((كلُّ مجلدٍ لماركس فتحناه،
كما لو كنا نفتحُ مصاريعَ بيوتنا،
واضحاً كان دربنا،
لم نحتاجَ إلى كتابٍ لنفهم أية معركةٍ سنخوضها،
ولم نرث من هيغل ديالكتيكنا،
بل قفز لنا في قلب المعركة بيتاً شعرياً
حين فرَّ البورجوازيّون أمامنا —
مثلما كنا نفر منهم يوماً!)) – ماياكوفسكي
ههنا ينقطع صمتنا، ههنا نعلن: مهما أردنا أن نترك وشأننا ترانا مضطرون للحديث، لا وبل في أمورٍ لا تعنينا! لكن تفرض الحركات الجماهيريّة أن نبدأ بالحياكة الذهنيّة؛ الأمر سهل، ثمة جماهير ضجت فانفجرت، ومع ذلك ترى جمهور المثقفين يضيع أمرهم، وينتفون كلّ خصلةٍ من شعرهم، بغية أن يفسروا ما يدور حولهم. الحل، في نهاية المطاف، سهلٌ: لِمَ الكتابة إن لم نكن نعرف ما الذي يحصل بالفعل؟ لماذا نقولُ، ثم ليضحك – بعدها بأسابيعٍ معدودة – التاريخ علينا؟
ولعلكَ ستقول بإن هذه المقالة مبكرة جداً؛ وربما، لا أدري يوماً؟، ستحسب هذه المقالة من الأمور غير الحكيمة التي قمت بها. لكن دع المخاطرة تأخذ مجراها، فهي ضروريّة — هناك أشياءٌ لا بد أن تقال. يقال بإننا، البحرينيّون، نحتفي مبكراً بقدوم فصل الشتاء، فنلبس المعاطف رغم أن الجو لا يزال حاراً: وهكذا نحن في السياسة، نحتفي سريعاً حالما تنفلت الجماهير في أيّة بقعةٍ على الأرض! ولستُ أنفي، بضرورة الحال، صعوبة المسألة التي تفتح لنفسها أمامي، خصوصاً أنني لستُ لبنانيّاً ولم أدعِ أبداً بأنني أفقه بخصوصيّات بلد مثل لبنان، ناهيك عن تحليل أوضاعها ودروب حركتها! لذا لن يجري الكلام على سلسلة من حقائق ملموسة (رغم أنها تتضمنها)، لا لأنها غير متوفرة وحسب ولكن لأنها تحتاج إلى تحليلٍ فعليّ من قِبل المختصين في خصوصيّة لبنان، بقدر ما سيتقدم عبر فرضيّات معينة (وأعني بذلك فرضيّات تثبت نفسها نظريّاً في المقام الأول، لا عبر الحقائق الملموسة).
حين يقرأ المرء مهدي عامل، (الدولة الطائفيّة) أو (مدخل لنقض الفكر الطائفيّ)، يشعر بأن هذه الفرضيّات ستبرز على السطح كما لو كان على المرء أن يستحضرها في هيئة أشباح وأطياف. الآن، لا أزعم بأن لدى مهدي عامل تحليلاً كافياً (أو استباقيّاً) لفهم التناقضات الحقيقيّة الموجودة في لبنان، ولكنها تُشكل مواقع حقيقيّة لدفع فرضيّات معينة لفهم هذه التناقضات. إذن هي: محاولةُ فهمٍ، لا إطار يدّعي بأنه يفهم – وبشكل قبليّ – ما الذي يحصل بالضبط. هناك الكثيرُ من التاريخ قد حصل ما بين زمن مهدي عامل وزماننا، الكثير جداً! لهذا الحديث يجري مع أشباحٍ، لا هي تنتمي لزماننا ولا هي قادرة أن تعود لزمانها.
لنقابل، إذن، شبح مهدي عامل في شوارع بيروت!
لقد خرجت الجماهير اللبنانيّة، وبعددٍ لا يقل عن مليونيّن شخص تقريباً، لتحتل الشوارع وتطرح مطالباً تضرب المصالح المباشرة للطغمة الماليّة الكومبرادوريّة الحاكمة من جهة، والنظام السياسي القائم والذي يشكل امتداداً للنظام السياسيّ الطائفيّ التوافقيّ الذي أنشأ بعد الاستقلال السياسيّ للبنان القرن الماضي. لم تكرر الجماهير الكلام الإنشائيّ لمختلف المثقفين حول “الثقافة الطائفيّة” وما شابه ذلك، بل طرحت الأمور كما هي عليه: أن النظام الطائفيّ لهو نظامٌ سياسيّ ذا طابع طبقيّ في المقام الأول (لا ننسى تشديد الجماهير على ربط الحكم الطائفي بحكم ”المليارداريّة”)؛ الشكل التاريخيّ الملموس الذي شكلت البورجوازيّة الكولونياليّة اللبنانيّة حكمها الطبقيّ في لبنان. ولم تكتفِ الجماهير بذلك، بل طالبت بالإطاحة الكاملة لهذا النظام السياسيّ. إن الأزمة الاقتصاديّة، وتصاعد الديون، وبالتالي فرض إجراءات تعويضيّة مثل الضرائب على الطبقات الشعبيّة اللبنانيّة دفعت هذه الطبقات نحو ذلك. إن إنفجار غضب كهذا لم يأتِ دفعة واحدة، ولكنه يشكل ذروة التراكم هذا الذي بدأ منذ عاميّن تقريباً مع تقديم حكومة الحريري برنامج التقشف، كنتيجة “للإصلاحات الهيكيلية” التي فرضها البنك الدوليّ عبر القروض الهائلة بهدف خفض عجز الموازنة (قروضٌ تصل إلى 11.6 مليار دولار)، بما إن الديّن العام تجاوز 150% تقريباً من الناتج المحليّ. أما نقطة الإنفجار كانت: اقتراح فرض ضريبة بمقدار 20 سنتاً لليوم على المكالمات الصوتيّة في مختلف التطبيقات، وأهمها الواتساب.
أنا أذكرُ الأرقام والحقائق لندفع كل من يشكّك في نزاهة هذه الحركات إلى زاوية حرجة؛ كي نُشهر في أعين كل المشكّكين الذي يسمّون هذه الإنتفاضات بمختلف التسمّيات الدنيئة (ثورة الفودكا، ثورة الراقصات إلخ) لأغراض نعلمها جميعاً؛ نحن نعلمُ من يخاف الشعب اللبنانيّ، من يريد أن يمنعه أن يغني مع رامبو:
لم يعد الشعب عاهرة أي أحدٍ
ثلاثُ خطواتٍ فأسقطنا باستيلكم إلى الأرض…
شُحبت وجوهنا في غمرة نشوة آمال مرعبة،
وهناك أمام السجون السوداء
شهرنا بالأبواق وأغصان البلوط
والسلاح في القبضة؛ لكن أشعرنا بالكراهيّةِ؟
لا!
قوّتنا المفرطة دفعتنا نحو الدماثةِ!
بشجاعةٍ انتفضت الجماهير، المكونة من طبقات شعبيّة مختلفة (مثل العمال والموظفين وأصحاب العمل الصغار)، وقوى اجتماعيّة متعدّدة (وربما أهمهم المثقفون والطلبة)، وشتى أنواع الحركات الاجتماعيّة. ولم يكن هناك تنازلاً لم يقدمه الحريري وحكومته للجماهير: اقترحوا ميزانيّة جديدة لا تتضمن أيّة ضرائب اضافية (مع خفض 50% من رواتب الوزراء والرؤساء والنواب الحاليين والسابقين)، ثم بدأوا يصيحون بإسم التعاون والتضحية “من أجل الوطن”، ولما ذهبت كل هذه المحاولات سدى ظل الحريري يصيحُ مثل المرابي شايلوك: “ماذا سأصنع من منزلي حين تريدون منعي من أموالي؟ لن تكون لي حياة دون أموالي!”. لكن مع ذلك أصرّت الجماهير على البقاء في الشوارع، مرددة: “كُلهن يعني كُلهن” رغم استقالة عدد من الوزراء. لا حل، تقول الجماهير، دون استقالة تامة للحكومة القائمة.
On s’engage et puis, on voit [أولاً نخوض معركة جادة، ثم نرى ما سيحصل] ، هكذا قررت الجماهير اللبنانيّة بشجاعةٍ أن تواجه قوات الشغب، والحكومة، والجيش، وميليشيات حزب الله. لكن اتسائل ما إذا كان مهدي عامل سيقول شيئاً كالتالي على شكل تحذيرٍ للجماهير اللبنانيّة: صحيح أن الدولة الطائفيّة، بمعنى النظام السياسيّ الطائفيّ، هي الشكل الملموس للدولة البورجوازيّة اللبنانيّة، لكننا ألن نؤبد السيطرة الطبقيّة البورجوازيّة إذا التزمنا بشعاراتٍ مثل: المساواة ما بين الطوائف، وتذويب الفروقات، والمواطنة المتساوية، إلخ؟ رغم أنها مهمة جداً ولا غنى عنها. ألن نؤبد هذه السيطرة الطبقيّة إذا التزمنا بتغيير النظام السياسيّ وحسب؟ ولعمري، ستصيحُ الأقسام المهيمنة وغير المهيمنة من البورجوازيّة وتغني:”كُلهن يعني كُلهن” مع الجماهير إذا وصلت أزمة الدولة إلى حدود قصوى!
بوضوح يمكننا نرى كيف أثّر الصراع الطبقيّ الجماهيريّ في تفعيل أزمة الدولة البورجوازيّة، وبالتالي أظهرت تناقضاتها الملموسة على السطح. لكن لنحمل الأمور إلى إستنتاجاتها المنطقيّة دون أن نسقط في حماسٍ أعمى: إذا وصلت الدولة الرأسمالية إلى أزمةٍ حادة جداً لن نستغرب تقدمها على التضحية بالشخوص القائمين في النظام السياسيّ ككل، أعني كل الذين يحتلون المواقع العليا في الجهاز السياسيّ للدولة — دون تغيير النظام السياسيّ الطائفيّ نفسه، أو بتقديم ما سماه مهدي عامل قديماً باحتماليّة “إصلاح طائفيّ” في النظام الطائفيّ نفسه.
أنا أحملُ الأمور إلى هذا الحد كي أبيّن إلى أي مدى إقامة التماثل ما بين النظام السياسيّ الطائفيّ و”المليارداريّة” أمر صحيح وغير صحيح في مثل الوقت. هو صحيحٌ في الحدود التي نقول فيها بإن الدولة البورجوازيّة اللبنانيّة أتخذت الشكل الطائفيّ لنظامها السياسيّ، ولكن غير صحيح في حال افترضنا بأن هذه البورجوازيّة هي كتلةٌ واحدة دون أيّة تناقضات حقيقيّة بينها (لا اقتصاديّة وحسب، بل سياسيّة ايضاً). إن هذه الفكرة تفترض، بشكل ضمني، بأن القضاء على الحكومة الراهنة، أو بشكلٍ أكثر راديكاليّة: القضاء على النظام السياسيّ الطائفيّ كليّاً، سيكون كافياً للقضاء على حكم ”المليارداريّة“ الطبقيّ. في هذا الافتراض ننسى إمكانيّة أو احتماليّة إنقسام البورجوازيّة نفسها على نحو قسميّن سياسييّن مختلفيّن (لا أستطيعُ، ولا في مقدوري، تحديد هذه المسألة بشكل قبليّ هكذا: ولكن أمن الممكن أن يكون ما بين قسم طائفيّ تقليديّ وبين قسم إصلاحيّ-طائفيّ؟ كما إن علينا ألا ننسى بأن ثمة أقسام بورجوازيّة غير مهيمنة تدعو إلى دولة غير-طائفيّة إطلاقاً — رغم أنها غير قوّية كقسم طبقيّ)، وهذيّن القسميّن سيكونا كافييّن لإقامة خطوط الفرق الطبقيّ ما بينهما (ما دمنا نفترض، مع ماركس، بأن تحديد الأقسام لا يعتمد فقط على المحدد الاقتصاديّ بل على السياسة ايضاً). فالوضع الحاليّ لا يطاق بالنسبة إلى بعض أقسام البورجوازيّة اللبنانيّة، ولن نستغرب (وتقول الشواهد على ذلك) حضور بعضها مع الجماهير في حركتها.
هذا الإفتراض سيشل أيّة حركةٍ فعليّة لضرب قلب الدولة، لأنه يفترض بأن للبورجوازيّة اللبنانيّة ورقة واحدة (بما إنها طبقة متماثلة بشكل موحد!)، وبالتالي المواجهة تكون وجهاً لوجه: الجماهير من جهة، حكومة ”المليارداريّة“ الفاسدة من جهةٍ اخرى. لكن ما ابعد ذلك عن الواقع! دعنا لا ننسى بأن الحكم الطبقيّ للبورجوازيّة اللبنانيّة هو شيء، والقسم الكومبرادوريّ الماليّ المهيمن هو شيء آخر (رغم أنه يقوم على الأول)؛ ولما كان القسم المحليّ للبورجوازيّة هذه ضعيفاً فلن يكون في مقدورهِ أن يقود الحال إلى أزمة هيمنة طبقيّة، ولكن أهناك ما يمنعنا أن نظن بأن القسم الكومبرادوريّ المهيمن لن يقوم بعملية تطهير ذاتيّة لإنقاذ نفسه من الورطة؟ لذا، الورقة الأولى، والأساسيّة، في يد هذه البورجوازيّة لن تكون القمع الماديّ الشامل للجماهير اللبنانيّة، بل التغيير الحكوميّ الماديّ في الجهاز السياسي نفسه (الشخوص على رأس الجهاز السياسيّ للدولة) —لإنقاذ الدولة من أزمتها.
لكن، مرة اخرى، لا يمكن ابداً التكهن بتحركات الجماهير اللبنانيّة التي قد لا ترضخ لهذا النوع من الرشوة السياسيّة (وإلى حد الآن، نجد الجماهير اللبنانيّة مستنيرة بما فيه الكفاية بشكل يمنعها من الإنجرار وراء الرشاوي السياسيّة التي قدمت لها)، لذا – وفقط عند هذه الحالة – ستلجأ الدولة إلى قمع ماديّ واسع لهذه الجماهير؛ لا بالضرورة عبر الجيش، وقوات الشغب فقط، بل ايضاً عبر شبكات الدولة البورجوازيّة الموازية التي تتجاوز حدود الدولة نفسها؛ وهي تتجسد في ميليشيات حزب الله التي تشكل سداً منيعاً لأي تحولٍ حقيقيّ في النظام السياسيّ الطائفيّ، وجهاز ثورة-مضادة في المقام الأول. ولا داعٍ لأذكركم بأن في الحالات القصوى، هناك دائماً هامش بسيط ومستبعد جداً لردة فعل ديكتاتوريّة عسكريّة إذا دفعت التحركات هذه الدولة نحو أزمةٍ لا رجعة منها.
أفهمُ أشكال تفعيل أزمة الدولة البورجوازيّة اللبنانيّة بمعنييّن. الأول، لا بد أن نفهم بأن النظام السياسيّ، بما إنه طائفيّ بالمعنى “المواطنة السياسيّة” للكلمة (ايّ بالمعنى الآيديولوجيّ-الحقوقيّ)، صار يواجه صعوبة في فرض قبول ايديولوجيّ له، حيث تتعامل الجماهير اللبنانيّة لأول مرة مع أنفسها كـ “جمهور” (وأعني بذلك: Multitudo، كما جاء عند سبينوزا) لا كتحالف ما بين طوائف، ولا حتى توافقاً ما بين طوائف! في غضون عشرة أيام فضحت الجماهير اللبنانيّة الخديعة الآيديولوجيّة التي لعبتها البورجوازيّة اللبنانيّة لسبعة عقود منذ ميشال شيحا إلى يومنا هذا! أهناك عبقريّة خلاقة أكثر من هذه؟ عند هذا الحد سيرتجف كل المثقفين الذين يخافون “عفوية” الجماهير.
لكن دعونا لا ننسى بأن مثل هذه النقطة قد تشكل موضع الآيديولوجيا البورجوازيّة التي تأمل في حلٍ غير-طائفيّ (ايّ نظام سياسيّ غير-طائفيّ، أو ما سماه مهدي عامل بالـ “حل الوهمي”) للدولة البورجوازيّة اللبنانيّة، أو لنقل: دولة بورجوازيّة غير طائفيّة. كما إن هذا الموقف الآيديولوجيّ، الذي يبقى إيجابيّاً في حدود مناهضته للنظام الطائفيّ، قد يستعمل بطريقة عكسيّة لتغييب كل الفروقات والتناقضات ما بين الطبقات التي تكّون الجماهير نفسها؛ مثلاً، أليس ذلك أمراً عوارضيّاً حين لا نسمع أيّة كلمةٍ حول الإضراب العماليّ في لبنان، ايّ دور الطبقة العاملة (كطبقة عاملة) في هذا الحراك؟ إن تغييب هذه التناقضات (تحت أسم “الشعب”) ايضاً يغيّب تعيين القوّى الطبقيّة القائدة والقوى الرئيسيّة، إلخ.
أما المعنى الثاني، فهو يرتبط أساساً بالأشكال الملموسة التي تظهر بها أزمة الدولة هذه وهي التناقضات الظاهرة والمخفيّة ما بين أجهزة الدولة وداخل كل جهازٍ على حده. أنا على قناعةٍ عامة، لئلا أقولُ تامة فأسقط في الإطلاق دون أيّة حقائق ملموسة باليد، بأن نجاح الحركة الجماهيريّة اللبنانيّة تعتمد أساساً على مدى إنعزالها وارتباطها ببعض أقسام أجهزة الدولة القائمة. هاكم مثال: أن وجود الجماهير هكذا في الشارع، معرضين أنفسهم (وبشجاعةٍ بالغة) لجميع أنواع المخاطر دون أي شكل من أشكال هيئات قاعديّة شعبيّة للدفاع عن المتظاهرين (وهي، كما تعلمنا التجربة الأمريكيّة الحديثة، لا غنى عنها)، تتركهم فريسة سهلة أمام القمع الماديّ. الآن، المسألة ليست مسألة إقامة هيئات قاعديّة دفاعيّة وحسب (وهي، أكررُ، ضروريّة جداً) بل أيضاً احداث تناقضاً داخل الجيش نفسه (لا ما بين الشرائح التحتية منه وحسب، بل أيضاً مع بعض الضباط)؛ أنا لا أقولُ بإن عليهم أن يعولوا على الجيش كله كجهازٍ قمعي (وهذا الخطأ الفادح الذي حصل في مصر والسودان)، بل بإستغلال هذا التناقض القائم فيه لإستقطاب قسم منه نحو الحركات الجماهيريّة (رغم الصعوبة البالغة لهذه المسألة، بما إننا لا نعرف ابداً وضع الضباط والقادة الواقعين تحت الآيديولوجيا-الحقوقيّة الطائفيّة، ناهيك عن الإنتظام الفعليّ للجيش نفسه). غير ذلك، مهما كانت النوايا نبيلة، ستعرض الجماهير نفسها فريسة سهلة أمام الجيش من جهة وميليشيات حزب الله من جهة أخرى.
إن الجماهير قد وضعت لنفسها مهمة تاريخية في قياس وضبط الأمور؛ أنها تجربُ وتكتشف، تطرح اسئلة وتحلها. ورغم أن عفويّة الجماهير، وقوّتها الخلاقة، وشجاعتها أمر في موضع الإعجاب، إلا أن لا يمكن لأيّ واحد منا أن ينفي الحقيقة التالية: أن البورجوازيّة اللبنانيّة ستحرص على بقاء الجماهير في عفويتها دون أي تنظيمٍ فعليّ، إذ إن ذلك ينصب في مصلحتها المباشرة. إن نجاح الحركة الجماهيريّة اللبنانيّة لا يعتمد على ما ذكرناه آنفاً وحسب، بل على وجود جهات تنظيميّة مركزيّة يمكنها أن تفّعل ذلك بشكل مباشر؛ أن تفهم، وتبيّن للناس بالتالي، الحقيقة الطبقيّة وراء الدولة اللبنانيّة ككل (لا النظام السياسيّ وحسب). إن هذه التنظيمات المركزيّة هي التي سيكون عليها التنسيق ما بين أشكال تفعيل التناقضات في مؤسسات الدولة من جهةٍ وتحريك القواعد الجماهيريّة من جهة اخرى. من دون ذلك الفشل سيكون مضموناً!
قد لا نجد عند الجهاز النظريّ لمهدي عامل شيئاً متكاملاً يبرز التناقضات الداخليّة الكامنة ما بين أجهزة الدولة البورجوازيّة في لبنان التي أخذت شكلاً طائفيّاً، ولا شيئاً يوحي بتحويل (أو استغلال) هذه التناقضات. ولكننا سنجد – بلا شك – نواة هذا التحليل عنده. لكن النواة ليست هي هي التكامل النظريّ، ولن أمنع نفسي من التساؤل عما إذا كانت أطروحته: كون الدولة الطائفيّة هي هي شكل الدولة البورجوازيّة الكولونياليّة التي تحول دون وصولها كشكل الدولة البورجوازيّة (كما لو كان هناك نموذجاً كونياً لهذه الدولة!)، لا تختزن سلفاً فكرة مغلوطة لكون البورجوازيّة (وبالتالي، دولتها) كتلة واحدة تخلو من تناقضات فعليّة وحسب، بل (جرّاء ذلك) تقفز فوق الطرق التي تتحرك بها البورجوازيّة لإنقاذ نفسها. لكن لا يمكن لأي ثوريّ لبنانيّ حقيقيّ أن ينسى الحقيقة الأساسية التي ذكرها مهدي عامل: ((إن إسقاط نظام هذه الهيمنة [الطائفية] ليس إسقاطاً لمشاريع الحلول الطائفية الأخرى جميعاً وحسب، بل هو … إسقاط لنظام الطغمة المالية نفسه)).
سواء سيحصل ذلك اليوم أو لا، ليس ثمة انتقالٌ خطيّ (أو تطوريّ) للديموقراطيّة – لا في لبنان ولا في سائر العالم العربيّ. وستكون الجماهير اللبنانيّة أمام الخيار الحاسم: لا ديموقراطيّة حقيقية في لبنان، وسائر الوطن العربيّ، إلا إذا كانت ديموقراطيّة اشتراكيّة! لكن من المستبعد، إن لم يكن المستحيل، أن يكون الانتقال الاشتراكيّ مطروحاً في الشارع اللبنانيّ اليوم. الأيام القادمة آتية وهي ستحسم الأمور، ومهما كنا نخشى أن ينتهي أمر هذه الحركة الجماهيريّة بتحييدها (كما حصل مع الكثير قبلها)، لكن علينا لا ننسى ابداً بأن هذه الحركة ليست عابرة وسيكون 17 تشرين (مهما كانت النتيجة الفوريّة لهذه الحركة) سيكون تاريخاً لن تنساه البورجوازيّة اللبنانيّة ابداً، وسيظل صداه يتردد في ذهنها لمدة طويلة جداً. أما بورجوازيّو المنطقة سيراقبون الجماهير اللبنانيّة، والجزائريّة، والعراقيّة، وسيقولون بلسان ماكبِث قبل ارتكاب أيّة جريمة لم يرتكبوها بعد:
((إنها جرائمٌ سيحاسبنا عليها العالم، وسينقلب السحر على الساحر إذ الآخرون سيسحلوننا ايضاً. إنها العدالة، تساوي ما بين الجميع، وحينها سيكون علينا أن نشرب كأس السم الذي قدمناه للناس!)).