سأتأمل كل هذا الدمار الذي أحدثته، حين أنظر خلفي، سأفزع وأفتح فمي عن آخره، لكني الآن خائف وحسب، وأركض نحو الأمام، الأمام الذي ليس لي سواه.
أصرخ في هذا السواد، في هذا البياض المتقطع، دون أن أفتح عيني في أعمدة الإنارة الكبيرة، ذات الذقون المحكوكة، في الأصفر المريض يفرغ أحشاءه على الشارع، في الزجاج الأملس، تطير عيناي كفراشتي ضوء تلتفتان إليّ، ترياني بلا عينين، رأساً مفرغة، أصرخُ فيّ، فيهما، في صوت الإطارات على الشارع.
في الورقة العالقة بعلكة على الإطار.
محدثة صوتاً متكرراً
ها أنت وحدك أيضاً، مع موسيقى تأتي من سماءٍ لا تراها، وحدك، ترقبُ بصمتٍ ذلك الصمت
منذ اليوم أنا سأكترث لكل شيء، للضروري الذي يعرج ممسكاً بحائط الشرعيّ، وأيضاً الهامشي الذي يحلّق في فضاء المنتهك، سأحاول أن أتعاطف معهم؛ أولئك الذين لم ألتفت إليهم سابقاً، أو الذين كنتُ أعتقدهم مريبين، سأنحني لألتقط الحصاة الصغيرة التي على شكل هرم، وأمسح عنها بعض الطين العالق عليها، سأذهب في مظاهرة سلمية ولن أنحشر بين الحشود، بل سأصرخُ بأعلى صوتي أمامَ الجدار المهدود.
كل شيء قابل لأن يتغير؛ حتى أنا، كل شيء قابل لأن يكونَ مختلفاً وغير مألوف، وما عليّ إلا إبداع وجهة نظرٍ أخرى، ملاحظة الظل بلونه الأبيض منحشراً بين قدمي كرسيٍّ رمادي، يفغرُ فمه مستنجداً ويسحبه الغرق نحو الشمس، أو ربما حلق شعر كلماتٍ ظلت «هيبية» لمدة طويلة، ورؤيتها باتت تثير الاشمئزاز، كل شيء قابل لأن يتغير. كل شيء قابل لأن يأخذ غير معناه، كل شيء قابل لأن يغير جلده. ومنذ اليوم سأرى العالم هكذا: حرباء كبيرة ولا غصن تحتها.
كل هذا الصمت ولن يحدث شيء:
أنفاس الأشياء تتسارع بشهوة، دوائر لا تنتهي تتحرك حولي ببطء آسر. ولا شيء يحدث، أنا في حوض كبير من الهواء، أختنق وحدي ولا يحدث شيء، أنهض عن سريري كمومياء، كأثر مجهول، أخدش نعومة الجمود بحركة لا إرادية، أحكّ شعري وأسمع صوت الاحتكاك المعدني، في المرآة لا أجد أحداً سواي.
كل من في الحلم غادروا، منهكين ويائسين، بلا أجنحة وبلا أجر، لا شيء يحدث. حتى عندما أغمض عيني.
أفرك جبهتي بكفي وأعاود الاستلقاء على السرير، أستدعي أحلاماً لا تصل، ذكرياتٍ ممحوة، الكتابُ على الطاولة يترك لي حرفين أو ثلاثة، كل هذا الصمت، كل هذا الذي لا يحدث.
لا أعني شيئاً بالمرة
ما الذي يمكن أن يعنيه شيء مثلي
غير اللاشيء!
أنا الشيء.. دون اكتراث لما هو.
بكل ما أملك من طاقة، وهي قليلة على أية حال، أقاومُ اليأس، أدفعه ببطء كمكعب نرد ثقيل، يسقط نحو الهاوية، الهاوية التي تتساوى فيها أرقامه.
● من كتاب (لن أقول شيئاً هذه المرة) الصادر أخيراً عن دار مرايا للنشر