((تنقسم الطبقة العاملة الانكليزية إلى معسكرين متناحرين: العمال الانكليز من جهة، والعمال الآيرلنديين من جهة أخرى. يكمن سر ضعف الطبقة العاملة الانكليزية في هذا التناحر، رغم أنها منظمة. إنه سر ديمومة النظام الرأسمالي. والرأسماليون يعون ذلك جيداً)).
كارل ماركس
تتلخص آراء البورجوازية الصغيرة المطروحة في البحرين اليوم بما وصفاه ماركس وانغلز في بيانهما الشيوعي قديماً بكونها آراءاً تحن إلى مجتمع رأسمالي من دون أي بروليتاريا، أو بكلمات اخرى: مجتمع رأسمالي من دون شرور ومساوئ الرأسمالية. بالفعل، ينطبق ذلك على حد سواء بمن يمكننا أن نسميهم (تبعاً للبيان الشيوعي) بالاشتراكيين البورجوازيين؛ وهم يكررون ذلك منذ “دمقرطة الرأسمالية” عند بيرنشتاين، “الإمبريالية – العليا” عند كاوتسكي، “التعاونية المجتمعية” عند برودون، “دولة الشعب كله” عند لاسال.
لكن فيما كان بيرنشتاين يوماً منظراً ماركسياً فذاً، وكاوتسكي بابا الماركسية (ومحرر المجلد الرابع لرأس المال)، ولاسال مؤسس الحركة الاشتراكية الديموقراطية الألمانية، وبرودون مؤلف كتاب (ما هي الملكية؟) الذي هز الحركة الاشتراكية الأوروبية حينها، فإن اشتراكيينا البورجوازيين مدافعون سيئون جداً عن أوهامهم. وبطبيعة الحال، حالما تفشى وباء كورونا في البحرين، أصبح الجميع حريصاً على “مصلحة الوطن”، والكُل دأب في تقديم كل ما لديه لتطهير هذه الجزيرة من كل وباء. الآن، بين ليلة وضحاها، الكُل يدعو لتأجيل كل مشكلة سبقت قدوم هذا الوباء والتركيز أساساً في اقتلاع المصدر الأساسي له.
في البداية، أشار الطائفيون البائسون بإصبعهم على القادمين من إيران كالمصدر الوحيد لهذا الوباء، ولم يكن صعباً عليهم تحديد هوية القادمين من هناك؛ وبالفعل، قبل عقد من اليوم أشاروا بأصبعهم على مثل الطائفة وقالوا بانهم وباء سياسي يجب “تطهيره”. وسرعان ما انهارت أحلامهم حين كشفت المصادر الرسمية بأن مصدر الوباء أيضاً يقدم من دول عربية اخرى مثل مصر؛ واختاروا حينها الصمت. رفضت أطراف واسعة من البورجوازية، والبورجوازية الصغيرة، والطبقة العاملة السكوت عن هذا الخطاب الطائفي، خصوصاً أن مشكلة البحرينيين العالقين في إيران تفاقمت حينها، ولا تزال متروكة من دون حل سريع. حينها أيضاً رفض الاشتراكيون البورجوازيون الصمت، وأدانوا كل ما تفوّه به الطائفيون هؤلاء؛ والحق معهم طبعاً.
“كه عشق آسان نمود اول ولى افتاد مشكل ها!” [كان العشق ميسوراً حتى انقلبت علي الدنيا بمصائبها]. إلى هذا الحد، كان مصدر الوباء خارجياً، وكم كان سهلاً الحديث ضده! لكن حالما اكتشفنا بأن هذا الوباء انتشر بشكل واسع بين مساكن العمال الوافدين، وبالأخص الآسيويين الفقراء منهم، حتى أصبح كتابنا، وساستنا، ونوابنا، في حيرة من أمرهم؛ بالأمس كانوا انسانيين متعاطفين مع اخوانهم سنة وشيعة معاً، أما اليوم فقد حشرهم هذا الوباء في زاوية حرجة؛ الذين كانوا مجهولين طوال هذه المدة أصبحوا محور اهتمام الرأي العام. مهما كان، أنهم أكثر ذكاءاً من يعبروا مباشرة عن عدم اكتراثهم بهذه الشريحة، وأنهم أكثر ذكاءاً من كشف انفصام “انسانيتهم” في هذه اللحظة الحرجة. بطريقة أو اخرى، أصبح هناك تطابقاً ما بين الآراء التي تطرحها البورجوازية والبورجوازية الصغيرة من جهة، والآراء التي يطرحها بعض الاشتراكيين البورجوازيين الاعزاء. الاقتراح الذي توصلوا إليه، لا ريب في ذلك، هو الأكثر انسانية: تسفير العمالة الوافدة هذه حيثما جاءت، ويضيفون على هذا المقترح جملة سحرية (اسأل القارئ ألا يضحك!): “بأكثر طرق إنسانية ممكنة”! عليّ أن اعترف أنهم اجتهدوا كثيراً لابتكار هذه الجملة. “أكثر الطرق الانسانية ممكنة”: جملة بائسة لا تغير من حقيقة مطالبكم، تذكرني بالمثل الفارسي: “ولد حماراً ومات بغلاً!”. الفكرة ليست فكرة العامل الإنساني أو الوحشي، بل تسفير العمالة الوافدة في حالة حرجة حيث بلدانهم لا تريد استقبالهم حتى؛ حالة حرجة حيث أن هذه العمالة نفسها لن تستطيع أن تدبر امورها حالما تطأ رجليها في بلدانها (أوليس ذلك السبب الرئيسي الذي دفعها أن تترك بلدانها في المقام الأول؟). انسانيتكم، أيها السادة، ما هي سوى جملة انشائية تضيفونها لزخرفة شوفينية كامنة؛ لزخرفة تناقضكم الداخلي الشبيه بتناقض هاينه حين أكتشف بأن محبوبته أصبحت تبادله الحب:
بغبطة صعدتُ أعلى الجبل
ونشدتُ أنشودة الفرح
وفيما كانت الشمس في الأفول
انهمرت دموعي على ساحل البحر
ينجح هاينه في تحريك مشاعرنا عبر تناقضاته، ولكن انسانيتكم لا تعبر عن تناقض صادق كهذا حتى! الحق يقال، وسأقولها بالنيابة عنكم لأزيح هم الصمت عن صدوركم، أنكم دائماً وجدتم في هذه العمالة الوافدة عنصراً طفيلياً مزعجاً في تركيبة مجتمعكم العزيز، وآرائكم الاقتصادية كانت وافية وكافية لإثبات هذا الازعاج؛ فكم حاولتم اقناع الجماهير البحرينية بمعاداة العمالة الوافدة حين جلبتم ارقاماً من تحت الأرض كي تكشف أن التنافس ما بين “الطبقات الشعبية البحرينية” و”الطبقات الشعبية الوافدة” في شدة، وأن الصراع أساساً هو هو هذا التنافس. ثم، ارتأى لكم أن تدافعوا عن بورجوازية بلادكم حين حاولتم اقناعها بأن الصرف على العمالة الوافدة لا يعود بالنفع لرأس المال الوطني، ولا على “الاقتصاد الوطني” (ترجم ذلك إلى: النظام الرأسمالي القائم). أنكم تغوون الطرفين، وبين كفة عشيقين: في اليد اليمنى الطبقات الشعبية، واليد اليسرى الطبقات المالكة للوسائل الإنتاجية؛ تستميتون بكل ما لديكم لإرضاء الطرفين. ماذا تشكل لكم العمالة الوافدة هذه؟ الآثار غير الحميدة للنظام الرأسمالي، لهذا السبب تريدون نبذها وابعادها لأنكم ترغبون بنظام رأسمالي دون الآثار المدمرة له؛ وهذا مستحيل.
دعوني أقول بلا أي مواربة أو تلطيف بأنكم، بوصفكم اتباع الاشتراكية البورجوازية، تحت السطوة الكلية للإيديولوجيا البورجوازية. الدليل سهل: حين تقومون بتشغيل جماجمكم للبحث عن حلول للوباء المنتشر ما بين صفوف “العمالة الوافدة” فأنكم تعتقدون بأنه من حقكم، تبعاً لتأليه التسلط عند التقليد البورجوازي، أن تقرروا مصيرها بالنيابة عنها. اعذروني، أنكم لم تتحدثوا قط عن العمالة الوافدة إلا لكي تفكروا ماذا يجب عليكم أن تقوموا بشأنها. إنكم تتحدثون عنها، وبالنيابة عنها، ولكنكم لم تستمعوا إليها قط. لماذا؟ لأنها لا تمتلك لا قاعدة سياسية ولا منظمة أيديولوجية تكون لسان حالها! أنتم لا تثقون بالجماهير، ولا على قدرتها في ابتكار الحلول. وحين تقومون بهذه التمثيلية “الوطنية” في تفضيل “العمالة البحرينية” على “العمالة الأجنبية”، فإن للينين تسمية صريحة لكم: الاشتراكية الشوفينية.
رب هناك من سيعترض قائلاً: “لكن ألن يكون تسفيرهم الحل الأمثل لهم، رفقاً بهم وبأحوالهم؟”. لا يعني هذا الاعتراض شيئاً، فإن شعوركم الانساني هذا سيرافق هؤلاء إلى مطاراتهم الوطنية وسيحلق عائداً إلى البحرين؛ وستنسوهم تماماً حين تتركونهم في يد بورجوازياتهم. هذه نواياكم، في مثل الوقت الذي تقدمون احتجاجاتكم على افعال الصهاينة تجاه العمالة الفلسطينية التي تعمل في أسوأ الأوضاع في بلدها المحتل! ما الفرق حين يمنع الصهاينة (وممثليهم الإيديولوجيين) – بتجاهل متعمد – حق النظام الصحي على عموم الفلسطينيين، لأنهم يعتبروهم وافدين “أقل شأناً”، فيما يزداد انتشار الوباء ما بينهم بفعل اوضاعهم المتدنية (من بين 3865 حالة مسجلة، يشكل الفلسطينيون مجرد 38!)، وحين يطالب البعض هنا بترحيل العمالة الوافدة لتخفيف الضغط على النظام الصحي القائم؟ ترى هل ستتغير نوايا النظام الصهيوني حين يضيف كلمة ”انساني” على افعاله هذه؟
القضية ليست قضية ما يجب أن نعمل مع “العمالة الوافدة”. أنكم تسيئون الفهم! القضية هي كيف يمكننا التواصل معها، وإقامة جسوراً بيننا وبينهم، وفتح قنوات مشتركة لتوحيد الطبقة العاملة محلياً. والأمر واضحاً: كل من يقف ضد وحدة الطبقة العاملة هو غريب عن الفكر الاشتراكي العلمي؛ وكل من يشارك في تفريق الطبقة العاملة سياسياً وآيديولوجياً، لا يسمي نفسه اشتراكياً إلا ليخدع نفسه.
لكن لكي نحل هذه المعضلة سيتوجب علينا أن نفهم كيف نكسب مفهوماً مغلوطاً عن “العمالة الوافدة” حين نتخيلها كتلة واحدة دون أي تناقضات أو فروقات ما بينها. حالما تقولون “عمالة وافدة” فإنكم تتخطون تحديداتها الطبقية التي تفرق ما بينها، كما لو كانت كتلة مجمدة ثابتة. أنا لا أفكر هنا في التناقضات ما بين العمالة الوافدة التي تحتل المناصب الإدارية في بعض الوزارات ومجالس ادارة الشركات الوطنية، وبين العمالة الوافدة الفقيرة التي تكون في غالبيتها آسيوية، بل أحصر كلامي في الأخيرة وحسب (وتناولتُ هذه الفروقات بشكل أوضح في العدد 139 لنشرة التقدمي، في الجزء الثاني من مقالة (رأس المال الكولونيالي في سياق الأزمة الاقتصادية البحرينية) لا يُمكن أن نضع للعمالة الوافدة الآسيوية تحديداً اثنياً، ولن يكون أصح أن نحددها تحديداً يرجع للنمط التوزيعي، ايّ كـ “الآسيويين الفقراء”. إن هذا التحديد ليس علمياً.
أولاً، ينتمي جزء من “العمالة الوافدة” للطبقة العاملة التي تنحصر بالعمال الذي يعملون في شركات البناء، والصناعة المتوسطة والخفيفة غالباً (رغم أنها ايضاً تتواجد احياناً في المصانع الكبيرة)، والورش، والكراجات. ويُمكن أن نحدد علمياً بأن هذا الجزء يشكل شريحة (لا قسم ولا فئة) من الطبقة العاملة المحلية، كأثر التحديد السياسي والإيديولوجي، إذ إن هذه الشريحة من الطبقة العاملة لا تمتلك أي تمثيل سياسي أو إيديولوجي (ما يسميه غرامشي بالـ “هوامش”)، وتفرق عن باقي الطبقة العاملة البحرينية في حقيقتها الإثنية، وابتعادها عن الحياة السياسية، وغياب أي تمثيل اقتصادي لها (كالنقابات) في صراعاتها الاقتصادية مع أصحاب العمل، وأجورها المنخفضة بالنسبة إلى المعدل العام، وأخيراً بفعل وجودها غير الثابت إذ أن بعضها باقية في البحرين لفترة مؤقتة جداً، وبعضها الأخر من الممكن أن ترجع إلى بلدها الأم حالما تتحسن أوضاعها المعيشية.
من الطبيعي أن تكون هذه الشريحة الوجهة المفضلة للرأسماليين المتوسطين والصغار لإستخراج أكبر قدر من القيمة الزائدة (حيث يوم عملها يمتد من 8 إلى 12 ساعة) بالنسبة إلى الأجور. ثم تحضر هذه الشريحة في القسم السفلي من الطبقة العاملة التي تسمى عادة في الأدبيات الماركسية بالبروليتاريا الرثة أو ما- تحت -البروليتاريا. وميزة هذا القسم هو أنه يكوّن الجيش الاحتياطي للصناعة، وغالبية هذا القسم تشكل ما يسميه ماركس “العمالة الكامنة”، حيث ليس لهذه الطبقة وجوداً طبقياً ثابتاً، وتتراوح ما بين مختلف الأعمال بمقابل أجر زهيد جداً.
ثانياً، ينتمي جزء آخر من هذه الشريحة للأقسام الدنيا من الطبقة البورجوازية الصغيرة التي تنحصر في: عاملات المنازل، والأسواق الكبيرة والمتوسطة والصغيرة، وعمال التوصيل، أو حتى في “الدكاكين”التي تمتلكها البورجوازية الصغيرة التي يعمل فيها عادة عامل واحد إلى ثلاثة عمال.
ضعوا في البال أنني استثنيت الأقسام المتوسطة والعليا من البورجوازية الصغيرة التي تحضر فيها هذه الشريحة ايضاً، لأنني أركز على الأقسام الدنيا التي يتفشى بينها الوباء بشكل سريع. من الواضح، حسب هذا التصنيف الذي قمنا به، بأن الاشتراكيين البورجوازيين الصغار يتخذون وجهة نظر شريحة الأرستقراطية العمالية البحرينية (تلك الشريحة التي قال لينين عنها بإنها: “ممثلة البورجوازية في صفوف الطبقة العاملة”، التي قد ايضاً تتضمن جنسيات مختلفة، حين يشمئزون من وجود هذه الشريحة من الطبقة العاملة، وفي ذلك يرفضون (أو للتلطيف: يفضلون ألا) يقيموا أي علاقة سياسية وإيديولوجية معها. وكم طريفة حججهم حين يقولوا لنا: “أي نعم! ولكن الوضع القانوني لهذه الفئات لا يسمح لهذا التواصل!”. بالفعل، يا لكم من اشتراكيين قانونيين جيدين!
حالما تفشى الوباء ما بين صفوف “العمالة الوافدة” أدان الجميع أسلوب حياتها، بينما الاشتراكيين البورجوازيين تملكت قلوبهم الرحمة قليلاً فأدانوا جزءاً واحداً من البورجوازية فقط لفرض هذا اسلوب الحياة على هذه الشريحة من الطبقة العاملة والبورجوازية الصغيرة. أيها السادة الإنسانيون الأعزاء، ليس أسلوب حياة هذه الشريحة من الطبقة العاملة، تلك “العمالة الوافدة”، هو الذي يسبب تفشي الوباء بشكل أكبر في البحرين. على العكس: النظام الرأسمالي الذي يستغل هذه الشريحة هو الذي فرض أسلوب الحياة هذا عليها مما يسبب تفشي الوباء بينها بشكل اسرع.
مرة اخرى، للاشتراكيين البورجوازيين حججاً طريفة حين يهاجمون الرأسماليين الذين يتعاملون مع عمال “الفري فيزا” لأنهم يفرضون أوضاعاً وحشية على هؤلاء العمال. لاحظوا! إنهم يهاجمون “بعض” الرأسماليين الذين – لأن ليس لهم أي قلب انساني مثلهم – ينشرون المظاهر السيئة للرأسمالية محلياً، لكنهم لا يهاجمون النظام الرأسمالي نفسه! ولعمري، لو كانت لديهم الجرأة الكافية لقالوا: “أوقفوا هؤلاء الرأسماليين عند حدهم، فأنهم يجلبون القاذورات إلى بلداننا!”. لكنهم، بطبيعة الحال، لن يقولوا ذلك. فليكن!
ما نحتاجه أكثر من أي وقت مضى هو نقد جذري للنظام الرأسمالي.
حين أقول نقد النظام الرأسمالي لا أقصد النقد الظاهري له؛ لا اقصد نقد مظاهره وحسب (ايّ أنماط التبادل والتوزيع له). هناك أبحاث ودراسات عديدة تكشف أشكال ظواهر الرأسمالية في الخليج، مثل حجج “الحداثة الممتنعة” أو “الخلل الإنتاجي” كما نجدها مثلاً عند مفكرين جادين مثل الدكتور باقر النجار والدكتور عمر الشهابي. أذكر هذين الباحثين لأن أعمالهما تتكامل مع بعضها البعض وتتناول مثل الموضوع بطريقتين مختلفتين برأيي. إن أعمالهما تقدم لنا معلومات دقيقة حول تاريخ الرأسمالية في البحرين، والخليج عموماً، وعلى ذلك أنصح أي باحث أن يطلع على أعمالهما. ولكنني أتساءل عما إذا كانت أطروحاتهما الجادة والمميزة ستشكل مدخلاً لكل سوء فهم لطبيعة النظام الرأسمالي في الخليج، بقدر ما تقوم بنقده.
مثلاً، حين نتحدث عن “الخلل الإنتاجي”، أيّ الإنتاج الخليجي القائم على التصدير أساساً، وفي ذلك يبني توجهاته الإنتاجية نحو إنتاج النفط فيما تصرف هذه العوائد على مناطق اقتصادية غير منتجة والتصدير غير المنتج؛ هذا الاستهلاك غير المنتج للقيمة الزائدة، أيّ استهلاك للقيمة الزائدة الذي لا ينصب في مصلحة تراكم رأس المال “الوطني” (ويذكرني ذلك بأطروحة بُل باران حول الكومبرادورية الخليجية غير المنتجة)، فإن هذا التحليل يتخذ وجهة النظر الذاتية “للإدارة الرأسمالية”في بلدان الخليج. ومهما حب الكاتب أن يقنعنا بأن نماذجه هي موضوعية، فإن هذه النماذج هي موضوعة من وجهة نظر التبادل لا الإنتاج، بالتالي وجهة نظر الذاتية لا الموضوعية. إن موضوع هذا النقد، في نهاية المطاف، هو هو موضوع نقد الحداثة الخليجية الممتنعة: العقلية التي تدير النظام الرأسمالي تنافي تطور الوسائل الإنتاجية (العقلية نفسها لا تستطيع أن تستغل عناصر الحداثة استغلالاً حداثياً)، أو في حالة نظرية “الخلل الإنتاجي”: العقلية التي تدير النظام الرأسمالي في الخليج ليس لها الإرادة في تطوير الوسائل الإنتاجية. يصبح “الخلل الإنتاجي”، في هذه الحالة، مصطلحاً غير ثابت، وبالتالي غير علمي، لا يعني سوى: خلل في إدارة رأس المال، ايّ خلل في العقلية المتسيدة مؤسساتياً التي تدفع نحو استهلاك غير منتج لرأس المال بدلاً من تراكمه، حيث يكون “الخلل الإنتاجي” نتيجة هذا كله لا العكس حسب هذه النظرية؛ وهذا هو موقع فيبر لا ماركس. وإذا حاولنا أن ندمج ما بين فيبر وماركس سنترك بصيغة مميزة: ماركس + فيبر = ماركس ناقصاً صراع طبقي، أو بالأحرى = فيبر + نقد النظام الرأسمالي (مما سيولد لنا شيئاً شبيهاً بالنظرية المؤسساتية عند بولاني).
مع ذلك، لقد حذرتْ هذه الأطروحات عامين من اليوم من أوضاع شريحة العمالة الوافدة من الطبقة العاملة والأقسام الدنيا من الطبقة البورجوازية الصغيرة، تحت حجج أكثر رصانة عما يقدمه لنا اليوم الاشتراكيون البورجوازيون، وقدمتْ اقتراحات لحلول مؤقتة ومعقولة تتسم بإصلاحية جادة لا بد أن نفكر بها جدياً: مثل إصلاح مفهوم المواطنة، وتشريك العمالة الوافدة في القرار السياسي والتمثيل الإيديولوجي، وتشريكها في التمثيل الاقتصادي، إلخ. ورغم أنها حذرت من امكانية تفاقم الأزمة الاقتصادية البحرينية نحو أزمة مديونية (وأنا شخصياً اتفقت مع هذا الرأي وقدمت تفسيراً ماركسياً لذلك في العدد 147 لنشرة التقدمي، في مقالة معنونة “محاولة في تفسير الحلم البورجوازي”، إلا إنها لم تنطلق من تشخيص صحيح لنظام الإنتاج الرأسمالي كما هو في الخليج، وهو النظام الإنتاجي الرأسمالي الكولونيالي. لكنني لستُ بصدد نقد هذه الأطروحات الآن، ولستُ بصدد طرح ما أعنيه بفرضياتي حول طبيعة رأس المال الكولونيالي.
لكن بإمكاني أن أقدم تعريفاً مقتضباً لما أحاول قوله (بربطه بموضوع المقال): افترض بأن شكل اقتران عناصر نمط الإنتاج الرأسمالي في البلدان الكولونيالية (الدول العربية، والآسيوية مثل كوريا الجنوبية وسنغافورة، والدول الإسكندنافية، وبعض الدول الأوروبية مثل دول أوروبا الشرقية واليونان وإسبانيا والبرتغال، وأمريكا اللاتينية) هو مميز نوعياً عن شكل اقتران نمط الإنتاج الرأسمالي في البلدان التي أصبحت إمبريالية. اقتران مميز سمح لتسيّد العلاقات الإنتاجية الرأسمالية فيها في حقبة مميزة جداً من الرأسمالية؛ مرحلة الصناعة التبعية. ولما كنت أفرق، تبعاً لماركس، ما بين الافتراضات – المسبقة المنطقية [voraussetzung] والافترضات – المسبقة التاريخية [historische Bedingungen]، فإنني بطبيعة الحال لا افترض الظروف التاريخية العرضية في المفهوم المنطقي لمفهوم رأس المال الكولونيالي؛ أنه يتضمن هذه الظروف، أو الافتراضات، التاريخية كأمر واقع في مفهومه.
على ذلك أفهمُ بأن رأس المال الكولونيالي يتميز مفهومياً بأنه يتضمن اتجاهين متعارضين ذا معدلين تراكمين (ايّ وتيرتين) غير متكافئين: اتجاه كومبرادوري (وفي ذلك أعني رأس المال التبعي الذي تكون دورة إنتاجه، وبالتالي قيمته الزائدة، تابعة بشكل مذيل لرأس المال الإمبريالي) واتجاه محلي (وفي ذلك أعني رأس المال الذي تكون دورة إنتاجه، وبالتالي قيمته الزائدة، محلية). ولأن هذا التعارض الداخلي دائماً حاضراً، بمعزل عن الظروف التاريخية الملموسة، فإنني افترض بأن رأس المال الكولونيالي يتميز بالتوسع المحدود داخل بنيته الاجتماعية وخارجها (على العكس من توسع رأس المال الإمبريالي غير المحدود). ولما كانت البحرين قد شهدت تشكل العلاقات الإنتاجية الرأسمالية الكولونيالية فيها منذ منتصف القرن التاسع عشر، وبهذا المعنى تسيّدت العلاقات الفعلية للرأسمالية الكولونيالية فيها منذ منتصف القرن العشرين مما ولد فيها رأس المال الكولونيالي يقوده بشكله التاريخي رأس مال حكومي أساساً، فإنني أفهم كل مظاهر الرأسمالية كمجرد مظاهر مذيلة لهذه الحقيقة الجوهرية.
ليست عقلية إدارة رأس المال البحريني هي سبب الوضع الإنتاجي القائم على إنتاج النفط والتصدير، بل الشكل المحدد للنظام الرأسمالي في البحرين هو الذي يجعل من وجود هكذا عقلية أمراً ممكناً. لما كان، بشكل ملموس وتاريخي، رأس المال الكومبرادوري (والذي يمثله بشكل أساسي رأس المال الحكومي) يتطور بوتيرة أكثر سرعة من رأس المال المحلي فإنه – بضرورة حال – من الطبيعي أن يميل حيثما تميل طبيعة إنتاجه الكومبرادوري (كما هو محدد من قِبل المرحلة الحالية من التقسيم العالمي للعمل) نحو إنتاج النفط في المقام الأول؛ بمعنى كون الريع التفاضلي للنفط البحريني بالتحديد هو ريع يتحقق بشكل مذيل لرأس المال الامبريالي. وبينما لاستيراد العمالة الوافدة أهمية اقتصادية بالنسبة إلى رأس المال البحريني ككل (كظروف الإنتاج والأجور المنخفضة)، إلا أنه محدد بشكل مضاعف سياسياً وأيديولوجياً بهدف ضرب وحدة الطبقات الشعبية.
إن النظام الرأسمالي نفسه يفرض لهذه “العمالة الوافدة” هذا الأسلوب من الحياة الذي يسمح لتفشي أسرع للوباء بينها. ولما ارتأى للاشتراكيين البورجوازيين أنه من الأفضل التخلص من هذه العمالة الوافدة، عبر توقيف رأسماليين معينيين عند حدهم، فأنه الأجدر بهم أن ينظروا للمسألة بطريقة مختلفة تماماً: النظام الرأسمالي الذي يخلق عند العمالة الوافدة أسلوب الحياة الذي يسمح لتفشي الوباء بشكل أسرع هنا، سيسمح لتفشي الوباء بشكل أسرع عند المواطنيين الفقراء في القرى والأحياء الفقيرة ايضاً بشكل سريع هناك. فالتباعد الاجتماعي ميزة طبقية قبل أي شيء آخر! المشكلة ليست في قسم من أقسام رأس المال، ولا في إصلاح القطاع الخاص (أو حتى تشريكه في إدارة رأس المال، وهذا مطلب ليس له معنى إذ أن الدولة الرأسمالية تمثل كل الرأسماليين)، بل المشكلة هي هي رأس المال ككل!
هذه المقالة لن تكون كافية لإثبات هذه القضايا كلها. ولهذا سيكون من الأجدر أن اكتفي بالتذكير بما كان يقوله الهائم لإيردا في أوبرا خاتم النيبولونغ:
استيقظوا!
من هذا النوم العميق استيقظوا!
أناديكم الآن:
من كهوف الأرض المخفية انهضوا!
من هذا السجن الذي رقدتم فيه طويلاً أنهضوا!