لكل داء دواء، ولكل مشكلة حل، أعني لمعظم الادواء أدوية، ولأغلب المشاكل حلول. هذا ما قاله هيبا في بداية مشواره نحو الرهبنة، إلا ما طال الخلافات بين الكنائس، فمنذ أن حلت الاختلافات بينها حول طبيعة المسيح وهو جوهرالديانة المسيحية أصبح الانشقاق والفرقة، ومن ثم الاقتتال سبباً للتفكير ومن ثم التفسيروالتدبير، فذهبت ريحهم، وحلت الخلافات بينهم، وأصبح التربص لكل مذهب بالاخر ديدنهم، وكل يرى رأيه الأصوب وتفسيره الأنسب، وفهمه الاوفر، ويحشد حوله الأساقفة والقساوسة والرهبان وزعماء الكنائس والصعاليك لتدعيم رأيه وفرضيته وفرصته للنجاة مستندا إلى النصوص من الأناجيل الأربعة.
(عزازيل)، رواية ليست كباقي الروايات، ملحمة تاريخية بطلها -هيبا- الطبيب والراهب والشاعر أيضاً، الذي يجيد أربع لغات: اليونانية والعبرية والقبطية والآرامية، دارس للمنطق وكتاب التاسوعات لأفلوطين، وهو محب للكتب، ويقتني منها الكثير وعلى الأخص الممنوعة منها والمحجوبة عن العامة، والمتيسرة للقلة من المؤمنين المسيحيين.
واسم هيبا ما هو إلا النصف الأول من هيباتيا عالمة كل العصور كما كانت تسمى واستاذة الزمان كما توصف، بعد أن قُتلت شرّ قتله على أيدي الرعاع والصعاليك من الكنيسة المرقسية في الإسكندرية بسبب آراؤها الفلسفية ونبوغها في الرياضيات وعلوم الفلك.
يقول يوسف زيدان على لسان هيبا: (أراها أمامي وقد وقفت على منصة الصالة الفسيحة، وكأنها كائن سماوي هبط الى الأرض من الخيال الإلهي ليبشر الناس بخير رباني رحيم. كانت لهيباتيا تلك الهيئة التي تخيلتها دوما ليسوع المسيح، جامعة بين الرقة والجلال. في عينيها زرقة خفيفة ورمادية، وفيها شفافية. في جبهتها اتساع ونورسماوي، وفي ثوبها الهفهاف ووقفتها، وقار يماثل ما يحفّ بالالهة من بهاء..)، فهيباتيا باللغة اليونانية تعني السامية، وهي مصداق لمعنى اسمها، فسمو الاخلاق والنبوغ والقدرة على الإقناع والعلم الموسوعي هي من صفاتها، وهي التي تقول: (الحقائق التي نصل إليها بالمنطق والرياضيات، إن لم نستشعرها بأرواحنا، فسوف تظلّ حقائق باردة، أو نظل نحن قاصرين عن إدراك روعة إدراكنا لها).
قتلت هيباتيا العالمة الجميلة في العام 514م وسحلت جثتها ومُثّل بها وأحرقت بسبب اتهامها بالسحر، وبصناعة الآلات الفلكية لأهل التنجيم والمشعوذين ولهذا ناصب العداء لها بابا الإسكندرية كيرلس آنذاك، وشجّع على قتلها من خلال خطبه الحماسية الرنانة ليقوم بطرس القارئ وأعوانه من الرهبان وصعاليك المسيحيين المتوحشين بهذه المهمة الشريرة.
ماتت هيباتيا أستاذة الزمان النقية القديسة، كما يذكر زيدان في الرق التاسع من روايته (عزازيل)، وهي الربة التي عانت آلام الشهيد، وفاق عذابها كل عذاب، وفي كل عصر وزمان، وفي كل الأديان، وكما في كل مكان يقتل العلماء والمفكرون ويتهمون بالهرطقة والزندقة والكفر والالحاد عندما يختلفون ويشذون عن طوق الحاكم أو من من يعتبرون أنفسهم ممثلي الله على الأرض من أصحاب الديانات المختلفة.
كاد الراهب هيبا بعد ما هاله من فزع ورعب بعد مقتل هيباتيا أن يهجر الرهبنة ويعود إلى بلدته نجع حمادى الواقعة بأطراف بلدة أسوان جنوب مصر، “فالاغتصاب والعنف ينتصران أمام عيني، والخصام والنزاع يسودان كل مكان”، كما يقول.
الراهب المصري الأصل في رواية “عزازيل” يقوم بتدوين سيرة حياته القلقة، وتاريخ تلك الأحداث وتقلبات زمانه المضطرب بعد تمكنه من ترجمة الرقوق الواردة إليه من شمال غرب حلب، وهي في حالة جيدة ومكتوبة باللغة السريانية القديمة (الأرامية) إلى العربية، وكان ذلك في القرن الخامس الميلادي وعلى وجه التحديد في العام ١٥٥٥م كما ورد في مقدمة المترجم. وكما يقول زيدان عن لغة الراهب هيبا: (تعبيراته الرهيفة، البليغة والصور الإبداعية التي تتوالى في عباراته، مؤكدة شاعريته وحساسيته اللغوية، وإحاطته بأسرار اللغة السريانية التي كتب بها)، كما أن هذه الرقوق كما ورد في الرواية ثلاثين رقاً، وهى متفاوتة في الحجم، في الطول أو القصر.
وكثيراً ما راود هيبا الاحلام في تطوافه، فكما يقول أمبرتو إيكو في روايته الجميلة “اسم الوردة”: (الحلم كتابة، والكثير من الكتابات ماهي الا أحلام)، فقد دوّن الراهب هيبا هذه السيرة في العام ٤٣١م وهى السنة المشؤومة، كما يطلق عليها، بسبب حرم وعزل الأسقف نسطور نتيجة للخلافات شديدة الوقع بين الكنائس، حيث كان اللقاء بينه والأسقف نسطور في أورشليم. فنسطور المبجل كما يشير إليه في أكثر من موضع هو المعلم والملهم والناصح والحامي والصديق لهيبا الراهب، فلا غضاضة أن يدافع عنه وعن أفكاره في خلافه مع الكنيسة المرقسية في الإسكندرية والاسقف كيرلس الذي عمل جاهدا لعزله عن اسقفية إنطاكية ومن ثم حرمانه من الرعاية الكنسية وتحقق له ذلك بعد أن أقرّ المجمع المقدس برئاسة الامبراطور، بإعادة كيرلس لرتبته الأسقفية وأقرّعزل نسطور ونفيه بعد أن تخلى عنه الأساقفة المناصرين لآرائه، مما هيأ للمجمع المقدس أن يصيغ قانونا جديدًا للايمان فيه إضافات على القانون الذي أقرّ قبل مائة عام في نيقية، كما ورد في الرق التاسع والعشرين .
في رحلته المريرة من بلدته نجع حمادي إلى الإسكندرية ومن ثم أورشليم القدس واستقراره النهائي ومحطته الأخيرة بعد أن تعب من الترحال الدائم، التقط أنفاسه في الدير الواقع شمال حلب، لأنه يقع في منطقة خضراء هادئة، في أعالي تلة ويعود بنائه إلى ما قبل الرومان، كما يذكر الراهب هيبا، وكان مبنى الدير معبداً في الزمن الغابر لإله الخصب والمراعي ولربة الحقول، (كانت أيامي الأولى في الديرهادئة، هانئة أمضيت أوقاتي في القراءة والعبادة، فسكنت روحي).
وكما يقول يوسف زيدان في روايته المبهرة “فردقان”: (الرجال مهما كانوا حكماء فإنهم لايبرءون من الطيش الطفولي، فإن الراهب هيبا كانت له مغامراته البريئة أيضاً، فمنذ أن وطأت قدماه الإسكندرية وتحت غوايات أوكتافيا وقع في المحظور ليقول عنها: أنا ما رأيت قبلها أجمل، ولا أرق، ولا ألطف. أوليست وهي الوثنية، أنقى قلبا وأصفى روحاً من أغلب المسيحيات اللواتي عرفته؟).
فعلى الرغم من حلمه الكبير في النبوغ في الطب واللاهوت، إلا إن مشروعه كاد أن يتعثر بسبب تلك المرأة وغواياتها له (كان جانبا مني يريدها، ويحب ذكاءها ورائحة جسمها. نعم كانت أوكتافيا ذكية، زكية، شهية. لكنني ضيعتها وضيعتني، مرتين ..)
وبقدرة قادر تخلّص من أوكتافيا ليواصل مشوارة وهدفه، رغم تلك العثرات والمطبات، ليسقط مرة أخرى في مستنقع الغرام ويحترق بنار مرتا اللاهبة.
مرتا كلمة قديمة تعني السيدة: (شعرها بحسب ما بدا من أطرافه المنفلتة من غطاء رأسها، كحاجبيها فاحم السواد، ولامع براق ٠٠مرتا آية من آيات الجمال الإلهي في الكون، في وجهها طفولية ونزق، وفيه بهاء صورة العذراء ، غير أن نظرتها جريئة جداً، ومربكة لمن هو مثلي، لسعتني نظرتها، وروعني جمالها، حتى كاد يغمى على من جلال الجمال ٠٠).
كاد أن ينهي مشواره وينتهي مع تلك المرأة لولا تشدد التعاليم الدينية لمن يود الرهبنة، فانتهى لمقولة من إنجيل متى: “من يتزوج مطلقة، فهو يزني”، وبذك فرّت منه رغم حبها الجارف له، وأصبح في وضع مزرٍ، لاحقته الهموم وعصفت به الأقدار بعد عزل نسطور ونفيه.
عزازيل …أي أبليس، الشيطان، أهريمان، يلعزبوب، بلعزبول، كلها مترادفات تعني نقيض الله المألوه الذى عرفناه بالخير المحض، فعزازيل مبرر الشرور.
من لم يقرأ هذه الرواية قد يعجز عن فهم ما يجري داخل الكنائس المسيحية من خلافات، وما يحدث فيها من نقاشات وصراعات، ففيهم القديسون الأتقياء، والهراطقة الممسوسون، فيهم الاتقياء النجباء وفيهم الأدعياء، الصادقون والمكذوبون، النافعون والمخلصيو لديانتهم والمتكسبون من تدينهم، والصالحون والطالحون، كما هي حال كل الأديان والاعتقادات لا تخلو من هؤلاء وأولئك، ويبقى الانسان حمّال أوجه، ويبقى هيبا الطبيب الشاعرصادقاً قبل أن يكون راهباً.