إذا كان الهم العلني الأول بالنسبة لكثير من البلدان هو الفساد، فإن الهم الآخر هو هذا التقاعس او العجز او عدم الجدية والجاهزية الكافية في مواجهة هذا الفساد، والهم الأكبر هو غياب الإرادة الحقيقية في محاربة الفساد، هذا ما يمكن ان يخلص اليه المرء وهو يقف ويتأمل ما خرج به تقرير مؤشر مدركات الفساد لعام 2017 الذي أعلنت عنه منظمة الشفافية الدولية يوم الأربعاء الماضي، وهي معلومات ورسائل قديمة متجددة نتلقاها كل عام وكلها تبعث على القلق الذي يتفاقم مع تعدد مظاهر الفساد في البلدان المبتلية بهذه الآفة الخطيرة التي يعلم الله كم هي شرسة، ومن واقع ووحي هذا التقرير أحسب انه يمكن ان نتوقف بمزيد من الصفاء أمام هذه الخلاصات والنتائج:
- تفشي الفساد يثقل كاهل أكثر من ثلثي دول العالم، وهناك دول لا ترحم الفاسدين حين ينكشف أمرهم، تعاملهم وبالقانون بمنتهى الحزم، لا يشفع لهم انهم من الكبار المحصنين او من الذين يعاملون على انهم فوق القانون، وان من يقترب منهم كمن يدخل عِش الدبابير..!!
- إن جهود معظم الدول تبقى متعثرة، وان ما تحقق على فيها صعيد محاربة الفساد بقي محتشماً الى درجة انها جهود تكاد ان تكون معدومة..!!
- إن الفساد لا يزال له حضور قوي في المنطقة العربية، وأساس هذا الفساد هو الفساد السياسي، وهو الذي دمّر بنيان عدة دول عربية، وإن 5 بلدان عربية هي الأكثر فساداً في العالم، هي الصومال وسوريا واليمن وجنوب السودان والعراق..!!
- إنه في ظل غياب الفصل بين السلطات وفي ظل عدم وجود مؤسسات مجتمع مدني قوية او مقيدة او مكبلة، وآليات فاعلة للمساءلة والحساب، ودون إصلاح سياسي ومؤسسي حقيقي، ودون وجود برلمانات لا تصب في خانة إضعاف الأسس التي تقوم عليها التجارب البرلمانية المعتبرة، فإن جهود مكافحة الفساد تكون عبثية، او مجرد تشدق في الكلام.
- إن المظهرية، والرغبة بالأبهة والترف وفقدان الشعور بحرمة المال العام وسوء الإنفاق في الموازنات السنوية، وسوء إدارة الموارد على نحو فعّال ورشيد للحصول منها على أفضل عائد يعمق من الفساد..!
- إن الدول التي تتصدر أعلى درجات الفساد هي التي تتدنى فيها مستويات حرية الرأي والتعبير وتتمتع بأدنى درجات الحماية للصحافة والصحفيين، وتُضيق على الحريات المدنية، وتكبل نشاط المجتمع المدني والمنظمات الأهلية، وتمنع الوصول الى المعلومات، وهو أمر يجعل واقع الحال الفاسد مقيم في هذه الدول يزداد قوة ورسوخاً الى ما لا نهاية..!!
- فيما يخص البحرين تحديداً، فقد احتلت الترتيب الأدنى خليجياً، المرتبة السادسة، و70 دولياً، والإمارات جاءت الاولى خليجياً و24 دولياً في مواجهة الفساد، وهو أمر يستوجب المراجعة والمعالجة والتصدي لمكامن الخلل الذي تسرب كل أشكال الخطأ والتجاوزات والفساد الى واقعنا، مع التأكيد على الحاجة الملحة بشكل استثنائي لارادة لمواجهة الفساد والفاسدين، ارادة تصر على بلوغ الهدف مهما كان الثمن او المصدر او المقام، وإلا سنظل نتحدث عن فساد من دون فاسدين، أليس هذا ما حدث ويحدث على وقع كل تقرير من تقارير ديوان الرقابة الذي نجده يُستقبل بخفة شديدة على كل المستويات ومن كل الأطراف التى يفترض انها معنية او مسؤولة، ما يضاعف من علامات الاستفهام والتعجب، علماً بان الإشارة الى تقرير ديوان الرقابة المدعوم عادة بالأرقام والأسانيد مثال ليس إلا..!!
يمكن أن نضيف الى ما تقدم، وهذا من وحي التقرير، وجود مجالس برلمانية شكلية او ديكورية لا تفعل سوى انها تخلق حالة من اليأس والاحباط، والأسوأ حين يمنع من يعدّون نواباً قيام عمل برلمانى له قيمة ومكانة واعتبار وهيبة، عمل لا يتحول فيه النواب الى «هتيفة» او «مطبلين» او «أعضاء جوقة» او «حكوميين أكثر من الحكومة» او «أهل هوى وغرض»، يمارسون ما يمكن ان يُعد تواطئاً مع الفساد، او تستراً على الفساد، والأسوأ حين يكونون حصيلة فساد، او مستفيدون منه، او من رموزه وحراسه..!
أعتقد انه يمكن بالنسبة لبرلماننا ونوابنا الربط بين وقائع شتى، كلها مسجلة وموثقة ويمكن الرجوع اليها في أي وقت وكلها إن كانت تعني شيئاً، فهي تعني في المقام الأول ان المعركة ضد الفساد أكبر مما نظن، والمعني مقرون بسؤال، هل يمكن التعويل على هذه النوعية من النواب في محاربة الفساد؟ وهو سؤال أترك إجابته لكم..!
أخيراً، ربما علينا أن نمعن في التوصيات التي خرجت بها منظمة الشفافية الدولية وهي تعرض تقريرها المذكور، كلها جديرة بالتوقف والتأمل، وهي في هذا السياق تدعو أولاً الحكومات الى تشجيع حرية التعبير وتعزيز وسائل الإعلام المستقلة، وعدم التضييق على المعارضة السياسية وإشراك المجتمع المدني بشكل منفتح، وتدعو ثانياً المجتمع المدني بذل مزيد من العمل لإخضاع الحكومات للمساءلة، وهي هنا تشير الى انه لا يمكن التصدي للفساد اذا كان هناك حيّز مدني محدود لمشاركة الناس او اذا كانت وسائل الإعلام مكبوتة عند الإبلاغ عن حالات الفساد، وفي توصيتها الثالثة تؤكد بأن يتوجب على البلدان أن تعطي الأولوية لقضايا الفساد لعلاقته الوثيقة بتحقيق أهداف التنمية المستدامة والحد من الرشاوى، وتدعو المنظمة في توصيتها الرابعة الحكومات للتقليل الى أدنى حد من اللوائح المتعلقة بوسائل الإعلام التقليدية والجديدة وعدم ممارسة أي نوع من القمع تجاه الصحفيين والإعلاميين.
لا نريد من تلك التوصيات ولا غيرها تضخيم مهمة التصدي للفساد بحيث نصل الى اليأس، ولا نريد في الوقت نفسه تبسيط المهمة بحيث نصل الى الخيبة والإحباط، خاصة ان هذا الموضوع يتصل بالمعضلات والتحديات التي تفرز تساؤلات تتوارد من كل حدب وصوب ومن بين أهمها ما يتمحور حول ما اذا كنا جادون حقاً في التغيير والإصلاح ومحاربة الفساد..؟.