكلمات..
لكنها سعيدة..
لا تشغلني النهاية.. ولا أبدية اللحظة الناعمة
أياً يكن سأختم المشهد بتغيير القناة..
جدل حول الأزمة الوجودية التي يعيشها العالم
الموت وما بعد يحاصران العالم (2 – 3)
الثورة الروسية نفسها كانت ثلاث ثورات في وقت واحد، فهي ثورة فلاحية ضد أشكال القنانة البالية، وثورة ليبرالية سياسية ضد الشكل الأوتوقراطي للقيصرية، وهي ثورة عمالية في المدن. كان لينين يعي تماماً شروط التطور التاريخي للرأسمالية وسعى للخروج منها وتجاوزها كما وضعها ماركس.
ولا يمكن تجاوز الرأسمالية إلا بعد وصولها مرحلة عليا من النضج. وكانت شروط النضج غائبة عن روسيا. لذلك اعترض مفكرون كبار على فكرة استيلاء الطبقة العاملة الروسية على السلطة. اعترض كاوتسكي، الذي أكدّ أن ضعف التطور الرأسمالي لروسيا لا يتيح للبلاشفة الاستمرار في السلطة على قاعدة مثل هذه، وتنبأ في دراسات عديدة مطلع ثلاثينيات القرن وقبل وفاته عام 1938 بتعذر استمرار التجربة.
وأكدّ انطونيوغرامشي أن الثورة الروسية هي ضد منطق ماركس الوارد في كتابه (رأس المال) باعتبار روسيا البلد الأفقر والأقل تطوراً، واعترض بليخانوف الذي قال إن بلداً مثل روسيا يقوم على انتاج سلعي صغير، وبحر من الفلاحين (البنية التحتية) لن يسمح بنشوء نظام سوى استبداد قيصري حتى لو ارتدى رداء بلشفيا. كان النموذج السياسي الاقتصادي والاجتماعي الذي بناه لينين هو نموذج رأس مالي حكومي.
وقد أصر مجموعة من الأدباء مثل فلاديمير بوكوفسكي وفارلام شالاموف ان يحتفظوا للأحرار لإنسانيتهم وقدراتهم التي لا تقهر، وبكرامتهم التي تظلّ مرفوعة كما فعل فلاديمير بوكوفسكي في روايته (وتعود الريح) والتي تعتبر ضحكة ساخرة لكائن جبار هو الانسان في وجه التعذيب والتجويع والقتل، وهذا الأدب ظلّ محظوراً، وغالباً لم يتح له أن يرى النور إلا بعد أن غيّب أصحابه الزمن أو بعد أن غاب زمانهم.
وإذا كان الاقتصاد الحقيقي والعيني الذي عرفه ماركس والمتمثل بالزراعة والصناعة والتجارة والخدمات، فإننا اليوم في زمن الاقتصاد الافتراضي الذي لم يكن موجوداً أيام ماركس، والاقتصاد الافتراضي هو اقتصاد غير مرئي وتتحكم فيه فئة محدودة جداً من البشر على مستوى العالم وليس من السهولة أن نعرف من هم هؤلاء الاشخاص. وهم بما يملكون من مال قادرون على التحكم بمقدرات الأرض وخيرات الشعوب، وهم يسرقون وينهبون هذه الخيرات لكن بطريقة سهلة وسلسة من دون أن تدري الشعوب بذلك.
انهم أقوى من الدول مجتمعة، لا بل أن الدول نفسها تعمل في خدمتهم وهم يجمعون أموالاً طائلة لم يكن ليحلم بها قارون في زمانه. وليس من المصادفة في شيء أن يكون جميع من يتولى رئاسة المؤسسات المالية العالمية مثل البنك الأوروبي أو صندوق النقد الدولي أو البنك الفيدرالي الأميركي أو وزارة الخزانة الأميريكية موظفين في هذه البنوك والصناديق التي تتحكم في البورصة العالمية وتمتلك تريليونات الدولارات.
والرأسمالية التي قال عنها ماركس يوماً أنها تملك بذور فنائها، ستفنى وتندثر بعدما تحولت إلى رأسمالية متوحشة، لكن لا لتحكم مكانها طبقة البروليتاريا، فهذه الرأسمالية المتوحشة ستقود العالم إلى الفوضى والخراب إلى درجة أن العالم نفسه مهدد.
انهيار الاتحاد السوفييتي وانهيار الاقتصاد الموجه معه ودفع عملية الخصخصة وإلغاء الضوابط إلى مديات قصوى، تشكل انتصاراً لاقتصاد السوق، وما إبرام اتفاقيات الجات ونشوء منظمة التجارة الدولية، وتسارع عمليات الخصخصة وفتح الأسواق سوى معالم على ظفر قوى اقتصاد السوق عالمياً.
إن فكرة (انتصار السوق) تقترن لدى منظري هذا التيار وسياسيه، بهجوم سياسي أيديولوجي جامح يسير في عدة اتجاهات، الأول الهجوم على دولة الرفاه الاجتماعي، بهدف إعادة (تسليع) العمل، الثاني الهجوم على الدور التنظيمي للدولة في مجالات السياسة المالية والنقدية والاجتماعية الثالث كسر الحواجز القومية أمام حرية حركة رأس المال في بقية ارجاء العالم الرابع تقليص دور الدولة في العالم المتطور والنزول به إلى الدور الذي تلعبه البلديات في المدن.
بتعبير آخر إلغاء دور الدولة القومية كموجه وناظم اقتصادي والاقتصاد وفق هذه النظرة هو الأساس، أما السياسة فهي التابعة وعليه أن الدولة القومية، كأساس للسياسة غدت نافذة، أما الشركات والأسواق المتحررة من سطوة الدولة فستدير عوامل الانتاج بأعلى كفاءة ممكنة.
هذه هي باختصار وجيز النظرة الليبرالية الجديدة للعولمة واتجاهات نشاطها العملي في اطارها.
فلا يجب العودة إلى ماركس حرفياً، إذ لا أصولية للفلسفة لأنها التساؤل الدائم الذي لا ينتهي، بل صراع على مستوى الكوكب بين قوة تمثل أفراداً قليلين بإمكانهم أن يسرقوا الشعوب وهم يجلسون في غرفهم وبين الشعوب التي ستتساوى في البؤس، وقد قيل: ماجاع فقير إلا بما متع به غني. فثروات الأرض التي كان يعتقد مالتوس انها محدودة جداً ولا تكفي وأن المجاعة آتية لاريب تبين انها غير محدودة بمعنى ما، وان الأرض بما لديها من طاقات كفيلة بإطعام المليارات لا سيما مع تطور العلم.
وبما أن ماركس ينتمي إلى المظلة الهيغلية، فهو إذاً يعتبر أن تفسير العالم الذي كان مهمة الفلاسفة منذ ما قبل افلاطون وأرسطو حيث اعتبر هذا الأخير أن الفلسفة هي البحث عن العلل والمبادئ الأولى قد انتهى مع هيغل الذي ختم الفلسفة والمطلوب الآن لما يتوافق مع هذا التفسير الذي مازلنا بشكل أو بآخر، نرزح تحته أعني ان السستام الهيغلي مازال طاغياً ومهيمناً.
أما نيتشه فقد رفض هيغل كلياً، وكان رفضه ينطلق من نقاط تقع خارج المظلة الهيغلية. وهذا ما تابعه فلاسفة الغرب من امثال فوكو ودولوز ودريدا وليوتار، في محاولاتهم الافلات من السستام الهيغلي، فالفضاء الفكري لهؤلاء بالاستناد إلى نيتشه، يختلف جذرياً عن الفضاء الفكري الهيغلي فإذا أردنا أن نفكر بشكل مختلف حقاً علينا أن نقوم بنقد جذري لصورة الفكر التي يأخذها الفكر عن نفسه، لأنها هي التي تتحكم في ابداع المفاهيم وهذا ما فعله نيتشه.
وجه نيتشه نقداً لبنية الفكر والأخلاق السائدة لكن لا كما فعل كانط الذي وجه نقداً للأخلاق لاسيما اتجاهاتها الخالطئة والمزيفة، من دون أن يتخلي عن هذه الأخلاق، ولذلك أعاد كانط في العقل العملي ما رفضه في العقل النظري، أما في نظر نيتشه فالمطلوب هدم القيم السائدة وتقويضها من أساسها وإبداء قيم جديدة مكانها، فهو يرفض القيم السائدة الإلهية والإنسانية معاً، لكنه في المقابل يرفض غياب القيم، لذا يقوم بابتداع قيم جديدة مكانها. لقد ميّز نيتشه بين قيم السيد وقيم العبد فالعبد يبقى عبداً وإن استلم السلطة مادام يفكر بالذهنية ذاتها ويتبنى القيم ذاتها. وقد عُرف دولوز بالفيلسوف المرتحل أو البدوي، وقد ارتكز على نيتشه في ابداعه لمفهوم الفكر البدوي، فمنذ كتابه (نيتشه والفلسفة) اعتبر دولوز ان نيتشه يمثل فلسفة مضادة.
قال نيتشه في كتاب (العلم الجذل) عن إله الحداثة: “كيف استطعنا أن نفرغ البحر؟ من أعطانا الأسفنجة لمحو كل هذا الأفق؟ ماذا فعلنا فصلنا الأرض عن شمسها؟ إلى أين تقودها حركاتها حركاتنا؟ أبعيداً عن كل الشموس؟ ألم نندفع في منحدر لا قرار له، أما يزال هناك أعلى وأسفل؟ ألسنا نتيه صوب عدم لانهائي؟”
بتلك الكلمات مهدّ الطريق لظهور مابعد الحداثة، هذا هو عالم مابعد الحداثة بلا ثوابت أو مركزية أو حدود، لا شيء يتجاوز المادي المباشر لا يمكن لأي منظومة أخلاقية أن تحكم. الإنسان كائن غرائزي مثله مثل بقية الكائنات، وكل الكائنات جزء من الطبيعة المادية التي تخضع كل الكائنات فيها لـ (إرادة القوة) وإرادة القوة هي محرك التاريخ. وسبب هذه القطيعة الكلية مع الثوابت هو أن نيتشه كان يرى أن الحداثة بمفهومها الغربي ماهي إلا ميتافيزيقيا مقنعة وهم يؤله فيه الإنسان بدلاً من الإله وتصبح فيها الحضارة الغربية هي المطلق.
أعلنت كلمات نيتشه (موت الإله) نذيراً بقدوم عصر جديد خطير سوف يتحدانا جميعاً. وكانت تلك الكلمات تحذيراً بصفته مراقباً يتكلم من أجلنا جميعاً. إن عبارة (موت الإله) لم تكن جعجعة إلحادية بغيضة، بل تحسراً، وصرخة في المساعدة. فمن نكون نحن حتى نقرر معنى وجودها أو أهميته، من نحن حتى نقرر ماهو جيد أو صحيح في هذا العالم؟ كيف نستطيع أن نحمل هذا العبء على كاهلنا؟.
فهم نيتشه أن الفوضى وعدم قابلية المعرفة أمران أصيلان ملازمان للوجود، وآمن بأننا لسنا مؤهلين نفسياً للتعامل مع مهمة شرح المغزى الكوني لوجودنا. وقد شاهد الديانات الأيديولوجية التي اكتسحت البشر في عقاب عصر التنوير [الديموقراطية، القومية، الشيوعية، الاشتراكية، الكولونيالية، وغيرها] فرأى أنها ليست أكثر من تأجيل للأزمة الوجودية التي ستعانيها البشرية. كان يكره هذه الأيديولوجيات كلها. وجد أن الديموقراطية سذاجة، وأن القومية غباء، وأن الشيوعية أمر مفزع، وأن الكولونيالية عدوان.
إن الإنسان الذي ولد مع الحداثة قد حان وقت زواله، لأن الشروط والترتيبات التي سمحت بوجوده منذ بداية القرن التاسع عشر، أخذت بالتبدل والتغير، لهذا أعلن فوكو (موت الإنسان) لأنه اكتشف أن هناك قوى أقوى بكثير من الإنسان تفعل فعلها فيه ولا تسمح له بادعاءاته التي يتبجح بها، قوى في الاقتصاد، واللغة والحياة فإن تناهي الإنسان الحديث ينبع من ذاته وولادة الانسان الحديث جاءت محددة بقدراته المتناهية، ومع ذلك فقد عيّن لنفسه مهمة فوق بشرية أي مهمة إلهية، واحتل العرش الذي تركه الله، لا سيما مع اعلان موت الله النيتشوي. ومع موت الإنسان يزول الأساس الذي تستند إليه العلوم الإنسانية.
المسألة اليوم هي الحياة. والحياة كما يقول فوكو: (هي رهان الصراعات السياسية حتى وإن تم التعبير عنها عبر تعابير حقوقية: الحق في الحياة وفي الجسد وفي الصحة، وفي السعادة، وفي إشباع الحاجات، وهذا الحق غير مفهوم في السستام الكلاسيكي).
يلحظ دولوز عند فوكو، أن هذا التبدل في عناوين المقاومة تبدل تبعاً للتبدل في بنية السلطة نفسها. كان الملك يملك حق الاعدام. أما اليوم فتتخلى السلطة عن هذا الحق وتميل إلى إلغاءه. ولكن في المقابل تسمح بالمجازر والكوارث، ليس جراء العودة إلى الحق في القتل بل على العكس بإسم العرق والمساحة الحيوية والشروط الحياتية لمجموعة بشرية تظن نفسها الأفضل وتعامل عدوها لا بوصفه العدو الحقيقي، بل بوصفه خطراً بايولوجياً. ويخلص دولوز إلى القول (تصير الحياة مقاومة للسلطة عندما تتخذ السلطة الحياة موضوعاً لها).
وفوكو يعدل خطة دراسته ليرجع إلى الأغريق حيث يبرز الشعار التالي: (إذا أردت أن تكون مواطناً فاعلاً في المدينة فعليك أولاً أن تتمكن من السيطرة على نفسك).
لكل ما هو سائد من فلسفات فهناك مواجهة بين نيتشه والفلسفة السائدة، فنقد صورة الفلسفة هو استكمال لعمل كانط في نقد العقل المحض، فكما أن كانط وقبل أن يقوم بنقد لموضوعات المعرفة لسساتيم الفلسفة، قام بنقد العقل المحض، وبيّن حدوده وامكاناته، كذلك اعتبر دولوز أنه لابد من القيام بنقد جذري لصورة الفكر الكلاسيكي، حتى نتوصل إلى فكر من دون صورة، إذا أردنا أن نفكر من جديد بشكل مختلف، أي إذا أردنا أن نجعل الفلسفة من جديد ممكنة.
هذا الفكر الجديد يتطلب نقداً جذرياً لمسلمات صورة الفكر القائمة، حتى نتوصل إلى فكر من دون صورة أي إلى الفكر البدوي. وأفضل من وجه نقداً لصورة الفكر الدغمائية السائدة هو نيتشه الذي وجه نقداً جذرياً لمفهوم الحقيقة، معتبراً أن مقولتي الصواب والخطأ لم تعدا نافعتين للحكم على القول الفلسفي حيث خلق مكانهما مقولتا المعنى والقيمة.
فهناك صورة عالية ذات قيمة وصور هابطة لا قيمة لها. يقول دولوز: (نعيش على صورة معينة للفكر، أي أن لدينا، قبل أن نفكر فكرة مبهمة عما يعنيه التفكير، عن الوسائل والأهداف نعم صورة جديدة لفعل التفكير واشتغاله ونشأته في الفكر نفسه هذا حقاً ما نبحث عنه).
ويقول أيضاً (إنّ ما تم سحقه وإبطاله باعتباره أذى، كل ماينتمي إلى فكر من دون صورة البداوة، آلة الحرب، الصيرورات، القرانات المخالفة للطبيعة، الاقتناصات والسرقات مابين المملكتين، اللغات الصغرى أو التلعثمات باللغة بالتأكيد فروع معرفية غير الفلسفة وتاريخها يمكن أن تلعب دور المضطهد للفكر).
(الجزيرة المهجورة وحوارات) في زمن دولوز لعب كل من ماركس وفرويد وسوسير، أي التغيير والتأويل والنطق، دور مضطهد ذي ثلاثة رؤوس، فالجميع سلّم، في وقت من الأوقات بأنه لابد أن نكون مع ماركس أو فرويد، وأن نبتعد كثيراً عن سوسير. للتخلص من كل ذلك يبني دولوز على نيتشه لأنه قوّض صورة الفكر القائمة، وأحلّ مكانها صورة جديدة للفكر أو أحل مكانها فكراً من دون صورة، وكذلك بنى دولوز على مفكرين وفلاسفة وجد فيهم عناصر جدية لهدم صورة الفكر الأخلاقية القائمة وانشاء صورة جديدة مكانها من امثال لوقريتس والرواقيين وسبينوزا وهيوم وبرغسون ولايبتس وبروست وغيرهم.
لم تعد الفلسفة تبحث عن اليقين، لم تعد تبحث عن صخرة صلبة يقينية لتقف عليها وتعيد بناء الكل من خلالها، فهي تمد أسطحاً فوق الخواء وفوق العماء، وتأمل أن تحظى بنوع من التماسك، فالهويات جميعها قد انهارت الذات العارفة والعالم وغيرها من الهويات، وبتنا نعيش في عالم بلا تحت ولا فوق وبلا مرجعية نستند إليها، ومع ذلك نهتم بالأسئلة التي تطرحها علينا طبيعة عقولنا. فالفيلسوف البدوي يخوض حرب عصابات ضد الخارج والداخل ضد نفسه ايضاً.
هذه هي فلسفة مابعد الحداثة حيث يصعب الاستقرار على معنى، وهذا هو عالم مابعد الحداثة المتشظي، حيث تظهر هشاشتنا أمام نسبية كل شيء في هيئة وعي ساخر بالنفس ومحاكاة ساخرة للعالم والواقع من حولنا.
عالم يرى فيه جاك دريدا فيلسوف اللغة أن الحقيقة شظايا مبعثرة نازعاً القداسة عن مركزية العقل، يرى فيه ميشيل فوكو أن الفلسفة ماهي إلا محاولة لتشخيص الواقع والتفكير في اللامفكر فيه لاكتشافه بشكل دقيق لفهم التكوين الحقيقي للظواهر وأسباب سيطرة مواضيع معينة في فترات تاريخية معينة. لا يعدنا فوكو بأي شيء عن الحقيقة بل فقط (جينيالوجيا) أو (علم أنساب)، عالم يسقط فيه جان ليوتار كل السرديات الكبرى التي قامت على أسس العقلانية والتنوير.
عالم مابعد الحداثة الذي ما انفك جان بودريار يؤكد فيه على موت الواقع واغتيال المعنى وتفتت المصادر المنتجة له، عالم مابعد الحداثة؟ عالم مفكك ونسبي ومبعثر لشظايا يصعب فيه اللامعنى وتتفتت السرديات الكبرى – عالم العدم اللانهائي، يسعى مشروع جاك دريدا التفكيكي نحو الكشف عن لا استقرارية اللغة والنظام بصورة عامة، ورفض فكرة أنه يمكننا السيطرة على النظام وعلى الطبيعة ككل تبعاً لذلك، فلا يمكننا حسب دريدا التنبؤ بنشاط العلامة، ولا يوجد أي ارتباط نهائي قار وثابت لضمان اشكاليات التواصل من خلال اللغة. فزلات اللسان والأخطاء تحدث دائماً وللكلمات تاريخ وظلال من المعاني والسياقات السابقة التي وظفت فيها، وحتى على المستوى الصوتي هناك بعض الأصوات التي تحمل إيحاءات مختلفة لمتلقين مختلفين.
في الذكرى الأولى لرحيل وداد المسقطي
مرّت مؤخراً الذكرى الأولى لرحيل السيدة وداد المسقطي، التي غادرتنا في الثالث والعشرين من اكتوبر 2019، لتفقد حركتنا النسائية إحدى قاماتها المخضرمة التى تركت إرثاً سيظلّ باقياً في مجمل العمل الإجتماعي التطوعي، هي التي آمنت بأن غاية ما قدمته كان كرامة المرأة وتمكينها والتوعية بحقوقها، دون أن تسعى لشهرة أو عائد.
ولم يثنها منصبها الوظيفي الرفيع كمديرة لإدارة الموارد البشرية والمالية في وزارة النفط عن إعطاء العمل النسوي والتطوعي الوقت والجهد اللازمين، ولم يحل دون إصغاءها لأنين وآهات النساء وأطفالهن في ردهات المحاكم، ولاعن معاناة المرأة في أي موقع، وخاصة المرأة البسيطة المغلوبة على أمرها، بل عملت بدأب ومنذ العام 1982 مع زميلاتها في لجنة الأحوال الشخصية حتى تكللت الجهود بصدور قانون أحكام الأسرة الموحد في عام 2017 وإن لم يرق إلى مستوى الطموح.
في العام 1976 تقدّمت الفقيدة وداد وزميلاتها في جمعية نهضة فتاة البحرين إلى وزارة التربية والتعليم لفتح فصول محو أمية النساء، قبل أن تتبناه الوزارة عندما فتحت مدرسة النبيه صالح للبنين، فاستطاعت الفقيدة بحنكتها وذكائها وقدرتها على تلمس إحتياجات المرأة ومواكبة التطور الحاصل في منظومة العمل الإجتماعي التطوعي في العالم، أن تحدث نقلة نوعية في عمل الجمعية، ليتحول من عمل خيري إلى عمل نسائي نوعي ملتزم ومدافع عن قضايا المرأة وحقوقها.
شاركت وداد المسقطي في مؤتمر بيجين +5 الذي عُقد بمقر الجمعية العامة للأمم المتحدة بنيويورك عام 2000، وشاركت في القمة التى أُقرت بها إستراتيجية النهوض بالمرأة العربية في الأردن عام 2002، ووضعت الفقيدة على طاولة الحوار في لقاءات الجمعية، إتفاقية القضاء على جميع أشكال التمييز ضد المرأة (سيداو) التى وقعت عليها مملكة البحرين، وعرّفت ببنودها وأهمية التوقيع عليها والإلتزامات المترتبة علي الدولة الموقعة وإلتزامات المجتمع المدني في إعداد التقرير الأهلي موضحة تحفظات المملكة عليها وأهمية رفعها، وكل ما يتعلق بالإتفاقية وبلجنة السيداو ومهامها في الأمم المتحدة.
أخذت على عاتقها حمل رسالة الرعيل الأول من مؤسسات الجمعية في عام 1955، ولم تدخر جهداُ لرفع إسم الجمعية وتوسيع مشاريعها والمؤسسات التابعه لها، وفي فترة رئاستها للجمعية عام 1995 تمّ وضع حجر الأساس لمركزالنهضة الأسري، والذي سمي فيما بعد بمركز عايشة يتيم للإرشاد الأسري التابع للجمعية، ولم يكن يهدأ لها بال إلا بعد أن تطمأن على حسن سير أي مشروع وإرساء دعائمه، وما ولادة فكرة تأسيس مشروع دعم المرأة المعيلة في عام 2009 إلا نتاج إحساسها بمعاناة المرأة التى تتولى إعالة أبنائها وأهمية تمكينها وإستقلاليتها إقتصاديا.
في العام 2001 شغلت رئاسة لجنة لجنة صياغة النظام الأساسي للإتحاد النسائي، حيث كانت عضوة في اللجنة التحضيرية للإتحاد الذى ناضلت مع زميلاتها من اجل قيامه بكل تصميم منذ ثمانينيات القرن الماضي وحتى إشهاره في العام 2006.
وأصبحت في عام 2016 عضوة اللجنة الإستشارية للإتحاد النسائي، وحرصت من هذا الموقع على تقديم كل الإستشارات التي تعزز مكانة الإتحاد وتبقيه صوتا معبرا حقيقياعن طموحات المرأة ومدافعاً عن حقوقها، ولم تتغيب عن الجمعية إلا عندما اشتدّ بها المرض، ولكن ثقتها بأخواتها ورفيقاتها في الجمعية وماغرسته فيهن من تفانٍ وإخلاص، وما كرسته وأرسته من قواعد للعمل الإجتماعي النقابي وخبرة يجعلها تطمئن وتنام قريرة العين بأنهن سيواصلن مسيرتها بتقدم وثبات.
الرق الجديد
حسناً فعلت جائحة كورنا حينما كشفت ما كانت تخفيه كنتونات العمالة الوافدة طوال عقود. حجم الاستغلال والبيئة السكنية غير الملائمة كانا أكبر مما تغفله الأنوف التي أزكمها ما وصلت إليه بعض النفوس البشرية الدنيئة التي لا ترى في تكديس عشرات البشر في مساكن لا تتسع حتى لربع هذه الاعداد، أي مانع، كونها تؤتي أتاوتها كل مطلع شهر.
ولم تكتف الجائحة برفع الغطاء عن حقيقية مساكن العمالة الوافدة فحسب، بل عرّت ممارسات عديدة ومستمرة جميعها تندرج ضمن انتهاك حقوق العمالة الوافدة وتقع ضمن نطاق العمل الجبري المجرمة دولياً.
الاجتهادات الرسمية لم تتوقف لتحجيم قضايا الإتجار بالأشخاص التي غالباً ما تتخذ أبعاد دولية متشعبة جداً، وكان آخر تلك الخطوات الحميدة إنشاء نيابة متخصصة بالإتجار بالأشخاص، وهي خطوة في الاتجاه الصحيح، نحو تعزيز المنظومة العدلية وتطوير فاعليتها لتحقيق المرجو منها.
وبحسب قرار النائب العام فإن النيابة الجديدة تختص “بالتحقيق في تلك النوعية من الجرائم المنصوص عليها في القانون رقم (١) لسنة ٢٠٠٨ بشأن مكافحة الإتجار بالأشخاص، وكذلك المرتبطة بها في أي قانون آخر مثل العمل القسري وحجز الأجور والجرائم المؤثمة بمقتضى قوانين هيئة تنظيم سوق العمل، وتنظيم السياحة، والتسوّل والتشرد، وغير ذلك من الجرائم الماسة بحقوق الإنسان وحريته التي قد تبرز فيها صورة الاستغلال في جريمة الإتجار بالأشخاص”.
وكما يشير رئيس نيابة الإتجار بالأشخاص فإن: “جريمة الاتجار بالأشخاص قد تتداخل مع جرائم أخرى ممثلة أو مقاربة في بعض الأركان سواء فيما يتعلق بالفجور والدعارة العمل القسري وحجز الأجور وغيرها”.
لذلك فإن نطاق قضايا الإتجار بالأشخاص لا ينحصر في قضايا الاستعباد الجنسي بل تفشت مظاهر أخرى للاستعباد البشري والمتاجرة بالرق من جديد منها العمل الجبري استغلالاً لحاجة العمالة عبر استخدام أساليب قد لا تبدو ذات طابع عنيف إلا استمرار العامل في عمله دون رغبة منه في ذلك ورغماً عنه لأي سبب كان، ويكفي ذلك ليندرج ضمن مفهوم العمل الجبري.
لذلك فإن العبء الملقى ضمن اختصاص نيابة الإتجار بالأشخاص غير هيّن، وهو ما يترتب عليه إحكام المنظومة القضائية كي لا يتسرب أحد الجناة من العدالة، كما فإن ملاحقة المتسببين بقضايا الإتجار بالأشخاص تحتاج إلى تشريعات صارمة وواضحة لا تقبل التأويل، فغالباً ما يتعاقب المجرمين خلف قضايا الاتجار بالأشخاص، ما تستوجب سن تشريعات تضمن ملاحقة مرتكبي الجريمة في سلسلتها الهرمية من بدايتها حتى القاعدة.
صداقات الأدب
كان جان جاك روسو يقطع كيلومترات طويلة مشيا على الأقدام لزيارة صديقه دنيس ديدرو، كلاهما كان لديه عقلا نقديا جامحا، ونظرة فلسفية عميقة للحياة. كانا في الثلاثين من عمريهما حين جمعتهما الأقدار، وظلاّ صديقين طيلة العمر.
بعد وفاة روسو عاش ديدرو ست سنوات بدون صديقه، كانت أقسىى سنوات حياته، قبل أن يغادر هذه الحياة هو الآخر.
هذه الصداقة الفريدة بين مفكرين عظيمين اتفقا في بعض الأفكار واختلفا في بعضها كان لها تأثيرا كبيرا على مسار الثورة الفرنسية، لكن الأكيد أنهما دفعا الثمن غاليا بسبب أفكارهما تلك، فقد تقدما عن مجتمعهما بسنوات كثيرة، أمّا شهرة كل واحد منهما فقد كانت وليدة اجتهاد شخصي، فقد رسم كل واحد منهما خط حياته قبل اللقاء بالآخر.
ظلّت صداقة الرجلين على هامش المهتمين بالأدب، مثلها مثل غيرها من الصداقات التي تميزت في تاريخ الزمالة الأدبية. ولعلّ الكراهية بين الأدباء هي التي أخذت حيزا أكبر من الإهتمام، أمّا الحب فقد كان سيد الأعمال الأدبية، سواء كموضوع مطروح أدبيا أو كموضوع محوري في العلاقات الرومانسية التي عاشها الأدباء سرا وعلانية في أزمانهم.
شهدت الساحة الأدبية الكثير من الثنائيات المتنافرة، قامت بتبادل الشتائم وأقسى عبارات القذف، فيما بعضهم استعمل قبضته لتصفية حساباته مع غريمه، مثلما فعل ماريو فارغاس يوسا حين لكم إرنست همينغواي، هذا الأخير الذي كان يشرب حتى الثمالة، كثيرا ما أنهى جلساته النقاشية في بارات باريس بمشاجرات كالتي سجلها التاريخ ضده حين وجه ضربات لصديقه اللدود فرانسيس سكوت فيتزجيرالد، وظلّت صداقتهما تتأرجح حتى انتهت نهائيا، وما عاد هناك أمل لإنقاذها، فقد استنفذ كليهما حماقاته المراهقاتية مع الآخر.
بعض تلك العلاقات المتوتّرة نجدها مبثوثة في مقالات كثيرة هنا وهناك، تروي تفاصيل تلك الكراهية التي تجاوزت استعمال قبضة اليد إلى استعمال السلاح لتصفية حسابات وهمية ربما أساسها الغيرة والتنافس والشهرة. فيرلين ورامبو، بروست وجين لوريان نماذج جيدة لتلك القصص المؤسفة التي وثقها التاريخ تحت عنوان الكراهية بين الأدباء.
الموضوع المنسي إذن بين تلك العلاقات المتوترة هو موضوع الصداقة، والتوافق الفكري، والإنسجام الأدبي، ربما لأن النّاس ميّالين لسماع قصص الكراهية أكثر من قصص الصداقة، تماما كميْلهم لقصص العشق الممنوع أكثر من قصص الأزواج المملة.
وربما في مناسبة كهذه واحتفاء بالصداقة الأدبية النادرة، وجب علينا أن نتذكّر صداقة يوهان غوته أشهر أدباء ألمانيا في القرن التاسع عشر بالشاعر المسرحي فريدريتش شيللر، والتي استمرت أيضا حتى وفاة هذا الأخير، ويذكر التاريخ كم حاول بعضهم الإيقاع بينهما دون تحقيق أدنى نتيجة، فقد كان ما يربطهما متينا وفريدا من نوعه، وظلّ علامة فارقة في حياة غوته نفسه، إذ اعتبرها مرحلة جديدة في حياته، كانت أكثر انتاجية، وأكثر سعادة كما وصفها بنفسه. وقد شهد لهما النقاد بعظمة صداقتهما، وأنها حدث استثنائي وجميل أثرى المسار الجمالي الفكري للأمة. يختصر ريتشارد فريدنتال أن صداقتهما ” تنافس ناجح، أو هدنة بين قوتين عظيمتين عبر خط ترسيم لحدود نهائية لا تشكيك فيها.
امتدت المراسلات بين غوته وشيللر لمدة عشر سنوات، ضمت الكثير من الرؤى الإبداعية، في نقطة التحوّل الكبرى أواخر القرن الثامن عشر وأوائل القرن التاسع عشر في ألمانيا، والتي تميزت بشكل خاص بتطور الفلسفة وشهدت ولادة النظريات الجمالية…
أهمية تلك الرسائل أيضا كشفت حجم التّبصّر المدهش في مجالات أخرى علمية، من علم الأحياء إلى علم الفلك والفيزياء والبصريات التي أسس لها غوته على وجه الخصوص.
ثمة من كتب آنذاك أن عشر سنوات فترة قليلة جمعت بين مفكرين بحجميهما، وثمة من اعتبرها على قلّتها اتّسعت لمعارف كثيرة، فتحت أبواب العصر كله على حقبة مثمرة لا تزال ألمانيا تستثمر فيها، ومنها العالم بأسره.
في عالمنا العربي تميز أدباء بصداقاتهم الجميلة، مثل صداقة عبد الرحمان الأبنودي وأمل دنقل رغم أنهما شاعران، وأهل الحكمة قالوا “عدوّك ابن كارك” لكن رقة الرجلين خالفت السائد، ومثلهما يوسف القعيد وجمال الغيطاني، ففي مقابلة مؤثرة جدا، يبوح القعيد أنه كلما رن هاتفه في الصباح ظنّ أن الغيطاني يطلبه كعادته، وأنه غير مصدّق رحيله وغيابه.
ولدي شعور عميق جدا أن ما تناقلته بعض المواقع عن هذه المقابلة التلفزيونية يخفي الكثير مما لا نعرفه عن هذه الصداقة، ويخدم الواجهة الثقافية للأدب العربي، فقد تعاون الرجلان فيما بينهما فكرييا وأدبيا، وكلاهما تميز في كتابة الرواية، وإن اختلفا في توظيف عناصر بنائها كرموز نقدية للماضي والحاضر المصري.
ولعلّ الكلام نفسه يقال بشأن المراسلات التي كانت بين عبد الرحمن منيف ومروان قصاب باشي، والتي قدّم لها الدكتور فواز طرابلسي، وصدرت بعد وفاة منيف، وقد صدرت طبعته الأولى العام 2012، عن دار التنوير، والمؤسسة العربية للدراسات والنشر.
نبدأ قراءة الكتاب فتقشعرٌّ أبداننا، أو هذا ما شعرت به، وأنا أقاوم ارتعاشتي منذ مقدمة طرابلسي “تبدأ القصّة بروائي يفقد ثقته بالكلمة، إلى حد اعتبارها تعهرت، فيتمنى لو أنه يرسم.بل هو يحاول في الرسم. من جهته، فنان مغترب، لم يعد يكتفي بلغة الخط واللون والكتلة، يريد “البوح” حسب تعبيره بالكلمات. يتقاطع الصديقان عند هم كبير.فنان يبحث عن طرق تعبيربالكلمات، وروائي مهوس بالفنيجرب في طاقة الكلمات، على تعبير عن الخط واللون والكتلة”. يجتمع الإثنان على حقول فسيحة يزرعانها بكل أشكل الفنون الممكنة، ولا يمكننا سوى أن نرى بوضوح ما تخبئه النصوص الأدبية القاتمة من رقة لا مثيل لها، وصفاء جميل في المشاعر ظلّ حبيس ستائرنا الإجتماعية الغريبة، التي تضع الأدباء في قوالب خشبية صلبة، وتحشر الفنان في قماشة تشبه الكفن.
في هذا الكتاب نتعرّف على “عاشق البنفسج” كاتبنا منيف، وصديقه الرّسام والنحات السوري مروان قصاب باشي، الذي يصمم بنفسه غلاف الكتاب، ويسعد بتقاسم نبض تلك الصداقة مع قراء منيف وقرّاء جدد. بعد صدور الكتاب بأربع سنوات يرحل هو الآخر، يلتحق بصديقه الذي سبقه إلى الرّفيق الأعلى بإثني عشرة سنة.
في هذه الرسائل رأيت الجسر بين عالمين، بين عالم يهوي في الشرق، هو عالم منيف، وبين عالم قصاب باشي الأوروبي المتربع على واجهة تشرق عليها الشمس، وتهب عليها نسائم الحياة. رأيت ما يمكن أن يمنحه صديق لصديقه يعاني الخواء والتعب النفسي من قوة تمنعه من التّداعي والانهيار. رأيت أيضا الكثير من العشق الشّامي الدفين للكاتب الذي وجد ضالته في صديقه ليقول ما يسكنه من هواجس تجاه دمشق التي يحبذ أن يسميها الشام. نكاد نرى بوضوح قراءته العجيبة لتعثرات الأفكار وتوعُّكاتها الإيديولوجية التي نعيش نتائجها اليوم.
كل الحقائق تخرج من بطون الكلمات طازجة كأنّها لم تكتب فقط بين مبدعين من كبار مبدعي هذا الشرق الحزين، ولكنّها كتبت لنا، في كل الأزمنة العربية، منذ هزيمة 67 إلى هزائمنا اليومية الحالية. نتكئ على أطراف الرسالة الأخيرة للقصاب باشي، دون رد من صديقه، نفتح فصلا من الرسائل الملونة بالألوان المائية، بخط يده، نشعر أن الكتاب فيه روح، ويتأهب لعناقنا. نشعر بحرارة الصداقة، وبحقيقتها الملموسة، مثل كائن حي …
نشم روائح الأزهار المزروعة في الصفحات الأخيرة، وقد اصبنا بشلل الدهشة والإعجاب، من الكاتب منيف أم قصاب باشي؟ من الرّسام بينهما؟ ما كل ذلك الإبداع الذي لم يصلنا منه غير أربعمائة صفحة من أجمل ما كتب في صداقات الأدب بين كاتبين عربيين. عظيمان مثل غيرهما من عظماء الأدب. صنعا لنفسيهما وطنا إسمها “الصداقة”.
كيف عَلّمَ جيفارا كوبا مواجهة فايروس كورونا (2 -2)
بقلم: Don Fitz*
ترجمة: غريب عوض
عندما كان رافئيل كوريا Rafael Correa رئيساً للأكوادور، كان أكثر من ألف طبيب كوبي يشكلون العمود الفقري لنظام الرعاية الصحية هُناك. تم انتخاب لينين مورينو Lenin Moreno رئيساً للأكوادور في عام 2017 وتلى ذلك طرد الأطباء الكوبيين، مما ترك الطب العام في فوضى. قام مورينو بتنفيذ توصيات صندوق النقد الدولي بتخفيض ميزانية الصحة في الأكوادور بنسبة 36%، مما تركها دون أخصائي الرعاية الصحية، وبدون مُعدات الوقاية الشخصية وقبل كل شي، بدون نظام رعاية صحية مُتماسك. وفي حين كان لدى فنزويلا وكوبا 27 حالة وفاة من مرض كورونا COVID-19، كان لدى Guayaquil أكبر المُدن السلفادورية ما يُقدر بـ 7,600 حالة وفاة.
الإستجابة الطبية الدولية: ربما اشتهر الطب الكوبي بأُمميتهِ. والمثال الواضح على ذلك هو الزلزال المُدمر الذي عصف بهايتي Haiti في عام 2020. أرسلت كوبا بطاقم طبي الذي عاش أفرادهِ بين الناس في هايتي وبقوا هُناك لعدة شهور أو سنوات بعد الزلزال. غير أن الأطباء الأمريكيين لم يناموا بين مجاميع الضحايا الهايتيين. بل عادوا إلى الفنادق الفاخِرة في الليل وقادروا بعد بضعة أسابيع. وضع John Kirk مصطلح “سياحة الكوارث” يصف بذلك الطريقة التي استجابت بها الكثير من الدول الغنية للأزمة الصحية في البُلدان الفقيرة.
الإلتزام الذي يظهره الطاقم الطبي الكوبي دولياً هو أستمرار للجهود التي يبذلها نظام الرعاية الصحية في البلاد في قضاء ثلاثة عقود في إيجاد أفضل طريقة لتقوية الروابط بين المتخصصين في تقديم الرعاية ومن يخدمونهم. وبحلول عام 2008، كانت كوبا قد بعثت بما يزيد على 120,000 من المتخصصين في الرعاية الصحية إلى 154 بلداً، وأعتنى أطباؤها بما يزيد على 70 مليون إنسان في العالم، وما يقرب من مليوني شخص يُدينون بحياتهم للخدمات الطبية الكوبية في بلادهم.
أفادت وكالة أسوشيتيد برس أنهُ عندما أنتشرت جائحة كورونا COVID-19 في جميع أنحاء العالم، كان لدى كوبا سبعة وثلاثون ألف عامل طبي في سبعة وستين دولة. وسرعان ما نشرت أطباء إضافيين في سورينام، وجامايكا، ودومينيكا، وبليز، وسانت فنسنت، والجرينادين، وسانت كيتس ونفيس، ونيكاراغوا. وفي 16 نيسان/أبريل، ذكرت Granma جريدة اللجنة المركزية للحزب الشيوعي الكوبي أنهُ “تم نشر 21 كتيبة من المُتخصصين في الرعاية الصحية للإنضمام إلى الجهود الوطنية والمحلية في 20 دولة”. وفي نفس اليوم أرسلت كوبا مائتي موظف صحي إلى دولة قطر.
وبما أن شمال إيطاليا أصبح بؤرة حالات فيروس كورونا COVID-19، كانت كريما Crema في منطقة لومباردي Lombardy من أكثر المُدُن تَضرراً. امتلأت غرفة الطوارئ في المستشفى حتى كامل سعتها. وفي آذار/مارس، بعثت كوبا إثنان وخمسون طبيباً ومُمرضه الذي أقاموا مستشفياً ميدانياً بِهِ ثلاث أسِرة في وحدة العناية المُركزة واثنين وثلاثين سريراً آخر بالأُكسجين. كانت الدولة الكاريبية الأصغر والأفقر من بين الدول القليلة التي تُساعد قوة أوروبية كُبرى. كان لتدخل كوبا أثرهُ. فبحلول 17 نيسان/أبريل، ثبتت إصابة 30 من المتخصصين الطبيين مِن الذين سافروا إلى الخارج بفيروس كورونا COVID-19.
جَلّبْ العالم إلى كوبا: الجانب الآخر من إرسال كوبا للعاملين الطبيين إلى جميع أنحاء العالم هو الأشخاص الذين جلبتهم إلى الجزيرة من الطلاب والمرضى. عندما كان الأطباء الكوبيين في جمهورية الكونغو في عام 1966، رؤوا الشباب يدرسون بمفردهم تحت ضوء مصابيح الشوارع أثناء الليل ورتبوا لهم للقدوم إلى هافانا. وحتى أنهم جلبوا معهم مزيد من الطلاب الأفارقة خلال الحروب الأنغولية من عام 1975-1988 ثم جلبوا أعداداً كبيرة من طلاب أمريكا اللاتينية لدراسة الطب إثر هبوب الإعصارين ميتش Mitch و جورجيز Georges. حتى أن عدد الطلاب الذين قدِموا إلى كوبا للدراسة ازداد في عام 1999 عندما افتتحت فصولاً في مدرسة أمريكا اللاتينية للطب (ELAM). وبحلول عام 2020، دربت مدرسة ELAM ثلاثون ألف طبيب من حوالي مائة بلد.
كما أن كوبا لديها تاريخ في جلب المرضى الأجانب للعلاج. بعد الإنهيار النووي عام 1986 في تشيرنوبيل في الإتحاد السوفيتي، جاء خمسة وعشرون ألف مريض، معظمهم من الأطفال، إلى الجزيرة لتلقي العلاج، وبقي بعضهم لأشهُر أو سنوات. فتحت كوبا أبوابها وأسرة المستشفيات، ومُعسكر صيفي للشباب.
في 12 آذار/مارس، ما يُقارب خمسون من البحارة والرُكاب على متن الباخِرة البريطانية MS Braemar أما مُصابين بفيروس كورونا COVID-19 أو ظهرت عليهم الأعراض حينما اقتربت الباخرة من جُزُر البهاما، دولة الكومنولث البريطاني. ونظراً لأن الباخرة Braemar ترفع علم جُزُر البهاما كسفينة تابعة للكومنولث، يجب أن لا تكون هناك مشكلة في إنزال من كانوا على متنها للعلاج والعودة إلى المملكة المتحدة.
ولكن وزارة المواصلات في جزر البهاما أعلنت أنهُ لن يُسمح لسفينة الرحلات البحرية بالرسو في أي ميناء في جُزُر البهاما “ولن يُسمح لأي شخص بالنزول من السفينة”. وخلال الأيام الخمسة التالية، رفضتها الولايات المتحدة وبربيدوس (دولة أُخرى من دول الكومنولث) والعديد من دول الكاريبي الأُخرى. وفي 18 آذار/مارس أصبحت كوبا البلد الوحيد التي سمحت لما يزيد على ألف من بحارة ورُكاب الباخِرة Braemar بالرسو. أُتيح العلاج في المستشفيات الكوبية لهؤلاء الذين شعروا أنهم غير قادرين على السفر بالطائرة. أغلبهم ذهبوا بالباصات إلى مطار جوزي مارتي الدولي ليغادروا إلى المملكة المتحدة. وقبل المُغادرة، وضع بحارة الباخرة Braemar لافتة كُتِبَ عليها “نحنُ نُحِبُكِ يا كوبا”. أحد الرُكاب وأسمها Anthea Guthrie كتبت في صفحتها على Facebook: “لقد جعلونا لا نشعر برحابة الصدر فحسب، بل جعلونا موضع ترحيب بالفعل.”
الدواء للجميع: في عام 1981، كان هناك إنتشار سيء بشكل خاص لحُمى الضنك التي ينقلها البعوض، والتي تضرب الجزيرة كل بضع سنوات. في ذلك الوقت، عَلِمَ الكثيرون لأول مرة بالمستوى العالي جداً لمعاهد الأبحاث الكوبية التي ابتكرت مُضاد للفيروسات ألفا 2B لعلاج حُمى الضنك بنجاح. وكما تُشير هيلين ياف Helen Yaffe، ” لقد أظهر عقار الإنترفيرون الكوبي فاعليته وسلامته في علاج الأمراض الفيروسسية بما في ذلك إلتهاب الكبد B و C والقوباء المنطقية وفيروس نقص المناعة المُكتسبة الإيدز وحمى الضنك.” وتم تحقيق هذا من خلال منع المُضاعفات التي قد تؤدي إلى تفاقم حالة المريض وتؤدي إلى الوفاة. استمرت فاعلية الدواء لعقود من الزمن، وفي عام 2020، أصبح لهُ أهمية حيوية كعلاجاً مُحتمل لجائحة كورونا COVID-19. وما بقي أيضاً هو حُرص كوبا على تطوير العديد من الأدوية ومُشاركتها مع دول أُخرى.
لقد سعت كوبا للعمل بشكل تعاوني تجاه تطوير الأدوية مع دول مثل الصين وفنزويلا والبرازيل. ونتج من التعاون مع البرازيل لقاحات إلتهاب السحايا وبتكلفة بلغت 95 سنتاً بدلاً من 15 إلى 20 دولاراً لكل جرعة. وأخيراً، تُعلم كوبا الدول الأُخرى إنتاج الأدوية بنفسها حتى لا يعتمدوا على شراؤها من الدول الأغنى.
من أجل التعامل بشكل فعال مع المرض، كثيراً ما يتم البحث عن الأدوية لثلاثة أهداف: فحوصات لتحديد المُصابين؛ علاجات للمُساعدة في درء أو علاج المشاكل؛ واللقاحات لمنع الإلتهابات. وبمجرد توفر الفحوصات السريعة لتفاعل البوليميراز المُتسلسل، بدأت كوبا في استخدامها على نطاق واسع في جميع أنحاء الجزيرة. طورت كوبا كُلاً من Interferon Alpha 2B (بروتين مؤتلف) و PrevengHo-Vir (دواء منزلي). وأفادت قناة teleSUR التلفزيونية أنهُ بحلول 27 آذار/مارس، طلبت أكثر من 45 دولة عقار Interferon الكوبي من أجل السيطرة على الفيروس ثم التخلص منه.
يسعى مركز كوبا للهندسة الوراثية والتكنولوجيا الحيوية إلى ابتكار لقاح ضد فيروس كورونا COVID-19. أكد مُدير أبحاث الطب الحيوي، الدكتور Gerardo Guillén، أن فريقهُ يتعاون مع باحثين صينيين في يونغزو Yongzhou بمقاطعة هونان Hunan، لإبتكار لقاح لتحفيز جهاز المناعة والذي يمكن تناوله عن طريق الأنف، وهو طريق انتقال فيروس كورونا COVID-19. وأياً كان ما تُطوّرهُ كوبا، فمن المؤكد أنهُ ستتم مُشاركتهُ مع دول أخرى بتكلفة مُنخفضة، على عكس الأدوية الأمريكية الحاصِلة على براءات اختراع على حساب دافعي الضرائب، بِحيثُ يمكن لِعمالقة الأدوية الخاصة أن تبتلع أُولئك الذين يحتاجون إلى الدواء.
البُلدان التي لم تتعلم كيف تُشارك: تُظهِر بعثات التضامن الكوبية إهتماماً حقيقياً الذي غالباً ما يبدو أنهُ غير موجود في أنظمة العناية الصحية في الدول الأُخرى. غالباً ما تكون الجمعيات الطبية في فنزويلا والبرازيل ودول أُخرى مُعادية للأطباء الكوبيين. ومع ذلك، لا يمكنهم العثور على ما يكفي من أطبائهم للسفر في ظروف خطرة أو الذهاب إلى المناطق الريفية والفقيرة، على ظهور الحمير أو في الزوارق إذا لَزِمَ الأمر، كما يفعل الأطباء الكوبيون.
عندما كُنتُ في البيرو Peru في عام 2010، قُمتُ بزيارة المركز الصحي في مدينة بيسكو Pisco. وشرح لي مدير المركز الكوبي ليوبولدو غارسيا Leopoldo Garcia بأن الرئيس ألان غارسيا Alan Garcia في تلك الفترة لا يُريد أطباء كوبيين إضافيين و يجب عليهم الصمت أذا أرادوا البقاء في البيرو. تُدرك كوبا جيداً أنهُ يتعين عليها تعديل كل بعثة طبية لِتُلائم المناخ السياسي.
هناك استثناء واحد على الأقل للأطباء الكوبيين الباقون في بلد وفقاً لنزوة القيادة السياسية. بدأت كوبا تقديم العناية الطبية في الهندوراس في عام 1998. وخلال الثمانية عشر شهراً الأولى من جهود كوبا في الهندوراس، انخفض معدل وفيات الأطفال في البلاد من 80.3 إلى 30.9 حالة وفاة لكل 1000 ولادة حية. تغيرت الأجواء السياسية، وفي عام 2005، قررت وزيرة الصحة الهندوراسية ميرلين فرنانديز Merlin Fernadez طرد الأطباء الكوبيين. ومع ذلك، أدى ذلك إلى مُعارضة شديدة لدرجة أن الحكومة غيرت مسارها وسمحت للكوبيين بالبقاء.
هُناك مِثال كارثي وجدير بالمُلاحظة عندما رفضت دولة ما عرض المُساعدة الكوبية في أعقاب إعصار كاترينا. بعد ضربة الإعصار في عام 2005، كان هناك 1,586 من المتخصصين الصحيين الكوبيين على استعداد للمُغادرة إلى نيو أورلينز New Orleans. إلا أن الرئيس جورج دبليو بوش George W. Bush، رفض العرض، مُتصرِفاً كما لو كان من الأفضل أن يموت المواطنون الأمريكيين بدلاً من الإعتراف بجودة المُساعدة الكوبية.
على الرغم من أن حكومة الولايات المتحدة لا تتعامل بلطف مع الطلاب الذين يدرسون في مدرسة أمريكا اللاتينية للطب ELAM، إلا أنهم لا يزالون قادرين على تطبيق ما تعلموه عندما يعودون إلى الوطن. في عام 1988، أسست كاثرين هول تروجيلو Kathryn Hall-Trujillo من مدينة الباكركي، في نيو مكسيكو مشروع الميلاد الولايات المتحدة الأمريكية، الذي يُدرب المؤيدين للعمل مع النساء الأمريكيات من أصول أفريقية ويتصلوا بهم من خلال العام الأول من حياة الطفل الرضيع. إنها مُمتنة لشراكة مشروع الميلاد مع كوبا والدعم الذي قدمه العديد من طلاب مدرسة أمريكا اللاتينية للطب ELAM. في عام 2018، أخبرتني: “نحنُ مكان عائلي لطلاب مدرسة أمريكا اللاتينية للطب ELAM الذين يرون العمل معنا كوسيلة لتطبيق ما تعلموه في مدرسة أمريكا اللاتينية للطب.”
استرجع الدكتور الكوبي جوليو لوبيز بنيتيز Julio Lopez Benitez في عام 2017 بأنهُ عندما قامت الدولة بتجديد عياداتها في عام 1974، كان نموذج العيادة القديم المرضى يذهبون إلى العيادات، ولكن النموذج الجديد كانت العيادات هي التي تذهب إلى المرضى. وبالمثل، عندما نظرت الدكتورة ميليسا باربر Melissa Barber، خريجة مدرسة أمريكا اللاتينية للطب ELAM، إلى حيها في جنوب برونكس خلال جائحة كورونا COVID-19، أدركت أنهُ في حين طلبت معظم الولايات المتحدة من الناس الذهاب إلى الوكالات، فإن ما يحتاجه الناس هي مُقاربة مُجتمعية تُجند المنظمين للذهاب إلى الناس. تعمل الدكتورة باربر في تحالف مع اتحاد جنوب برونكس South Bronx Unite، وموت هافن ماماس Mott Haven Mamas ، والعديد من جمعيات المُستأجرين المحلية. وكما هو الحال في كوبا، إنهم يحاولون تحديد أُولئك من هم في المجتمع الذين هم عِرضة للمرض، بما فيهم “كبار السن، العوائل التي لديها أطفال رُضع، وأطفال صغار، الأشخاص الذين لا يُغادرون البيت، الأشخاص الذين يعانون من اعتلالات مُتعدِدة ويكونون عرضة بالفعل لفيروس مثل هذا. “
عندما يكتشفون من يحتاج إلى المُساعدة، فإنهم يبحثون عن الموارد لمُساعدتهم، مثل البقالة ومُعدات الوقاية الشخصية والأدوية والعلاج. بإختصار، تتمثل مُقاربة التحالُف في الذهاب إلى البيوت لضمان عدم إخفاق الناس. هُناك فجوة هائلة مع مجموعات كبيرة تتجه نحو الحافة. إن ما تحتاجة البُلدن التي تتبني إقتصاد السوق هو إجراءات مثل تلك في جنوب برونكس وكوبا التي يتم تنفيذها على نطاق وطني.
كان هذا ما تصورهُ تشي جيفارا في عام 1951. قبل عقود من انتشار فيروس كورونا COVID-19 من شخص إلى آخر. أنتقل خيال تشي من طبيب إلى آخر. أو رُبما شارك الكثيرون رؤاهم الخاصة على نطاق واسع لدرجة أنهُ بعد عام 1959، جلبت كوبا الطب الثوري في أي مكان تستطيع. من الواضح، أن تشي لم يقُم بتصميم الإجراءات الداخلية المُعقدة للنظام الطبي الحالي في كوبا. ولكنهُ تبعهُ مُعالِجون نسجوا تصميمات إضافية في نسيج يتكشف الآن عبر القارات. وفي أزمنة مُعيّنة في التاريخ، آلاف أو ملايين الناس ترى صور مُشابهة لمستقبل مختلف. إن انتشار أفكارهم على نطاق واسع بما فيه الكفاية خلال ساعة تفكك الهياكل الإجتماعية، عندها يمكن أن تُصبح الفكرة الثورية قوة مادية في بناء عالَمٌ جديد.
Don Fitz* هو من ضمن أعضاء هيئة تحرير مجلة Green Social Thought وكان مُرشح حزب الخُضر لحكم ولاية ميزوري لعام 2016. وكِتابهِ “الرعاية الصحية الكوبية: الثورة المُستمرة” قادمٌ من مجلة Monthly Review.
الظل في الطابق الخامس
ظل الكرسي على أرضيّة الغرفة، ظل الممثلة في شاشة التلفزيون على الجدار، ظل كوب القهوة على الطاولة، الظلال تمتزج مع أبواق السيارات ورائحة البشر وفكرة الزمن و تدخل من نافذة غرفتي في الشقة رقم 1 من الطابق الخامس، كظل واحد له هيئة الظل وروح الحقيقية.
ولو حرّكتُ الكُرسي من مكانه لانتقل ظله للمكان الذي أخذته إليه، ولو غيّرتُ القناة التلفزيونيّة التي تعرض المسلسل لقناة أخرى تعرض برنامجاً عن عالم الحيوان لاختفت الممثلة وظلّها وحلّت محلها مجموعة من الحيوانات، حتى أن ظل كوب القهوة يمكن أن يكون ظلاً لمجموعة كتب لو إني وضعت مجموعة من الكتب على الطاولة بدلاً من كوب القهوة.
قد يبدو الأمر عبثيّاً، مُراقبة الظل وهو يغيّر هيئته من كرسي وأمرأة وكوب قهوة لكرسي وحيوانات ومجموعة من الكتب، قد يبدو الأمر عبثيّا مراقبة الظل وهو يغيّر مكانه من أرضيّة الغرفة للطاولة للجدار؛ فالظل في نهاية الأمر مجرد حدث يحكمه قانون السببيّة، مما يجعل وجوده وجوداً آنياً مرتبطاً بكميّة الضوء وتوفر أسطح معتمة قادرة على صناعته.
غير أن الظل يدهشني، وكل ما يمكن أن نمرّ عليه ونتجاهله يدهشني، كل شيء كوّنا عنه مفهوماً وفق التجربة والمعايشة ثم كدسناه وكومة من الأشياء في مخزن الذاكرة كنوع من المفروغ منه يدهشني. اللحظة الأولى التي التفتُ فيها للظل وأشكاله أكثر أهميّة عندي من اللحظة التي حاولتُ فيها اكساب الظل أشكالاً أخرى غير الأشكال التي ظهر فيها، اللحظة التي كان فيها الظل يتصرّف على هواه – مختبئاً وراء الكرسي والممثلة وكوب القهوة – لحظة إستثنائيّة، تلك اللحظة التي كان فيها الظل حدثاً جدير بالتأمل، حين دخلتُ في حالة من الصمت العميق، أوقفتُ مفاهيمي وفتحت حدقتيّ الحلم على اتساعهما، ودخلتُ في هبوط وصعود مع الظل والهيئات التي اتخذها والأمكنة التي استراح فيها.
هذه النكهة بالغة الأهميّة بالنسبة لي، نكهة نسيان السبب فيما حدث، نكهة النظر للشيء منفصلاً عن أسبابه، هذه النكهة التي توجد مع اللحظة الأولى التي نلتفت فيها للأشياء، اللحظة التي يكون فيها الحدث شعوراً أكثر من كونه حدثاً، اللحظة التي يتغلب فيها الحدث النفساني على الشكل المنطقي.إنها نكهة الحُبّ لامحاولته، نكهة التأمل لامحاولته، نكهة ما يأتينا لاما نستدعيه.
غداً في مثل هذا الوقت وفي الشقة رقم 1 في الطابق الخامس سيكون الظل هو الظل لكنه لن يأخذ شكل كرسي وممثلة وكوب قهوة، وقد يأخذ هذه الأشكال إلا إنه لن يكون ذاته ظل اليوم، لأنه ومنذ لحظات كتابتي عنه ولعبي معه عبر تطويعه ليتخذ أشكالاً جديدة صار كياناً آخر، خرج من حالته الغُفل لحالة أخرى أقل إدهاشاً، حالة دخلتها أفكاري العبثية التي تحاول تفكيك ظل يعبر غرفة.
قد يكون الظل غداً في شقة أخرى من شقق الطابق الخامس وقد يعثر عليه طفل فيلعب معه لعبتي ويمنحه أشكالاً جديدة لم أحاول أن أمنحها إياه، قد يمرّ بجانب رجل يدخن سيجارته فيمتزج الظل بدخانه ويتبدد، وقد يمر بجانب سيدة فتتجاهله كما لو كان حدثاً عابراً، وقد يمرّ بحدقتي مراهقة حالمة فتحاول ملاحقته أو إعطائه معنى جديداً لم يعد يعرفه الكبار الذين توقفت أدمغتهم عند القوانين والأسباب.
أيها الظل أحييك لقد فاجئتني.لم تخبرني حتى أن الصمت تجربة، حين يتلاقى سكون الظاهر وضجيج الباطن. أحييك أيها الظل إلى حين، فمن يدري ربما حين تزورني غداً أكون سيدة أخرى فأحاول إزلتك بمحلول إزالة البقع أو تبديدك بالإنشغال عنك بالمكالمات الهاتفيّة.
قانون قيصر الجائر
في شهر مارس 2020 الماضي دخلت الأزمة السورية عامها العاشر، وهي الأزمة التي تحوّلت إلى واحدة من أسوأ الأزمات والحروب التي مرّت بها منطقة الشرق الأوسط، نتيجة تآمر القوى الإمبريالية والإرهابية بدعم من بعض البلدان العربية، ومن قوى إقليمية خاصة تركيا التي فتحت حدودها لتدفق المقاتلين الإرهابيين من مختلف البلدان والجنسيات، وأمّنت لهم التدريب العسكري والدعم اللوجستي.
وكان الهدف من كل هذا هو تدمير سوريا على شتَّى الأصعدة، وإدخال الشعب السوري في نفق مظلم لم يخرج منه حتى هذه اللحظة، لتزداد معاناته ومآسيه، والتي جاءت جائحة كورونا لتزيدها تفاقماً، حيث أضطر الآلاف من السوريين للهجرة، ومكابدة المخاطر للوصول إلى أماكن آمنة، فيما يعاني من بقي منهم في بلاده من تدمير بيوتهم ومدنهم وقراهم وبلداتهم، ويعيشون في أجواء البطالة والجوع وتردي الخدمات ودمار البنية التحتية.
بدأ الشعب السوري احتجاجاته وتظاهراته بمطالب محقَّة ومشروعة في الديمقراطية والعدالة الاجتماعية في مارس من عام 2011، ولكن استغلت بعض الأطراف العربية والغربية والأمريكية الوضع الناشئ آنذاك لتخلق حالة من الدمار والخراب، وحرف الاحتجاجات الشعبية عن مسارها السلمي والديمقراطي، وتحويلها إلى أعمال إرهابية، وهذا نهج القوى الإمبريالية في تدمير الدول المستقلة التي لا تروق لها ولا تنفذ سياساتها المعادية لتطلعات وآمال الشعوب، هي تدافع عن مصالحها وهذا مبدأها العتيد الثابت.
في الوقت الذي تجتاح بلدان العالم أجمع جائحة كورونا ( كوفيد 19) وما خلَّفتْه من تداعيات جمَّة في المجالات والقطاعات الحيوية، كالصحة والتعليم، وأوجه الاقتصاد وأنشطته المختلفة من الصناعة والتجارة والمال والسياحة، وتزايد البطالة والفصل من العمل وغيرها، ما يتطلب تركيز الجهود الدولية لمواجهة هذا الفيروس الشرس الذي يصيب ويفتك بالإنسان أينما كان على الأرض، وتحتاج الشعوب والبلدان لتبادل الخبرات الصحية والعلمية من خلال المساعدة والدعم المتبادل فيما بينها، نجد تمادي الإمبريالية الأمريكية في ممارسة سياسة الترهيب والتهديد، عندما نفدت “قانون قيصر ” ضد سوريا المنكوبة بالحرب والمحاصرة من مختلف الجهات.
وينص القانون الذي طرح منذ الأول من يونيو 2020، على “ملاحقة الأفراد والمجموعات التي تتعامل مع النظام السوري، بما في ذلك الذين يموِّلون النظام السوري، روسيا وإيران، سواء أكان هذا التمويل متعلقاً بأنشطتهم العسكرية أو جهود إعادة الإعمار أو انتهاكات حقوق الإنسان”، وفق ما صرح به المبعوث الأمريكي إلى سوريا جيمس جيفري .
وسبقت ذلك موافقة مجلسي النواب والشيوخ في الولايات المتحدة الأمريكية في 17 ديسمبر 2019 على هذا القانون الجائر، ثم وقع عليه الرئيس الأمريكي ترامب ليصبح قانوناً، وجرى تطبيقه على سوريا في السادس عشر من يونيو 2020 ليخنق شعبها ويزيد من معاناته، فلا يُراد له أن يتنفس الصعداء ليخرج من آثار الحرب ويعيد بناء وإعمار سوريا من جديد وإفساح المجال أمام المصالحة الوطنية بين السلطة والأطراف الوطنية السورية المعارضة .
إذا كان التعويل الأمريكي من وراء فرض هذا هو إضعاف النظام فيها، وربما إزالته، فإن هذا وهم، فخلف هذا النظام حليف استراتيجي قوي هو روسيا، لن يسمح بذلك مهما كلف الأمر، وسبق للمعارضة أن بسطت سيطرتها على ما يعادل ثلثي الأراضي السورية، لكن النظام ظلّ متشبثاً بالسلطة ولم يسقط. وبالتالي فإن التعويل على العقوبات الاقتصادية وسيلة لتحقيق هذه الغاية لن يؤدي إلى النتيجة المتوخاة.
وفي بلد يعيش الجزء الأكبر من أبنائه تحت خط الفقر، وفق الأمم المتحدة، ويتوالى ارتفاع أسعار المواد الغذائية فيه باطراد، فإن “قانون قيصر” وعوامل أخرى كثيرة، بينها تفشي وباء “كورونا” وانهيار الوضع في لبنان، والخلافات في قمة هرم السلطة العائلي زادت من تدهور الوضع الاقتصاد، وتراجع سعر الليرة أمام الدولار، وشهدنا مظاهرات في مناطق معروفة تقليدياً بعدم انخراط سكانها في الحرب ضد النظام، كما هي الحال في السويداء ذات الأغلبية الدرزية، احتجاجاً على ذلك.
بالمقابل، وجدنا مظاهرات أخرى في إدلب التي يسكنها نحو ثلاثة ملايين نسمة، تحتج على الأمر نفسه، لكن ليس ضد النظام وإنما ضد “هيئة تحرير الشام”، المهيمنة على المدينة فهي من يديرها ويحدد أسعار السلع فيها. واضطرت بعض المؤسسات هناك إلى إقفال أبوابها، بسبب ارتفاع سعر الصرف، وهو أمر لا يضير النظام، وربما يخدمه. ولا يختلف الأمر في القامشلي الواقعة تحت سيطرة الإدارة الذاتية الكردية، فهناك أيضاً أقفلت محال، وتراجعت حركة الشراء بشكل ملحوظ في أسواق تكتظ شوارعها ومحالها ومقاهيها بالزوّار.
إن الغاية من وراء إصدار وتفعيل هذا القانون هي إبقاء الوضع في سوريا غير مستقر، وإيقاف عملية إعادة الإعمار، ما يمكّن المهجرين والنازحين من العودة إلى مناطقهم، والعودة التدريجية للأوضاع إلى طبيعتها، وبالتالي فالمطلوب، أمريكياً، إرجاء الحل السياسي إلى ما لا نهاية، وهو أمر، وإن كان يزعج النظام، إلا أن المتضرر الأكبر منه هم المواطنون السوريون المطحونون بالحرب والفقر والمعاناة، والذين يريدون لبلدهم أن يخرج من محنته التي أنهكتهم وأنهكته، إضافة إلى ذلك فإن تطبيق هذا القانون الجائر يؤثر أيضاُ على لبنان ويفاقم من وضعه المالي والاقتصادي ويعمق من أزمته الداخلية.
وفيما تعاقب الإمبريالية الإمريكية الشعبين السوري واللبناني وتفاقم من أوضاعهما الاقتصادية والمعيشية وتسبب لهما صعوبات عديدة ، فإنها تغض النظر عن السياسة الإستيطانية للكيان الصهيوني في الضفة الغربية والقدس ونشاط المستوطنين الصهاينة المتصاعد، والذي ينال الدعم والتأييد من ترامب وإدارته، مما شجع الصهاينة على المضي في مخططاتهم الاستيطانية التوسعية .
إن مسؤوليتنا كشعوب عربية وكقوى تقدمية ووطنية هي الوقوف مع الشعبين السوري واللبناني في صمودهما وتصديهما للمخططات الأمريكية والصهيونية، ومؤازرة نضال الشعب الفلسطيني لدحر الاحتلال الصهيوني وإقامة الدولة الفلسطينية الوطنية المستقلة وعاصمتها القدس .