كانت اليابان في نهايات الحرب العالمية الثانية في حكم المستسلمة أمام الحلفاء، ولم تكن هناك أي ضرورة عسكرية لقصفها بالقنابل النووية في هيروشيما وناجازاكي في أغسطس/ آب 1945.
صحيح أن رئيس وزراء اليابان سوزوكي تمنّع في حينه عن قبول إعلان مؤتمر بوتسدام المُطالب باستسلام اليابان استسلاماً كاملاً بدون أي شروط، لكن لم يكن الأمر يقتضي القصف النووي الذي أوقع الأهوال في صفوف المدنيين الأبرياء.
لم يكن هدف الرئيس الأمريكي يومها، هاري ترومان، إلحاق الهزيمة باليابان المنهزمة أصلاً، وإنما توجيه رسالة قوية للزعيم السوفييتي جوزيف ستالين بأن نهاية الحرب التي كان هذا الأخير هو أكبر المنتصرين فيها، لن تعني أن الدروب أمامه باتت سالكة.
قرأ ستالين الرسالة جيداً، لكنه لم ينحنِ أمامها، فكان أن جمع خيرة العلماء السوفييت وبصرامته المعهودة ووضعهم أمام الخيار الصعب الذي لا بد منه، وفي أقصر مدى زمني ممكن: اصنعوا قنبلة نووية سوفييتية.
وهذا ما كان، فقد استنفرت الأدمغة والمختبرات ولم يمض وقت طويل حتى نجح ستالين في تحقيق ما وصف من يومها: التوازن النووي، مفسداً بذلك خطة التفوق الأمريكي، التي أرسل الأمريكان الرسالة إليه حولها من خلال قصف اليابان.
ليس دونالد ترامب هو هاري ترومان وليس فلاديمير بوتين هو جوزيف ستالين، وليس الزمن هو الزمن نفسه. ولكن لو دققنا في الأمر، سنجد أن التفكير في البيت الأبيض وفي الكرملين ما زال هو نفسه.
الوافد الجديد إلى البيت الأبيض دونالد ترامب المأخوذ بفكرة أمريكا العظمى التي يرى أن صورتها اهتزت، يريد أن يثبت أن لديه من الحزم ما كان لدى هاري ترومان، حتى لو لم يبلغ الأمر مبلغ إلقاء قنبلة نووية على كوريا الشمالية مثلاً أو على غيرها من «الدول المارقة». والماسك بمقاليد الأمور في الكرملين فلاديمير بوتين ليس من طراز القادة الذين يملى عليهم، وهو الآخر مأخوذ بنموذج القادة السوفييت الذين كانت هزة إصبع الواحد منهم أمام طابور العرض العسكري في الساحة الحمراء تجعل العالم يحبس أنفاسه.
لذلك وبمجرد ان أعلن ترامب عن إلقاء القنبلة العملاقة التي قيل إنها تزن نحو أحد عشر طناً على موقع لـ «داعش» تحت الأرض في أفغانستان، قتلت منهم تسعين رجلاً، مطلقاً عليها لضخامتها وشدة فتكها ب «أم القنابل»، حتى أتى الرد من موسكو: «لدينا قنبلة أقوى منها بأربع مرات»، وفي مخاطبة مباشرة لواشنطن: إذا كانت لديكم أم القنابل فلدينا أبو القنابل.
أدرك بوتين أن التباهي الأمريكي بتلك القنبلة لم يكن هدفه ترهيب «داعش»، وإنما ترهيب موسكو، فحذا حذو ستالين في رده على ترومان.
أبو القنابل وأمها
قراءة مغايرة للواقع السياسي في البحرين
أولا: مرحلة ميثاق العمل الوطني
في بدأية عام 2001 وتحديدا في فبراير منه إنتقلت البحرين من حقبة قانون أمن الدولة “السيئة الذكر” إلى حقبة العهد الجديد عندما صوت شعبنا على ميثاق العمل الوطني في يوميي الرابع عشر و الخامس عشر من شهر فبرايرعلى ميثاق العمل الوطني باجماع شعبي، في حدث تاريخي لم تشهده البحرين من قبل، وقبل التصويت تم إطلاق سراح المعتقلين والسجناء السياسيين وعودة المنفيين وفيما بعد تم إلغاء قانون أمن الدولة.
هذهِ الحقبة في حياة شعبنا والحركة السياسية وتحديدا المعارضة شكلت نقلة نوعية وتاريخية وبالأخص عندما تم السماح للتنظيمات السياسية بأن تعمل بالعلن وإن كان تحت مسمى الجمعيات السياسية، وكانت تلك تجربة جديدة على الذين ناضلوا ونشطوا في ظروف العمل السري لعقود من السنين، وإذا بهم يعملون بالعلن تحت مظلة القوانين النافذة في الدولة.
أصبحت كل القضايا موضع نقاش وجدل تحت الأضواء الكاشفة، لم تعد هناك قيود تقف حاجزاً أمام كثرة التساؤلات، وقلة الإجابات، فهذا الواقع الجديد لم تتعود عليه المعارضة ولم تكييف معه بالاستفادة مما اتاحه من هامش، من جهة، والعمل على تطويره من جهة أخرى، خاصة وأنه كانت هناك قوى في الدولة ترفض الإصلاح السياسي والتغيير وتعمل على تعثره وتراهن على فشله.
كان على المعارضة قراءة ذلك الموقف السياسي بعمق وبوعي سياسي ناضج، وليس بشكل عاطفي بحيث لا تصبح شريكاً في انتكاسة العملية الإصلاحية من حيث تدري أو لا تدري لكي لا تدفع الثمن باهظا فيما بعد، كان عليها استيعاب تلك المقولة الفلسفية (بأن التراكمات الكمية تؤدى إلى تغيرات نوعية)، حيث تأخذ الموقف الواضح الذي سوف يحدد المسارات والخيارات والتحالفات في السنوات اللاحقة، بدل من أن نأتي اليوم ونتوقف أمام (التراجعات الحادثة في المشهد السياسي الراهن)، ونحن لا نستطيع أن نفعل شيئاً لوقف ذلك التدحرج المتسارع .
وبسبب عدم تمكن المعارضة من التعاطي مع تلك المستجدات والأحداث طوال الخمس عشر سنة الماضية، زادت الأمور تعقيدا ونحن نعلم بأن الطريق لم يكن سالكاً لها في كل المحطات بل وجدت العديد من المطبات والصعوبات وهي التي كان عليها أن تحقق شيئاً من برامجها السياسية .
هل قرأت الواقع المحلي والإقليمي بشكل صحيح ودقيق، هل تمت الاستفادة من تجربة أحداث فبراير/ مارس 2011 والشرخ الوطني الذي حدث نتيجة تلك الأحداث، هل تم تقييم ومراجعة تلك الفترة التاريخية في حياة الشعب والوطن، رغم معرفتنا بحجم الانتهاكات لحقوق الإنسان والممارسات المشينة التي حدثت للعديد من المواطنين ولازالت تداعياتها مستمرة.
في المنبر التقدمي أصدرنا الوثيقة النقدية بعد أحداث فبراير/ مارس 2011، التي شخصت واقع الأحداث والأخطاء التي برزت مما ساعد على الانشقاق والفرقة في المجتمع، وتوقفنا مطولا أمام عدم تمكن القوى الديمقراطية والتقدمية من توحيد صفوفها وطرح مرئياتها السياسية بصفتها قوى عابرة للطوائف ومختلف المكونات الفرعية.
في الاخفاقات والأخطاء السياسية تتحمل القيادات السياسية المسؤولية وعليها ممارسة النقد والنقد الذاتي، لتعرف أين أخطأت وأين أصابت، و تنظم الورش والحلقات الداخلية في الأطر التنظيمية لتقييم الوضع السياسي والخروج بحلول واقتراحات تلامس الواقع.
ثانيا : التيار الوطني الديمقراطي
في الأشهر الثلاثة الماضية نشطت جمعيات التيار الديمقراطي من أجل المزيد من التنسيق بينها، حيث تمكنت من إقرار الوثيقة السياسية للتيار وعلى أثرها تم اللقاء مع العديد من الشخصيات والفعاليات الوطنية التي تجاوبت مع ما جاء في الوثيقة ، كما أصدرت جمعيات التيار: (التقدمي ووعد والقومي)، العديد من البيانات المشتركة ونظمت الندوات والفعاليات الوطنية بصورة جماعية مما يؤكد حرص الجميع على إنجاز مهمة وحدة التيار الديمقراطي التي تأخرت طويلاً.
قبل سنوات نشرت مقالاً عن الدولة المدنية الحديثة الديمقراطية ، أقرأ هنا جزء منه :
“عندما يبشر التيار الديمقراطي بفكرة قيام الدولة المدنية الحديثة والديمقراطية، فإنه يطرحها على أسس متينة وراسخة من خلال قيام المؤسسات الدستورية ووجود الأحزاب السياسية المدنية ومنظمات وهيئات المجتمع المدني القوية القادرة على التصدي للقوى الرجعية والتخلف والردة في البلاد، وهذا يتطلب وجود قوى ديمقراطية قوية وموحدة في المجتمع فهي صاحبة المصلحة الأولى في الدفاع عن أسس ومبادىء الدولة المدنية الحديثة التي تؤمن بالتعددية السياسية والفكرية وتطلق العنان لحرية الراي والتعبير، بما في ذلك في وسائل الإعلام بكل تنوعاته، وتتعزز فيها الحريات العامة والشخصية، وتنتفي فيها مفاهيم الإقصاء وإلغاء الرأي الآخر، ومن أجل مجتمع يتسع لجميع أبناءه ويضمن حقهم في الحرية التامة في التفكير والإبداع، ويحمي التنوع والتعددية في الثقافات والأفكار وأنماط العيش، ولا يحجر على الأفكار والقناعات للأفراد والجماعات المدنية ولا تتأسس فيه محاكم التفتيش لتحاكم الرأي والفكر والثقافة.
ثالثا: الوضع البحريني مرتبط بالوضع في المنطقة العربية
تعيش المنطقة أوضاعا سياسية في غاية السوء نتيجة لغياب الديمقراطية وانعدام الحريات العامة، وهذا يعود لأسباب عدة ، منها فقدان الثقة ما بين الشعوب والأنظمة السياسية الحاكمة، الحروب الأهلية والقبضة الأمنية، بروز تيارات الإسلام السياسي المتطرفة التي تمارس العنف والقتل والإرهاب ضد الأبرياء من المدنيين في العديد من بلدان المنطقة، تزايد العصبيات المذهبية والعرقية، غياب الوعي الثقافي والسياسي، التدخلات الأجنبية في شؤون المنطقة والتواجد العسكري الإمبريالي المتزايد فيها، بدل أن يكون خليجنا بحيرة سلام ووئام يتحول إلى بحيرة حرب ودمار، على صعيد بلادنا ترتفع إسهم الخيار الأمني على حساب الحل السياسي الشامل الذي يضع بلادنا على السكة الصحيحة المؤدية إلى التحولات الديمقراطية والمواطنة المتساوية ، العدالة الإجتماعية واحترام حقوق الإنسان .
ويزيد من ضرورة ذلك تردي الحالة الاقتصادية وتراجع الوضع الاقتصادي، خاصة مع استمرارتدهور اسعار النفط الذي يمثل اكثر من 85% من دخلنا الوطني والزيادة غير المسبوقة في الدين العام وتوقف او تأجيل العديد من المشاريع الحيوية، وما نشهده من تردي مستوى القطاعات الخدمية كالاسكان والتعليم والصحة والبنية التحتية.
كما ان تضخم الرقم الحقيقي للبطالة في ظل تراجع الاستثمارات والفرص أمام الشباب وهذه حالة تعيشها المنطقة الخليجية والعربية بشكل عام إلا ان تأثيرها علينا في البحرين بات محسوسا ومؤثرا جدا، وهذا مؤشر يجب عدم اهماله لأن له دوافع وارتدادات امنية واجتماعية لا شك اننا جميعا نتلمسها ونراها بالعين المجردة ومن الخطأ الفادح الهروب بعيدا عنها.
بالامكان التغلب على الكثير من مشاكلنا القائمة عبر تحقيق الجدية المطلوبة في مشروع الشراكة الوطنية وهذا يتطلب تحقيق جملة التفاهمات وتحديد أولويات المرحلة القادمة وعدم الاستسلام لانتظار الحلول التي تنتظرها قضايا المنطقة فهذا الأمر من شأنه ان يعقد الأمور اكثر مستقبلا. نحتاج لرحابة صدر وحكمة من الجميع تخرجنا من حالة المناكفة والالغاء والانقسام والتي يعرف الجميع ان منشأها كان سياسيا في الأساس وتسبب في حالة مدمرة من الانقسام والتنافر وتعميق انعدام الثقة والتباعد بين مختلف الأطراف، وهنا كم نحتاج للحكمة والموضوعية وأن يوظف الإعلام بشكل يساعد في العبور نحو واقع أكثر إيجابية وليس كما هو حاصل الآن، فالاعلام من صحافة وتلفزيون ووسائل تواصل اجتماعي لا يساعد أبداً في الوضع الراهن للخروج الى اجواء ايجابية ولابد من لجم القوى المستفيدة من تأزم الأوضاع فمستقبل الوطن أهم وأغلى من ان نضيعه في مهاترات اعلامية وصخب مدمر.
اما بالنسبة للخطاب السياسي والاعلامي للجمعيات فيجب ان يتفهم طبيعة الأزمة بصورة تختلف عما كان عليه الوضع عندما بدأت، وهنا يمكن القول ان المراهنة على المراجعات والمقاربات التي يجب ان تقوم بها الجمعيات المعارضة والقوى السياسية بشكل عام هي التي ستقود لخلق تفاهمات ووعي يتسم بايجابية ينتظرها الجميع ، بل لابد من القول ان استعادة الثقة ايجابية تساعد على الخروج من حالة التأزم، وهذا الأمر مرتبط بمدى مرونة وايجابية الخطاب الرسمي .
إن صلب القضية الوطنية هوالشراكة في صياغة قرارنا الوطني وفي تحقيق العدالة واحترام حقوق الإنسان وتبقى التفاصيل في كل تلك المسائل مرتبطة بالقدرة على تقديم المصلحة الوطنية واحترام المواطنة والدستور وما توافق عليه الشعب في ميثاق العمل الوطني وما تلزمنا به تعهداتنا الدولية.
رابعاً: كيفية استعادة الثقة
كل تلك الامور التي اسلفناها تبقى أساسا مهما لاستعادة عوامل الثقة بين أبناء الشعب الواحد، فالمراجعات في الخطاب السياسي مهمة ولجم الاعلام المنفلت ضرورة وخلق أجواء اكثر ايجابية وتعزيز مشاريع الوحدة الوطنية قولا وعملا وممارسة على الأرض تبقى على جانب مهم من حالة التعبئة الايجابية المطلوبة .
لا يجب أن يتخوف احد من الحل السياسي الذي يحقق العدالة للجميع ويسير بالوطن للأمام ويخدم الحاكم والمحكوم على قاعدة الانتماء للأرض والوطن واحترام المواطنة ورفض أي مغالبة أو تدخلات خارجية فلكل يريد الحل السياسي، هناك ضوابط والتزامات يمكن التوافق حولها والتدرج فيها ورسم مراحل لبلوغها بحيث تتعزز عوامل الثقة وتترسخ مسؤليات الأطراف المعنية مع الوقت.
الإسلام السياسي والديمقراطية
ما يميز الحداثة في البلدان العربية أنها مشوهة أو كما يقول المفكر عزمي بشارة انها غير عضوية، تطورت بناء على جدول أعمال “الآخرين” لا بناء على جدول أعمالنا أو حاجاتنا، والشكل الذي اتخذته هذه الحداثة هو الرسملة المشوهة والهجينة لعلاقات الإنتاج، مما أدى إلى قيام رأسمالية غير منتجة، كومبرادورية تابعة بالتصدي لمهمات التحديث جنباً إلى جنب مع بيروقراطية ورأسمالية دولة (قطاع عام) ما لبثت أن فشلت في أداء مهماتها بانتهاء مرحلة التراكم الأولى. لقد حطمت العلاقات الريفية دون أن يحل محلها نظام رأسمالي أو اقتصاد صناعي يستوعب الهجرة إلى المدينة.
وفي الوقت نفسه أدت الحداثة وعملية التثاقف مع الغرب والتحول إلى سوق لبضائعه إلى انتاج حاجات لا يستطيع النظام الاجتماعي / الاقتصادي القائم تلبيتها؛ فالحداثة في شرقنا تنتج الحاجات، وتنتج عدم القدرة على تلبيتها في الوقت ذاته، ويزيد من حدة هذه الظاهرة العظيمة الأثر ازدياد تأثير وسائل الاتصال ودخولها إلى كل بيت بشكل لم يعد بالإمكان أن نتعامل معها كأنها موضوع ثانوي أو جزء من المبنى الفوقي، بل تعامل أساسي ينتمي اقتصادياً إلى المبنى التحتي للمجتمع ويساهم بشكل مباشر في تشكيل شخصية الإنسان المعاصر.
وإلى جانب ذلك يشير بشارة إلى أن ما يميز الإسلام السياسي عن المؤسسة الدينية هو رفضه المطلق للواقع الذي أتت به الحداثة. فالإسلام السياسي ليس محافظاً او مدافعاً عن الواقع القديم فحسب، بل انتقل إلى الهجوم لتوحيد عالمين يبدوان له انهما منفصلين: الدين والدولة، القداسة والسياسة.
في بحثه “مدخل إلى معالجة الديمقراطية وأنماط التدين ” كتب بشارة أن تزامن أفكار حسن البناء في مصر حول إعادة بناء الخلافة الإسلامية والأمة الإسلامية مع أفكار علي عبد الرزاق الإسلامية أيضاً الرافضة لاعتبار الخلافة اصلاً اسلامياً من أصول الحكم والمتقبلة عملياً فصل الدين عن الدولة، لم يكن مجرد مفارقة تاريخية فالعملية نفسها التي أدت إلى فصل الدين عن الدولة في الطرح الفكري (وليس في الواقع فحسب) أدت إلى طرح فكر مضاد.
وهذا يعني على حد رأيه – إن التيارات الأولى في الفكر الإسلامي السياسي لم تبتعد كثيراً عن تيارات الإصلاح الديني في حينه، وإن كانت تظهر بوادر للأصول الراديكالية، إلا انها كانت أكثر اعتدالاً في موقفها من القومية العربية ومن الديمقراطية بالشكل النيابي المبتور الذي طرحت فيه في تلك الفترة من الحركات الأصولية في السبعينيات والثمانيات.
لم يكن حسن البناء معادياً بل مجنداً في مصر في فترة ما بين الحربين كما انه لم ير في القومية العربية عدواً لدوداً بل كان يراها خصماً يجب تحويله إلى مكمل وحليف في الصراع من أجل اقامه الدولة الإسلامية.
وبشيء من التوضيح يرى باحثنا مرحلة الصراع العنيف مع التيارات القومية العلمانية التي تبنت خطاباً سياسياً تحررياً وشيدت رأسمالية الدولة اقتصادياً وأنظمة المجالس الثورية والحزب الواحد سياسياً تمخضت عن نوع جديد من الإسلام السياسي يصطلح المؤرخون على انهاء مرحلة انتقال أفكار أبي علي المودودي في الوطن العربي ومنعطف سيد قطب في تاريخ الإسلام السياسي.
ولقد أفرز هذا التحول في الحقيقة تيارين:
- تيار طور اتجاه سيد قطب إلى نهايته القصوى من حيث تكفير المجتمع والحاكم المسلم واعتبار الجاهلية حالة عقلية (حالة زمنية) والهجرة من هذه الجاهلية لإقامة المجتمع الإسلامي المصغر الذي يعد العدة لتحرير المجتمع الأكبر بالجهاد وقد أفرز هذا التيار جماعات العنف على أنواعها!
- تيار الحركات الإسلامية التي تعيش فترة ارتداد إصلاحي تحاول فيها البحث عن حلول وسط مع الأنظمة تمكنها من العمل العلني وحلول وسط مع مطالب الحركة القومية التاريخية، فقد علمتها التجربة أن المواجهة مع هذه المطالب تعني عزلة جماهيرية. وقد ساعد على بروز التيار الإصلاحي داخل الحركات الإسلامية بروز موضوع الديمقراطية وشرعية ومشروعية السلطة كموضوع يشغل الانتخابات في العالم الثالث خاصة بعد انهيار المعسكر الاشتراكي العالمي كما ساهمت في ذلك أزمة الثورة الإيرانية وكذلك انهيار وانعدام شعبية الحكومات الدكتاتورية التي دعمها الإسلاميون (باكستان – السودان) على سبيل المثال.
وفي مقابل ذلك يقول لقد ترافقت هذه العملية بانتقال وربما هجرة للمثقفين العلمانيين القوميين واليساريين إلى المواقع الإسلامية باعتبارها الخيار الحضاري في مواجهة الغرب الاستعماري، لقد نقل أولئك إلى صفوف الحركات الإسلامية أو الادبيات الإسلامية على الأقل بعض الأفكار الأكثر تطوراً وديمقراطية ومع ذلك يتحول موقف الإسلام السياسي من الديمقراطية إلى موقف تكتيكي خاضع للمرجعية الإسلامية، فاجتهاد حركة إسلامية من اجل الديمقراطية لا ينفي اجتهاداً آخر ضد الديمقراطية اذا اقتضت المصلحة!
والأمر الأساسي هنا ان مشروعية الديمقراطية بموجب هذا النهج من التفكير لا تختلف عن مشروعية عدائها وتكفيرها والمقدس الوحيد هو النص أو “الإسلام”، يتعارض هذا الموقف تماماً مع الديمقراطية فيما لا يجوز تجاوزه في حالة الالتزام بالنظام الديمقراطي هي “مقدسات” أخرى مثل: المساواة أمام القانون وحرية التعبير والتعددية وحق الانتخابات العام والموقف الديني السياسي في هذا الاطار يعتبر مجرد رأي، أما بالنسبة إلى من يقبل الديمقراطية كنوع من التكتيك فحسب فإن الديمقراطية بحد ذاتها هي رأي مشروع تتفاوت مشروعيته بتفاوت التفسيرات للثابت المقدس وهو “النص” “الشريعة”…..الخ.
ويستطرد بشارة موضحاً: وتبرز غالبية الأدبيات الإسلامية المشاركة في الانتخابات البرلمانية بهدف واحد وهو المحافظة على الشريعة في الدولة، ويقصر التيار الغالب في الإسلام السياسي التعامل مع الديمقراطية على الجانب السياسي معتبراً هذا الجانب مقبولاً بدرجات متفاوتة، ثم يعود إلى تقييد هذا الجانب ايضاً بحكم الشريعة (تجربة مصر في عهد الرئيس المخلوع مرسي).
ومن الأمثلة أيضاً لا يقبل القرضاوي أي من أسس الديمقراطية وهو يحدد هذه الأسس بالعلمانية بمعنى فصل الدين عن الدولة؛ واطاعة القوانين الأجنبية الوضعية والحرية الشخصية بالمفهوم الغربي وخاصة حرية المرأة في التبرج والاختلاط، ولا يختلف الحال بالنسبة للإسلام السياسي الإيراني فهو يعارض الديمقراطية وحقوق المرأة وتحديث المجتمع بمرجعية متشددة خاضعة لحكم الفرد في ظل نظام ولاية الفقيه الذي يتعارض تماماً مع قيم الديمقراطية!
إذا كانت الأنظمة القمعية في البلدان العربية تعطل الديمقراطية بأحكام جائرة، فإن الإسلام السياسي بكافة أشكاله ومرجعياته يعتبر الديمقراطية وسيلة للوصول إلى الدولة الدينية التي تنطلق من طقوس ومقدسات ماضوية تفرض قيم الماضي على الحاضر والمستقبل!
قراءة في واقع الحركة النقابية البحرينية (14)
تناولنا في الحلقة السابقة النهج الذي اتبعته اللجة التحضيرية لفرض الأمر الواقع وفق الأجندة الموضوعة لتأسيس الاتحاد العام لنقابات عمال البحرين والآليات التي اتبعتها، وكل ما تم الاتفاق عليه في اللقاءات التي تمت بين الكوادر النقابية ورئيس اللجنة التحضيرية واللقاءات المكوكية التي قام بها ممثل منظمة العمل الدولية مع الطرفين، كان لكسب الوقت وإلهاء الكوادر النقابية عن ما يدور وما يخطط لاتجاه سير عمل المؤتمر.
ومع اتضاح ما كان مبيتا لأعمال المؤتمر التأسيسي وفي الفترة القصيرة المتبقية لانعقاده، اتسعت الهوة بين الطرفين وتفاقمت الخلافات مجددا بين النقابيين وانعكست بصورة مباشرة على العمل النقابي ومجريات الأحداث وعلى رأسها مشروع تأسيس الاتحاد العام لنقابات عمال البحرين هذا الحدث الذي كانت تتطلع إليه الطبقة العاملة البحرينية وتترقبه وكل آمالها أن يتكلل أعماله بالنجاح والسير قدما من أجل تحقيق أحلام وطموحات عمال البحرين في تأسيس حركة نقابية قوية متماسكة تدافع عن حقوقهم وتحسن ظروف معيشتهم وصيانة مصالحهم ومكتسباتهم وتوحد صفوفهم وجهودهم من أجل تحقيق العدالة الاجتماعية وحياة حرة كريمة.
إعلان عن قيام كتلة الوفاق والعمل الوطني في المؤتمر
فقد كان المناخ العام والأجواء التي خيمت على مجريات المؤتمر التأسيسي جمعت بين خطاب نقابي مليء بالشعارات والمباديء العامة حول الديمقراطية والاستقلالية والوحدة وبين شعارات التهديد والوعيد ضد كل من يحاول “شق الحركة النقابية” التي كانت تردد بعبارات مختلفة “سوف نقبر” و”سوف نقوض” و”سوف نضرب بيد من حديد” وغيرها من العبارات التي كانت تجييش القاعدة العمالية ضد كل من لا يتفق مع توجهات كتلة الوفاق والعمل الوطني، خاصة وأن هذه الكتلة بانت ومنذ اليوم الأول للمؤتمر أنها قادرة وبالأغلبية التي بحوزتها على تمرير كل مواد النظام الأساسي بالصيغة التي ترتضيها وتستحوذ على كل مقاعد الأمانة العامة. ومع الأغلبية التي تمتاز بها هذه الكتلة وضمانها لتحقيق أجندتها، كنا نتوقع أن تمارس الديمقراطية بشكل حضاري خاصة وأن الأمور حسمت بمجرد الإعلان عن قيام الكتلة ولكن ما حدث ومن وقائع المؤتمر بدى واضحا أن الإقصاء والتهميش هو الأسلوب الذي أتبع بحق الكوادر النقابية (المعارضة) التي حاولت جاهدة تقديم الاقتراحات والتوصيات من أجل تطوير النظام الأساسي بما يخدم الحركة النقابية والعمال.
وللتدليل على ذلك كان الموقف من الاقتراحات المقدمة يتحدد بالأشخاص الذين يقدمونه وليس بمحتواها. فكلما قدم اقتراح كان المندوبين يسألون عن مقدمه وبناء عليه يتخذ الموقف منه. حقا لقد غاب العقل والإرادة الحرة للعمال في المؤتمر التأسيسي وحل محلها الموقف الأعمى حسب التوجيهات الصادرة عن الكتلة. ومن المقترحات المقدمة التي اسقطت، اقتراح بتشكيل لجنة تنتخب من المؤتمر مباشرة تكون مهمتها تسلم التقرير المالي والأدبي من الاتحاد العام لعمال البحرين ودراستها ومن ثم تسليمها للاتحاد العام لنقابات عمال البحرين كعهدة وإبراء الذمة. والغريب أن هذا الاقتراح يسقط بحكم الأغلبية التي تمتلكها الكتلة ويتم في اليوم الثاني استدراك أهمية تسلم العهدة وإبراء ذمة الاتحاد السابق وتقديم اقتراح بإيكال هذه المهمة للجنة الرقابة المالية المنتخبة من المؤتمر.
كان هناك أيضا اقتراح بإلغاء لجنة التنظيم الداخلي لتداخل مهامها مع مهام المجلس المركزي وفي ظل هذه الظروف قررت الكوادر النقابية سحبه للقناعة بأنه سوف يسقط بالتصويت كغيره من الاقتراحات. وأثناء المداولات في أروقة المؤتمر بين النقابيين استدركت الأغلبية صحة الاقتراح وضرورة إلغاء هذه اللجنة وتم خلال دقائق توجيه المؤتمرين بالتصويت لصالح إلغاء اللجنة وإحالة كل المهام الواردة في اللائحة الخاصة باللجنة إلى صلاحيات المجلس المركزي.
اقتراح آخر بزيادة عدد اعضاء الأمانة العامة إلى 15 عضوا الذي أسقط على الفور بتصويت الأغلبية من غير مناقشته والأسباب كانت معروفة وهي عدم الإخلال بالتوازنات السياسية داخل الكتلة.
من ضمن الاقتراحات التي قدمت من قبل الكوادر النقابية وكان مصيره السقوط اقتراح كحل وسط بين الكتلتين فيما يتعلق بانتخاب الأمانة العامة، وهو كما قدم “كون مؤتمرنا هو مؤتمر تأسيسي ولإنجاحه فأن الاقتراح هو أن يتم انتخاب الأمانة العامة من المؤتمر التأسيسي لهذه الدورة فقط على أن يتم تزكية أعضاء المجلس المركزي من قبل المؤتمر ويمنح صلاحيات المؤتمر ومنها محاسبة الأمانة العامة وحجب الثقة إن لزم الأمر”.
لقد كان مصير هذا الاقتراح كبقية الاقتراحات التي قدمت من خارج الكتلة المهيمنة وهو السقوط ولكن المفارقة أن جميع الأيدي في باديء الأمر رفعت لصالح الاقتراح ولم يمض وقت قصير حتى تم التلويح بالأوراق الصفراء من قبل أقطاب الكتلة كإشارة للمندوبين بإسقاط المقترح وفعلا تم ذلك وفي أقل من دقيقة بنزول الأيدي مما يدل على أن الإرادة الحرة للمندوبين كانت غائبة والإملاءات كانت حاضرة.
لو أن الاقتراح نجح لضمنّا على الأقل وكأضعف الإيمان أن نخرج من المؤتمر بهيئتين تملك صلاحياته وهما الأمانة العامة والمجلس المركزي وتجاوزنا مبدأ التعيين وأن يبدأ الاتحاد بممارسة مهامة بكامل هيئاته على غير ما هو حادث الآن حيث يعمل الاتحاد بهيئة واحدة وهي الأمانة العامة.
أثناء أعمال المؤتمر التأسيسي صرح لنا بعض النقابيين المحسوبين على الكتلة أثناء انعقاد جلسات المؤتمر أنهم يتفقون معنا في صحة مواقفنا وأطروحاتنا التي أعلناها من خلال مقتراحاتنا ولكنهم لم يكونوا قادرين على اتخاذ موقفا مخالفا لتوجهات الكتلة!! وهو ما يكشف أن قرارات المؤتمر التأسيسي لم تتخذ بإرادة المندوبين الحرة ومن منطلق القناعة وإنما من إملاءات خارجية أثرت على كل مجريات المؤتمر وهو جوهر تحفظاتنا عليها والتي أبديناها لرموز هذه الكتلة في حينه.
ظروف تشكيل تجمع القابيين الديمقراطيين
وخلال انعقاد المؤتمر كانت الكوادر النقابية المستقلة تتحاور مع أعضاء الكتلة المهيمنة على أعمال المؤتمر تعمل جاهدة للوصول إلى تفاهمات حول بعض مواد النظام الأساسي، وكانت تعقد اجتماعاتها أثناء فترات الاستراحة لتدارس ما يمكن عمله في المؤتمر لوقف بعض القرارات التي قد تؤدي إلى نتائج سلبية فيما لو تم اتخاذها، ولكن دون جدوى فالأمور قد حسمت من قبل الكتلة في اتجاه المضي قدما لما تم رسمه للمؤتمر التأسيسي وشكل الاتحاد القادم، وهو ما خلق شعور بخيبة الأمل والاحباط كان يدفع أكثر فأكثر في اتجاه المواجهة والتصعيد، وخرجت بعض الأصوات التي بدأت تنادي بالانفصال عن هذا الاتحاد والبدء العمل في تأسيس اتحادا آخرا وعدم الانصياع لهذه الكتلة وتوجهاتها.
لقد كان الأمر في غاية التعقيد والسؤال الذي طرح نفسه وبرز على السطح هو ما العمل؟ واستمر هذا الحال إلى ما بعد انتهاء أعمال المؤتمر وقيام الاتحاد العام لنقابات عمال البحرين، حيث تكثفت اجتماعات الكوادر النقابية وتواصلت بشكل يومي لتدارس ما يمكن القيام به، وفي هذه الأثناء بدأت الأصوات المنادية بالانفصال تتزايدت وأصبحت أكثر حدية.
استمر هذا الحال إلى مدة ثلاثة أسابيع كانت خلالها الكوادر النقابية تجتمع بشكل مكثف وبشكل يومي يتداولون فيما بينهم مختلف السيناريوهات المحتمل اتخاذها، وبدأت تتبلور فكرة تشكيل كتلة نقابية تضم كوادر نقابية مستقلة تعمل في إطار الاتحاد العام ولجانه المختلفة تراقب مساره وتنتقده إذا ما كان خاطئا وتطرح رؤاها في مختلف جوانب العمل النقابي. هذا ما تم في اجتماع بتاريخ 5 فبراير 2004م ضم مختلف الكوادر النقابية التي توحدت إرادتهم في سبيل العمل النقابي الجاد والمخلص للقضايا العمالية، وجاء في الإعلان عن قيام تجمع النقابيين الديمقراطيين:
“نعلن نحن النقابيون الديمقراطيون فى هذا اليوم الموافق (5 فبراير 2004م) قيام هذا التجمع الذى يشكل اطارا عاما لجميع المؤمنين بحرية العمل النقابى بعيدا عن انتماءاتهم الفكرية او السياسية او الطائفية او الاثنية ليكون هذا التجمع لجميع الذين يناضلون من اجل الحقوق العمالية والنقابية وصيانتها من اية تجاوزارت او تدخلات، بما يعزز ويرسخ استقلالية القرار النقابى ..
إن تجمع النقابيين الديمقراطيين يرفض المبدأ الذى يسعى لتحويل النقابات العمالية الى مجرد جماعات منفذة لأوامر وتعليمات او توجيهات سياسية او طائفية او فئوية، مما يتسبب في جمود أداء وفعل القيادات النقابية، وتبعدها عن المساهمة الفعلية في الحياة النقابية، وتؤدي بدورها الى سيطرة النزعة الفردية في العمل النقابى، ويحل التسلط محل الاقناع، ويجعل الاصلاح في بنية التنظيم النقابي مستحيلا، الامر الذى يحتم على تجمع النقابيين الديمقراطيين العمل لتأكيد وتعزيز الوعى بالحقوق النقابية والمعاشية للعمال وبأهمية الحياة الديمقراطية فى مؤسسات العمل النقابى ..
ان التاريخ النضالى لحركتنا النقابية يجعلنا نحن النقابيين الديمقراطيين ندرك أن جميع المقولات والشعارات حول استقلالية وحرية التنظيم النقابى لن تتحقق ما لم يتصدى العمال لتلك التجاوزات التى قد تحصل بسبب غياب الآليات والهياكل الدستورية التى تعزز دور النقابات واستقلالية قرارها النقابى، وهى شعارات تتوقف على الصيغ التنظيمية للحياة النقابية الداخلية من خلال الاطر والآليات التى تاخذ بمبدأ إحترام الارادة العمالية المستقلة من خلال الفهم الصحيح لآليات العمل النقابى التى تستند على المبادئ الاساسية لحرية العمل النقابى بعيدا عن الهيمنة السياسية او تدخلاتها وإملاءاتها لفرض إرادتها على القرار النقابى.”
أصدر تجمع النقابيين الديمقراطيين بيانا توضيحيا لمواقفه ودوره في الحركة النقابية مؤكدا على أن قيام تجمع النقابيين الديمقراطيين جاء كضرورة موضوعية فرضتها ظروف العمل النقابي في البحرين التي حتمت وجود إطار يجمع العمال والنقابيين على اختلاف انتماءاتهم العقائدية والفكرية والدينية والطائفية دون تمييز توحدهم القضايا العمالية والهم النقابي والوطني، إطار يضع على عاتقه مهمة مراقبة المسار النقابي ودعمه بكل الطاقات سواء بتثبيت النهج الذي يخدم مصالح العمال أو بالنقد لإصلاح أي اعوجاج في المسار النقابي. إطار يرسخ مبدأ احترام الرأي والرأي الآخر وضمان حقوقه وحرية التعبير وعدم التهميش والإقصاء، ويؤكد على أن الاختلاف في العمل النقابي هو من مظاهر وجوده وتطوره ومن أسباب حيويته وتقدمه ونموه وتحسينه.
وانطلاقا من ذلك فأن تجمع النقابيين الديمقراطيين كما أعلن في بيان تأسيسه سوف يستمر في التعبير عن موقفه الناقد والمعبر عن مصالح العمال ويعمل من أجل نشر الديمقراطية في ممارسات الحركة النقابية وفي مختلف هياكلها ومستوياتها ساعيا لبناء حركة نقابية مطلبيه حرة مستقلة موحدة ديمقراطية. كما يرفض التجمع المبدأ الذي يسعى لتحويل النقابات العمالية إلى واجهات منفذة لأوامر وتعليمات أو توجيهات سياسية أو طائفية أو فئوية ، مما يسبب جمود أداء وفعل القيادات النقابية لارتهان إرادتها بإملاءات خارجية بعيدة عن المصالح العمالية والحياة النقابية، ويعمل من أجل ترسيخ وحدة الحركة النقابية والتصدي لكل محاولات النيل منها ومحاولات تهميش دور النقابات والنقابيين خاصة نقابات القطاع الحكومي التي تعاني من عدم اعتراف أجهزة الدولة بها وعدم التعامل معها مما يحرم قطاع كبير من الطبقة العاملة من حقهم في الدفاع عن حقوقهم وتحسين ظروفهم.
وقد أعلن التجمع في بيان تأسيسه عن الأهداف التي يعمل من أجل تحقيقها وهي:
- تعزيز الانتماء الوطني من خلال استقلالية القرار النقابي من كل التدخلات السياسية والهيمنة الطائفية والفئوية.
- الإيمان بحرية الرأي والرأي الآخر الذي يعزز الوعي بالحقوق النقابية ويرسخ الممارسات الديمقراطية في الحركة النقابية لتأخذ دورها في تعزيز الإصلاحات الديمقراطية والحقوقية في ظل سيادة القانون.
- العمل من أجل خلق حركة نقابية مطلبيه ترتبط بهموم العمال ومعبرة ومدافعة عن مصالحهم.
- العمل على تطوير نظم وقواعد العمل النقابي بالآليات الديمقراطية عبر المؤسسات النقابية.
5. وضع المشاريع الاقتصادية والاجتماعية والنقابية ذات الارتباط بهموم العمال المباشرة بالتعاون مع مؤسسات المجتمع المدني والاتحاد العام لنقابات عمال البحرين. “
جاء في تصريح صحفي لعضو المجلس التنسيقي للتجمع ورئيس نقابة العاملين في البريد جمال عتيق:
وإن «تجمع النقابيين الديمقراطيين ليس موجها ضد أحد ويعترف بآلية العمل النقابي في الاتحاد العام لنقابات عمال البحرين وسيكون داعما لتوجهات الاتحاد وضمن هذا الالتزام».
وأضاف «إن العمل النقابي في البحرين يحتاج إلى الكثير من التحرك ووجود عدد من المؤسسات التي تدعم العمل النقابي من دون أن تمثل النقابات أو تلغي شرعية الاتحاد، مؤكدا ان الـ 47 نقابيا الذين اجتمعوا مساء أمس الأول وانتخبوا 10 أعضاء بالتزكية للمجلس التنسيقي للتجمع النقابي الجديد هم ممن عملوا في المؤتمر ومن الأعضاء المؤسسين ويتمتعون بعضوية الاتحاد».
وأكد عتيق ان هذه التجربة موجودة في مختلف دول العالم ولكن تحت مسميات مختلفة، وهي كتلة لديها مساهماتها وبعض تحفظاتها على بعض الأمور.
وقال عتيق: «لا ينبغي لأي أحد أن يقلق من هذا التشكيل، إذ إن التجمع يسعى إلى التعامل مع قضايا الحركة النقابية برؤية ناقدة مع أصحاب الشأن (أطراف الإنتاج الثلاثة)، مشددا على ان هذا التجمع ليس تجمع نقابات وإنما تجمع نقابيين». وأضاف إن «فكرة التجمع كانت موجودة قبل انعقاد المؤتمر وليست من نتاج أو نتائج المؤتمر». ويتقدم تعزيز الانتماء الوطني من خلال استقلالية القرار النقابي أهم اهداف التجمع والإيمان بحرية الرأي والرأي الآخر الذي يعزز الوعي بالحقوق النقابية ويرسخ الممارسات الديمقراطية في الحركة النقابية لتأخذ دورها في الاصلاحات الديمقراطية والحقوقية في ظل سيادة القانون (الوسط العدد 532 20 فبراير 2004م)
وقد عمل تجمع النقابيين الديمقراطيين، كما جاء في بيانه الأول، من خلال هياكل الاتحاد العام لنقابات عمال البحرين مساندا له في كل تحركاته من أجل دعم النقابات العمالية وتقوية مواقعها دون تمييز بينها، وناقدا له في القرارات التي من الممكن أن تؤثر على العمل النقابي بشكل سلبي لا تخدم مصالح عمال البحرين، وفي هذا الخصوص سوف يأتي ذكر نشاطات التجمع وتأثيراتها في الحلقة القادمة.
مصير الأفلاطونية
الفلسفة علم حي يجدد نفسه
مصير الأفلاطونية
يشوب الفلسفة والتاريخ علاقة مبهمة، إذ ليس بالضرورة أن نرى الفلسفة من وجهة نظر تاريخية. قد تغرينا على سبيل المثال طريقة المؤرخين في تحليل تاريخ الفلسفة، فهم يرسلون كل فكر فلسفي إلى مدرسة معينة ويختصرونه في إطار ضيق، غير قابلين بأي قاعدة استثنائية، إلا أن الفلسفة علم حيّ ولا يمكن تأطيره وفقاً لفترة زمنية معينة. تاريخ الفلسفة مؤلف من أفكار ما زالت تتناظر، وما يحدث، مع الأسف، هو إخفاء للتحفة الفلسفية، بل وقبرها في تاريخ، من وجهة نظرهم، لن يعود. يظنون بأنهم، بهذه الطريقة، يتيحون فهماً واضحاً لتطور الفلسفة، متناسين روح تلك الأخيرة النابضة.
بإمكاننا إعادة تذكر تلك الروح الفلسفية إن رأينا تاريخ الفلسفة من خلال لوحة مدرسة أثينا للرسام الإيطالي رفائيلو سانزيو، الذي اختار أن يجعل فلاسفة روما القديمة موضوعاً لتحفته. نرى على ظهر اللوحة هؤلاء الفلاسفة يفكرون، ويتبادلون أطراف الحديث فيما بينهم، ننظر ويتحول الجماد إلى حقيقة كما لو أننا معهم نشهد ما يفعلون. بإمكاننا إذاً استبدال نظرتنا التاريخية بنظرة فنية. هؤلاء الفلاسفة الذين هم في الأساس مختلفون، ويميز كل واحد منهم عن الآخر لون مختلف، يجتمعون في لوحة واحدة. هذا الحديث اللانهائي بين هؤلاء الحكماء يلفت نظرنا إلى زاوية أخرى من زوايا الفلسفة التي تصبح حاضرة جداً إن فصلناها عن التاريخ.
في كتاب “ما هي فلسفة روما القديمة؟ “يتحدث الفرنسي بيير هادو عن الأفلاطونية، نرى الفيلسوف يصر على لازمة متكررة لدى فكر روما القديم، و هي رؤية الفلسفة كتمرين وممارسة يهدفان إلى تغيير الذات. تحدثنا في البداية عن لوحة مدرسة أثينا، حيث يتناقش الفلاسفة وهذا ليس بصدفة و ليس بغريب، إذ أن هذا التواصل هو من أسس الأفلاطونية. هذا التواصل هو ما أطلق عليه: الجدلية. بيير هادو يشير إلى أن الجدلية جهد مشترك، بعيد كل البعد عن حرب أنانية، ويضيف بأن الجدلية زهد، وولادة لروح تهدف إلى إيضاح الرؤية. جدلية أفلاطون ليست بجدلية هيغل لأن جدلية أفلاطون تحتمل الاختلاف في صدد حركة فكرية واحدة على عكس جدلية هيغل.
من الصعب جداً الإسهاب في شرح الأفلاطونية لعمقها، لكننا نستطيع قول التالي: الأفلاطونية تعتمد في حركتها الأولى على دحض الواقع السطحي والفوضوي، المفروض على الإنسان، في سبيل واقعٍ حقيقي، وأكثر عمقاً، يرد على الغرائز الأساسية للإنسان. العالم كما نراه بأعيننا هو عالم حكمه غياب المعنى، إذ أصبح الإنسان في خدمة الآلة وفي صراع بين ميوله وهدفه في الحياة وبين عدم مقدرته على فعل ذلك.
هنا تأتي أهمية الأفلاطونية في تحويلها الفلسفة إلى تمرين حضور المعنى في كل شيء نفعله. من هذا المنطلق، اختار أفلاطون أن يولي الحب مكاناً رئيسياً في فلسفة المعنى لديه. الحب من وجهة نظر أفلاطون يفرض حضوراً ملموساً وفورياً للحبيبة، ويعكس إمكانية إيجاد هذا الحضور على الصعيد الالهي. إن كان الحبيب يشعر بحضور الحبيبة، فإنه يستطيع الشعور أيضاً بحضور الإله. لا يجب علينا أن نحلل ذلك على انه محض ارضاء أناني لحاجة ورغبة إنسانية، بل على انه تحول جذري لعلاقة الانسان بالكون؛ أعين أفلاطون ترى الحب مرشداً لوجودية أكثر حرية وعمقاً من الوجودية الاجتماعية، إذاً، الحب يرتبط بالمعنى الكبير ب: الحرية.
تعوَّدنا القول بأن الفلسفة الأفلاطونية مبهمة، غير واضحة وتجريدية، بل وأنها ترفض العالم الملموس، مفضلة الميتافيزيقا. نيتشه بالذات، كان أكثر من انتقد أفلاطون في فلسفته، إلا أن الدراسة المعمقة لفكر أفلاطون ترينا بأن هذا الأخير لا يرفض العالم الحسي. أفلاطون لا ينتقد غير الرغبات المادية العابرة، والسريعة الزوال، هذا التجوال العبثي بين : “أريد و لم أعد أريد”. أفلاطون يقوض هذه الرغبات الحسية، داعياً الى حسٍ أكثر شفافية وحرية، لا يؤذي صاحبه، ولا يخضع لعيوب هذا الكون.
نستطيع استيعاب أفلاطون من هذا المنظور. ورثة الأفلاطونية من الفلاسفة انطلقوا من أهمية فلسفة أفلاطون في دراساتهم. الأفلاطونية لم تتوقف عند محطة روما القديمة، بل أكملت طريقها لتزور باقي الحضارات، خارجة عن نطاق المؤرخ الذي كان يريد قبرها في الماضي، من أجل أن تعيش في قلب كل حضارة. بهذا الشكل، شهدنا إحياء الأفلاطونية الإنسانية في إيطاليا خلال القرن السادس العشر مع فلاسفة كبار مثل مارسيليو فيسينو وأنجلو بوليزيانو، كما شهدنا إحياء الأفلاطونية في الإسلام على يد شهاب الدين عمر السهروردي وشمس الدين الشهرزوري. ما الذي يجمع هؤلاء الفلاسفة المختلفين في الدين و الحضارة؟ قاسم الحس المشترك، رغبة التحرر من عيوب هذا الكون، وقاسم الحب والشغف بالعلم الذي سبق لنا ذكرهم. فلاسفة كهؤلاء يستطيعون بفلسفتهم، مثل ما قال الفيلسوف الفرنسي بيير هادو، أخذنا الى أصل الفلسفة: ذلك التمرين الذي يهدف إلى تحويل الذات إلى ما هو أحسن وأجدر قبل كل شيء.
عندما نقرأ كتاباً لفيسينو أو للسهروردي، نشعر بأن الإثنين يتحاوران كما في لوحة مدرسة أثينا، حاضران أمام أعيننا أثناء القراءة وكأنهما لم يرحلا. لا تجمع بين الإثنين وحدة الدم وإنما مثالية مشتركة تتفوق على الإطار التاريخي الضيق، وتستطيع إحياء نفسها بذاتها، أفلاطونية حية مرتبطة بالوجود.
هل نحن جاهزون..؟!
من ليس متخصصا فى علم الاقتصاد وأصول هذا العلم وليس له خبرة او معرفة او تجربة احسب انه يدرك بشكل او بآخر معنى هذا الخبر المنشور مؤخرا عن طرح وزارة المالية مناقصة لتكليف شركة استشارية لتطوير استراتيجية إدارة الدين العام، وهو الخبر الذى اقترن بالاشارة الى تكليف شركة أمريكية متخصصة فى وضع الاستراتيجيات وإعادة الهيكلة للحكومات والشركات والمؤسسات.. وربما، نقول ربما من باب الشفافية، او من باب لزوم ما يلزم تم الكشف عن ذلك وعن اسم الشركة، ولكن علينا ان نلاحظ انه لم يكشف عن قيمة المناقصة، ولا المأمول من هذه الخطوة او ما تخبئه فى أبعادها وطياتها، وربما علينا ان نلاحظ بانه لم يظهر لنا ولا مسؤول واحد يشرح للناس فى هذا البلد تفاصيل هذا الخبر وموجبات هذه الخطوة المثيرة لكثير من التساؤلات وعلامات التعجب..!!
ليسمح لنا المعنيون بالأمر فى البداية بتساؤل مباشر، بل اكثر من تساؤل، هل تعنى هذه الخطوة اعترافا ضمنيا ان سياسة إطلاق العنان للدين العام التى اتبعت طيلة الفترة الماضية لتغطية عجز الموازنة العامة، او تمويل الإنفاق على مشاريع هى سياسة قاصرة او غير مدروسة كما يجب، او لنقل انها لم تحقق التوليفة المطلوبة من المعالجات المستهدفة..؟، والسؤال بعبارة اخرى هل يعنى الاتجاه الى سوق الديون فى الفترة الماضية رغم كل التحذيرات من بلوغها الى مستويات مقلقة وتصاعد عبئها على الدولة والمواطن قد تم دون رؤية وخطط واضحة فى المنطلقات والآليات والتدابير التى تضمن تجنب اي اختلالات او انحرافات عن المعالجات الصائبة لتداعيات هذا التوجه على واقع الاقتصاد البحرينى، والسؤال بشكل مباشر، هل تعنى تلك الخطوة بان السياسة المالية كانت متعثرة ان لم نقل فاشلة..؟!، وهل الإستدانة أصبحت الأداة لتمويل الإنفاق العام، والرسوم والضرائب أداة رئيسية من أدوات سداد الديون والفوائد المترتبة عليها..؟!، أليس ذلك أمر باعث على قلق لم يعد يكتم حتى فى أوساط من هم فى خانة النخبة، قلق من ان تكون النتائج فى أحسن الأحوال معاقة..؟!
يمكن ان نجزم بأننا لن نحظى بأي اجابة واضحة وشفافة ومقنعة من اي جهة كانت، او من اي طرف كان من اصحاب الشأن فى دوائر المسؤولية على تلك التساؤلات ولا غيرها التى تفرضها تحديات المرحلة، ويبدو ان كل التطمينات، وخاصة تلك التى صبت باتجاه التأكيد بان مكتسبات المواطن لن تمس بدأت تسحب من التداول، فالعجز المالي كبير فى موازنة الدولة وشكل 14% من اجمالى الناتج المحلي فى 2016، وبحسب معهد المحاسبين القانونيين فى إنجلترا و ويلز (ICAEW) فى تقرير نشر قبل ايام فى هذه الجريدة من المتوقع ان يصل هذا العام الى %11 رغم الخطوات المتواضعة التى اتخذت لخفض النفقات، فى الوقت الذى يتصاعد عبء الدين المحلى الى مستويات خطرة من %42من اجمالي الناتج المحلي فى 2014 الى %70 فى 2016 والى %85 بحلول 2018، وهذه أرقام مقلقة ومزعجة بكل المقاييس، ويخشى ان يعنى ذلك كله اننا امام توجهات اقتصادية مرتبكة، ولا نقول خطط، توجهات جعلت استعداداتنا أقل بكثير من التحديات الراهنة والمستقبلية، ويبدو جليا ان هذه التوجهات ترتكز حتى الآن على الإجراءات التقشفية وإعادة هيكلة الإيرادات وتحرير عدة سلع مدعومة وفرض الرسوم والضرائب وتخصيص بعض الخدمات وتقنين النفقات، ناهيك عما قد يكون رابضا خلف الأكمة..!!
المشكلة تكمن فى غياب الشفافية ذات الصلة بالتوجهات والسياسات المالية والاقتصادية، هى غير واضحة المعالم حتى الآن، وهو أمر ليس بحاجة لشرح واستفاضة، يكفى اننا لم نجد لا وزير المالية ولا غيره قد ظهر للملأ ليعلن وبوضوح وبدون مداراة او مواربة طبيعة هذه التوجهات والسياسات والخطط الاستراتيجية ان وجدت، ولا كيف سيتحقق الاستقرار الاقتصادي الكلي فى ظل تحديات ضاغطة غير مسبوقة، وعلاوة على ذلك لا احد يعلم حتى الآن تفاصيل الموازنة العامة للدولة لعامي 2017 و2018 وقد انقضى اكثر من 5 أشهر على الموعد الدستوري المقرر فيه احالة الموازنة الى البرلمان، والميزانية هى التى يفترض ان تعكس ولو نزرا يسيرا من هذه التوجهات، ولا احد يعلم ماذا حققت سياسات تنويع مصادر الدخل، وأين أوجه النجاحات والإخفاقات، وإذا كان هناك من يرى بأن القلق ليس من الاستدانة فى حد ذاتها ولا فى الفوائد المترتبة عليها وإنما القلق بل الخطورة فى عدم وجود خطة مدروسة ذات موثوقية فى مواجهة المشكلات والتحديات ومعالجتها بمهنية عالية لا تجعل المواطن الضحية الاولى او عرضة لضرر اكبر غير معلوم لأي معالجات مستهدفة.
نحن الآن امام خطى اعادة هيكلة الحكومة، وأنظار الناس تتجه الى هذه الخطوة، وهم يتساءلون، وهم محقون فى كل تساؤلاتهم، هل سيأخذ هدف اعادة الهيكلة تلك الهواجس والاعتبارات وممارسة فن الممكن..؟، هل ستختلف الحكومة عما كانت قبلها بأشخاص استثنائيين يمتلكون الكفاءة والقدرة على تبنى سياسات وأفكار جديدة فى ضوء الحقائق المستجدة..؟، وهل اعادة الهيكلة ستقتصر على الوجوه والأسماء فقط أم انها تعنى أفكارا وسياسات حصيفة ومقدرة على معالجة أوجه الضعف التى يعانيها الاقتصاد البحرينى، بقدر ما يعنى تخطيط يعي تحديات الحاضر ويحمل رؤية للمستقبل، ويعد على أساسه الخطط المدروسة للتنمية والاقتصاد وإدارة موارد الدولة والشعب وتعزيز القدرة على مواجهة التحديات بشكل لا يجعل الذيول والمسؤليات تقع فوق رؤوس المواطنين وخاصة الذين لا هم لهم الا توفير ما تيسر من كفاة يومهم فى ظل تحديات تتطلب رؤية واضحة تؤسس على حقيقة اوضاعنا وتأخذ العبرة من تجارب الآخرين ودروس السنوات الماضية وتتبنى اجندة محاربة الفساد والعدالة الاجتماعية ووضع الرجل المناسب فى المكان المناسب، المطلوب باختصار إرادة تعيد الحسابات ولا تعيد او تجتر ما كان، ارادة تعي مكامن الخطأ وأساس المشاكل وتمضي نحو المعالجات الصحيحة التى يعتد بها فى الشكل والمضمون، فهل نحن جاهزون..؟!
معركة الأمعاء الخاوية
أحيا الفلسطينيون، ومعهم كل من لا زالت قضية فلسطين تعنيه في عالمنا العربي وفي العالم، أمس «يوم الأسير الفلسطيني»، كمناسبة لتجديد التضامن مع قضية الأسرى الفلسطينيين في السجون «الإسرائيلية»، الذين يعدون بالآلاف، ويواجهون ظروف احتجاز قاسية.
ونظّم الفلسطينيون مسيرات في مختلف أنحاء الضفة الغربية المحتلة للفت النظر إلى قضية المعتقلين، أما الأسرى أنفسهم فقد أحيوا هذه المناسبة على طريقتهم، بأن بدأوا إضراباً مفتوحاً عن الطعام، للمطالبة بتحسين ظروف اعتقالهم، في محاولة منهم لكسر الصمت المحيط بقضيتهم، والذي وصفه رئيس نادي الأسير ب «صمت القبور».
نادي الأسير الفلسطيني قال إن الإضراب يهدف إلى «تحقيق عدد من حقوق الأسرى أبرزها إنهاء سياسة العزل وسياسة الاعتقال الإداري»، كما تشمل تلك المطالب مجموعة أمور تتصل بالملف الطبي للأسرى، تتضمن إجراء الفحوصات الطبية الدورية وإجراء العمليات الجراحية بالسرعة المطلوبة، وإطلاق سراح الأسرى المرضى، خاصة من ذوي الإعاقات والحالات المستعصية.
في السجون «الإسرائيلية» اليوم نحو 6500 أسير فلسطيني موزعين على 22 سجناً بين سجون مركزية ومراكز تحقيق وتوقيف، من بينهم 62 أسيرة بينهن 14 فتاة قاصراً ونحو 300 طفل، وعمد المحتلون الصهاينة إلى مصادرة بعض الحقوق التي انتزعها الأسرى في الإضرابات السابقة، ومن بينهم قيادات بارزة في المقاومة الفلسطينية كالأسيرين مروان البرغوثي القيادي في حركة «فتح»، وأحمد سعدات، الأمين العام للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين.
الإضراب الذي أطلقه أسرى فلسطين أمس يلفت الأنظار إلى معاناتهم الصعبة في ظروف الأسر القاسية، حيث يستخف العدو بما استقر عليه المجتمع الدولي والهيئات المعنية بحقوق الإنسان من معايير في التعامل مع سجناء الرأي والنشطاء الوطنيين المدافعين عن القضايا العادلة لشعوبهم، وفي مقدمتها قضية الشعب الفلسطيني الذي يواجه عسف وبطش المحتل منذ نحو سبعة عقود.
هذا الإضراب يعيد التذكير، أيضاً، بالمأثرة النضالية للشعب الفلسطيني المصمم، رغم كل الصعوبات والتخاذل والبطش الصهيوني، على التمسك بحقوقه المشروعة، ومن أجل هذا يستمر في تقديم التضحيات الغالية، ومن بينها تضحيات هؤلاء الأسرى الشجعان، الذين يوجّهون عبر «معركة الأمعاء الخاوية» رسالة للضمائر في العالم كله، بما في ذلك إلى ضمائر أشقائهم العرب، من أجل ألاّ تنسى القضية الوطنية العادلة للشعب الفلسطيني وسط ما نحن فيه من حروب واقتتال وتمزقات وخيبات.
وإضراب الأسرى الفلسطينيين هو في جانب منه رسالة للقوى الفلسطينية المختلفة، وفي الضفة الغربية وغزة بشكل خاص، بأن تنهي حالة الانقسام المريع التي هي عليه، وأن تكون عند مستوى المسؤولية الوطنية وتوجه جهودها المشتتة في صراعات عبثية نحو مواجهة الاحتلال، والاحتلال وحده.
من يخشى النقد؟
هل سنكون على خطأ إذا قلنا اليوم أن ليس للماركسية حيزاً واسعاً في قراءة وتحليل الواقع الإجتماعي؟ بديهياً نجيب بنعم .. ولكن بديهياً نسأل: أهناك في الحيز الثقافي الواسع الموجود اليوم قوة لقراءة هذا الواقع نفسه ؟ فمن إتجاهات النقد الثقافي، إلى الأفكار ما بعد الحداثية، إلى فلسفات الأكاديميين، إلى الأثروبولوجيين وعلماء الإجتماع الموجودين، لا نجد تحليلاً متماسكاً واحداً للواقع الإجتماعي البحريني، دع عنك: الخليجي أو العربي أو العالمي. صحيح هناك إستثناءات فردية يجتهد فيها مفكرون يحاولون تحليل جانب (أو جوانب معينة) من هذا الواقع الإجتماعي ويقدمونه بطريقة تحليلية صحيحة .. ولكنها تظل ناقصة.
لن أدعي أن سبب ذلك هو “لا- ماركسية” أغلب هؤلاء المفكرين، لأن ليس لهذا الإدعاء أي معنى .. بما أن الماركسية نفسها ناقصة. ولكن الماركسية ناقصة لأنها لن تكتمل أبداً، ومكتملة لأنها ليست ناقصة أبداً – أتمنى أن لا أثير أحداً بهذه العبارة المتناقضة، لكنها صحيحة. الماركسية ناقصة لأنه لا يمكنها أن تكتمل، لأنه لا يمكنها أن تدعي معرفتها بالواقع الموضوعي بشكل مكتمل سلفاً.. فهي ناقصة بقدر ما الواقع الموضوعي نفسه ناقص. وهي مكتملة فقط عندما تحلل الواقع الموضوعي (أو ما يسميه لينين معرفة الملموس في المجرد العلمي) كما يقدم نفسه بشكله المكتمل لحظياً. الماركسية ناقصة لأنه لم تكتمل عملية تفكيكها بعد، لأنها لا زالت تصارع ما بين الماركسية الخلاقة والماركسية الجامدة، ولأنها لم تتمكن من وضع نظريات واضحة لـ: اللحظة الراهنة، والدولة، ومقولات فلسفية مثل “مكان النفي” (كما يقول آلان باديو)، أو مكان “الإقرار”، أو”الديالكتيك”، إلخ.
بينما، في الجانب الآخر، تدّعي النظريات الأخرى الموجودة في الفضاء الفكري الإجتماعي والفلسفي بأنها نسق متكامل قادر على إكتشاف الإختلالات الإجتماعية ( سواء أكانت لتبيان المناطق الحساسة التي يسيطر فيها خطاب واحد وحسب، أو لمضايقة – ولا أقول تمرد – الأفكار القائمة، أو لإثبات أن واقعنا اليوم هو واقع رقمي تقني وليس هناك ما يسمى بواقع موضوعي إلخ) وهي أساساً ناقصة ( أيّ من دون مفاهيم : الصراع الطبقي، ونمط الإنتاج، والتاريخ، إلخ).
فبينما نقص الماركسية هو نقص واع، فنقص هذه الأفكار هو نقص غير واع. فنعم .. رغم غياب الماركسية عن الساحة الفكرية، فإنه لا يزال بإمكانها أن تعيد إحتلاله ليس بسبب قوتها الجبارة، بل بسبب ضعف هذه الأفكار.
كل هذا طبيعي، لكن من غير الطبيعي أن لا نجد راية ماركسية واحدة مرفوعة من قِبل الماركسيين أنفسهم. أهناك حاجة أكثر لأعلل هذا الكلام وأقول أن التنظيم المفترض به أن يجمع أكبر عدد من الماركسيين يفشل في أن يرفع راية الماركسية ؟
أستطيع أن أسمع صدى أصوات بعض القراء الذين يحتجون قائلين: “نعم لكن ألا يوجد عند هشام أي عمل آخر غير الكشف عن الجوانب السلبية ؟” أو “ الآن نحن تحت هجوم وإنشقاق فعلي، هذا ليس الوقت المناسب للنقد .. لأن هذا يعطي أعدائنا الفرصة لأن يكشفوا جوانب نقصنا”. لكن حقاً متى سيكون الوقت مناسباً للنقد (البناء) ؟. كما هو معروف عند الجميع لم تمر، ولن تمر، لحظة عند الماركسيين لن يكونوا فيها تحت هجوم واضح، فهل يمكننا أن نقول بذلك: علينا أن نمنع النقد للأبد لأننا تحت هجوم دائم ؟ لا أعتقد ذلك. فلا يوجد هناك شيئ سيئ، على حد علمي، لم يقل سلفاً حول ماركس، والماركسية، والإشتراكية، والشيوعية، إلخ.. كل الأمور الشنيعة قيلت ولا تزال تقال حول الماركسية. ولكننا عندما نقولها نحن، الماركسيون، فإننا على العكس نمنع مناهضيها من النقد نفسه (النقد غير المبني على أسس علمية أعني) .. لأننا سننتقد الماركسية، أو الأحزاب الشيوعية، أو الأحزاب التي تتضمن أعضاءاً شيوعيين ( مثل جمعية المنبر التقدمي)، أو الحركة الشيوعية، من وجهة نظر الماركسية نفسها.
من يخشى النقد ؟ هذا هو السؤال، من يخشى بعروقه أن يقرأ نقداً ؟ هو الشخص – أو التنظيم أو الجماعة – المغلوب على أمره، الذي يحس بهشاشته في إنكسارات في أطرافه، الذي يحس أنه سيضيع من أمره بعد كشفه بالكامل.
فنقدي هذا، ونقدي الذي قدمته في المقالات السابقة، لا يخرج نحو صفوف “الآخر”، وإلا لماذا سأكتب في نشرة “التقدمي” ؟، ولماذا سأقدم نقدي الموجه لكم عندكم ؟ إذا لم أكن أساساً أعلن عدم ضديتي لتاريخكم ووجودكم ؟. لكن علينا الإعتراف أن التوجه العام عند المنبر التقدمي اليوم، وهذا فقط سيفهمه القراء الماركسيون، هو توجه ديموقراطي (تقدمي ؟) غير ماركسي، رغم وجود الأعضاء الماركسيين فيه.
كيف يمكننا حل هذا التناقض إذن ؟
برأيي يعود غياب الماركسية عن جمعية تدعي أنها تحمل “الفكر المادي الجدلي” هو بسبب ضعف التيار الماركسي فيها. هل سبب الضعف هذا العدد القليل من الماركسيين فيه ؟ نعم، ولكن هذا ليس السبب الوحيد.
الحقيقة هي : تغيب عن الجمعية نفسها حركة ثقافية واضحة تميز الجمعية عن غيرها فكرياً. هذا ليس رأيي أنا وحسب، بل أنه حتى رأي الراحل عبدالله خليفة ( الذي تطرف وقال أن بعض قادة جبهة التحرير كانوا قادة تنظيمين ينقصهم الجانب الفكري). هل سبب ذلك أن هناك قلة قليلة جداً يفقهون جوهر النظرية الماركسية اللينينية بحقيقتها – وليس عبر ما سمعوا عنها أو قراؤوا عنها في الشروحات البائسة ؟ ربما.
الطريقة الوحيدة التي آراها ممكنة أن تنتعش فيها الماركسية في جمعية المنبر التقدمي هي عبر الجانب الثقافي. لا أعني بذلك طبعاً ما يجري حالياً من “التربية الحزبية” لألف باء المادية الجدلية البعيدة جداً عن الروح الماركسية المعرفية، وعن روح ماركس نفسه الذي قال أن على قراء “الرأسمال” أن يتعلموا أن يفكروا لأنفسهم.
وهذا الإنتعاش الثقافي لن يحدث من دون تلك العناصر “الماركسية” ( أو ما تبقى منهم) الجادة في معرفتها، أو إرداتها أن تعرف، للفكر الماركسي نفسه. فإذا غاب الفكر عن التنظيم ضاعت القدرة على تحليل الواقع، وإذا ضاعت هذه القدرة فإن التنظيم نفسه يدخل، وأنه قد دخل سلفاً، في متاهات التحريفية الواضحة، وبذلك الممارسة الخاطئة. ما على هذه العناصر الماركسية سوى أن تشكل نفسها كتيار ماركسي حاضر في الجمعية، ثقافياً وسياسياً، ويعبر عن نفسه كتيار متميز ينعش الجانب الغائب الوحيد من المنبر التقدمي وهو الجانب الثقافي الذي عبره ندخل حتماً في الجانب السياسي.
الآن ما أقصده بالجانب الثقافي هو ليس الجانب التعليمي ( ما هذا .. من هو هذا .. كيف هو ذلك .. إلخ) وليس الجانب الأرشيفي ( الذكريات المجيدة التي تعاد كل سنة – والتي تصبح أحياناً مملة)، بل أعني حرفياً الجانب الفكري – النظري لكلمة الثقافة. كيف ستكون سيرورة هذه المسألة ؟ لا أدري (الندوات ؟.. الحلقات النقاشية ؟.. إلخ)، ولكن حتماً ستبدأ حالما نعترف بأزمة الجمعية (أو قل : إن الجمعية في أزمة)، وأزمة الأحزاب الشيوعية، وأزمة الماركسية .. وأن الطرق القديمة، أعني الطرق التنظيمية والقيادية القديمة التي اعتاد عليها القدامى لا تنفع لعصرنا ولا لزماننا الحالي. نحن لا نريد الذكريات المجيدة ( نعم سنتذكرها بشكل ما يسميه دريدا “تفكيكي”، ولا نريد الجانب التعليمي للأفكار الحزبية (أو الجمعية) الوطنية غير الماركسية ولا نريد بروبغاندا فارغة من أي معنى.
إذا لم تدرك القيادات الحاجة الملحة للتغيير (فسح المجال للشباب)، والحاجة الملحة لتبني أسلوب جديد للعمل (القائم على الفكر الماركسي)، والحاجة الملحة لتغيير النمط القديم في إدارة الأمور، وفوق كل هذا: الحاجة الشديدة في تغليب الماركسية الخلاقة على الماركسية الجامدة، وتعزيز الهوية الماركسية للتنظيم، فإذن المستقبل هو واضح جداً: هوة تنتظر أن تبتلعنا كلنا.
صحيح أن أزمة الماركسية وأزمة الشيوعيين هي نتاج لأزمة أعمق وأكبر، ولكن علينا ألا نتفاجئ إذا قلنا: إن أزمة الماركسية وأزمة الشيوعيين سببها الماركسيون والشيوعيون أساساً. من المهم جداً التخلي عن مبدأ إلقاء اللوم على العوامل الأخرى وعدم الوقوع في التقديس الفارغ للأمور، ونبدأ في النظر كيف نحن ساهمنا بشكل واضح لتعميق هذه الأزمة.
هل ستكون القيادات الحالية قادرة على إدراك تلك الحاجات الملحة ؟ هل ستكون هناك أية فرصة في أن تنتعش الماركسية في السنوات المظلمة “المظلمة جداً” القادمة ؟ لا أدري .. ولكن عليها، عليها، ذلك، أو إلا كلنا سنقفز قفزة عظمى إلى ما وصفه دانتي: “المكان الذي لا يضيء فيه شيئاً” .. إلى “الظلام الأبدي..”.
الماركسية بين الأمس واليوم – 4
شبحها ما زال يطارد الرأسمالية
الماركسية بين الأمس واليوم – 4
ترجمة غريب عوض
ماركس و داروين
تشارلز داروين Charles Darwin، الذي كان مادي فطري، شَرَحَ تطور الأنواع كنتيجة لتأثيرات البيئة الطبيعية. وشَرَحَ كارل ماركس تطور الكائن البشري من تطور البيئة ”الصِناعية“ التي نُسميها المجتمع. والفرق يقع من ناحية في الصِفة المُعقدة جداً للمجتمع البشري مُقارنةً بالبساطة النسبية للطبيعة، ومن ناحية ثانية في التغير المُتسارع لسير المجتمع مُقارنةً للسير البطيء غير العادي الذي بواسِطتهِ يكشف الانتخاب الطبيعي عن التطور.
وعلى أساس العلاقات الاجتماعية للإنتاج – بعبارة اُخرى، العلاقات بين الطبقات الاجتماعية – يظهر هناك أشكال قانونية وسياسية مُعقدة بإنعكاساتها الأيديولوجية والثقافية والدينية المُتشعِبة إن هذا البِناء الكبير من الأشكال والأفكار أحيناً يُشارُ إليهِ بالبِناء الاجتماعي العُلوي. بالرغم من أنهُ يرتكز دائماً على قواعد اقتصادية، إلا أنهُ يرتفع فوق القاعدة الاقتصادية ويتفاعل فوقها، أحياناً بأسلوب حاسم. إن هذهِ العلاقة الجدلية بين القاعدة والبناء العُلوي مُعقدة جداً وليست واضحة دائماً. ولكن في التحليل النهائي، تُصبح القاعدة الاقتصادية دائماً القوة الحاسِمة.
إن علاقات المُلكية هي ببساطة التعبير القانوني للعلاقات بين الطبقات. في البداية، تُساهم هذهِ العلاقات – بمعية تعبيرها القانوني والسياسي – في تطوير قوى الانتاج. ولكن تطور قوى الانتاج يميل إلى العمل ضد القيود التي تُمَثِلُها عِلاقات المُلكية القائمة. وتُصبح الأخيرة عائق لتطور الانتاج. وعند هذهِ النقطة ندخل في فترة ثورية.
يرى المِثاليون الوعي البشري على أنهُ المنبع الرئيسي لجميع أفعال الإنسان، القوة المُحرِكة للتاريخ. ولكن التاريخ كُلهُ يُثبِت العكس. إن الوعي البشرى بصفة عامة ليس تقدمياً ولا ثوري. فهو بطيئ التفاعل مع الظروف ومُحافظ جداً. اغلب الناس لا تُحِب التغيير، وأقلها التغيير الثوري. إن هذا الخوف الدفين من التغيير مُتجذرٌ في اللاوعي الجمعي. إنهُ جزء من آلية دفاع التي تعود أصولها إلى الماضي البعيد للنوع البشري.
وكقانون عام، نستطيع القول، أن المجتمع لم يُقرر قط أن يأخذ خطوة إلى الأمام إلا إذا كان مُضطراً أن يفعل ذلك تحت ضغط الضرورة القُصوى. طالما أنهُ من المُمكن أن يتخبط الإنسان في الحياة مستعيناً بِهدي الأفكار القديمة، مُتكيفاً معها على نحوٍ غير محسوس إلى واقع يتغير بِبِطء، سوف يستمر الرجال والنِساء لفترة طويلة التحرك مع الأساليب والطُرق المُستهلَكة. ومثل قوة القصور الذاتي في عِلم الميكانيكا تُشكل التقاليد والعادات والروتين عبءً ثقيلاً جداً على الوعي البشري، والذي معناه أن الأفكار تتخلف دائماً عن الأحداث. ولكي نتغلب على هذا القصور الذاتي نحتاج إلى ضربات مطرقة للأحداث العظيمة لتُجبر الناس على مُسائلة المجتمع القائم، أفكارهِ وقيمِهِ.
إن كل ما تُبَيَّنُهُ الثورة هو حقيقة أن التناقُضات الاجتماعية التي أنشأها الصراع بين التطور الاقتصادي والبُنية القائمة للمجتمع، أصبحت لا تُطاق. إن هذا التناقض المركزي لا يمكن حلهُ إلا بالتخلُص من النظام الحالي وإحلال علاقات اجتماعية جديدة بديلة لهُ تجعل القاعدة الاقتصادية تنسجم مع البِناء العُلوي.
في الثورة تُعاني القواعد الاقتصادية للمجتمع من التحول الراديكالي. ثم يتعرض البِناء القانوني والسياسي إلى تغيير جذري. وفي كلُ حالة، إن علاقات الإنتاج العُليا الجديدة قد اكتمل نموها في رِحم المجتمع القديم، وتُشكل حاجة مُلِحة للتحول إلى نظام اجتماعي جديد.
المادية التاريخية
تُحلِل الماركسية المنابع الرئيسة الكامنة والموجودة وراء تطور المجتمع البشري، من المجتمعات القَبَلية المُبَكِرة إلى يومنا هذا. وتُسمى الطريقة التي من خلالها تَقتَفي الماركسية أثر هذا الطريق المُتَعَرج التَصوّر المادي للتاريخ. إن هذهِ الطريقة العِلمية تُمَكِنُنا من فهم التاريخ، ليس كَسِلسِلة من الحوادث غير المُترابطة وغير المُتَوَقَعَة، وإنما بالأحرى كجزء من صيرورة مُتَرابِطة ومفهومة بوضوح. إنهُ سِلسِلة من الأفعال وردود الأفعال تُغطي السياسة والاقتصاد وكامل طيف التطور الاجتماعي. إن شرح العلاقة الجدلية المُعقدة بين جميع هذهِ الظواهر هي مُهِمة المادية التاريخية.
كَتَبَ المؤرخ الإنجليزي الكبير إدوارد جيبون Edward Gibbon، مؤلف كتاب (اضمحلال الامبراطورية الرومانية وسقوطها)، أن التاريخ ”ما هو إلا مُسجل لجرائم وحماقات وسؤ حظوظ البَشَر.“ (جيبون، اضمحلال الامبراطورية الرومانية وسقوطها، المُجلد الأول، صفحة 69). جوهرياً، إن آخر تفسير للتاريخ ما قبل الحداثة لم يتقدم خطوة واحِدة مُنذُ ذلك الحين. يُنظر إلى التاريخ بإعتبارهِ سِلسِلة من ”الروايات“ غير المُترابطة دون ارتباط عضوي ودون معنى عميق أو منطق. لا نستطيع القول أن هذا النظام الاقتصادي الاجتماعي أفضل من ذاك أو أسوء مِنه، ولهذا لا يمكن أن يكون هناك حالة تقدُم أو تَخَلُف.
ويبدو التاريخ هُنا وكأنهُ سِلسِلة من الأحداث أو الحوادث العشوائية التي لا معنى لها بالضرورة. فهو لا تحكمهُ قوانين نستطيع فهمها. ولهذا فإن محاولة فهم التاريخ ستكون عملٌ لا طائل من وراؤه. والشيء المُغاير لهذا الموضوع، هي الفكرة، المُنتشرة الآن بين بعض الدوائر الأكاديمية، بأنهُ ليس هناك شيء يُسمى شكلٌ أعلى أو أدنى في عملية التطور الاجتماعي والثقافي. وهم يزعمون أنهُ ليس هناك شيء يُسمى الإرتقاء، والذي يعتبرونهُ فكرة قديمة من مُخلفات القرن التاسع عشر، حينما نشرها ليبراليو الحقبة الفيكتورية والاشتراكيون الفابيون – وكارل ماركس.
إن هذا النكران للإرتقاء في التاريخ هو مِيزة سياكيولوجية البرجوازية في طور اضمحلال الرأسمالية. إنهُ انعكاس أمين لحقيقة أنهُ في ظل الرأسمالية وصل التقدم فعلاً إلى حُدودهِ القُصوى ويُهَدِد بالتراجُع. ومن الطبيعي جداً، أن تكون البرجوازية ومن يُمَثُلُها من المُثقفين غير راغبين بقبول هذهِ الحقيقية. بالإضافة إلى أنهم عضوياً غير قادرين على استيعابها. وقال لينين مَرَة، إن الإنسان الواقف فوق طرف الجبل إنسان غير عاقل. غير أنهم غير مُدركين الوضع الحقيقي إلا قليلاً، وهم يحاولون العثور على نوع من التبرير لِمأزق نظامهم عن طريق إنكار إمكانية الإرتقاء بِرُمَتِها.
وقد غاصت هذهِ الفكرة عميقاً في الوعي حتى إنها انتقلت إلى داخل حيّز عملية التطور غير البشري. وحتى مُفكرٌ لامع مثل ستيفن جي غولد Stephen Jay Gould، الذي غيّرت نظريتهُ الديلكتيكية (التوازن الُنقطي) الطريقة التي يُنظَر من خِلالها إلى عملية التطوّر، قال أنهُ من الخطأ الحديثُ عن الإرتقاء من الأدنى إلى الأعلى في عملية التطور، حتى أنهُ لا بُد أن نضع الجراثيم في نفس مستوى الكائنات البشرية. هذا صحيح من ناحية، بأن جميع الكائنات الحية تُنسَب إلى بعضها البعض (وقد أثبتت بشكل حاسم مجموعة العوامل الوراثية البشرية صحة هذا). إن النوع البشري ليس خلقٌ الله الخاص، وإنما هو نتاج لعملية التطوّر. وليس صحيحاً أيضاً النظر إلى عملية التطور، النشوء والارتقاء كنوع من التصميم العظيم، الذي كان هَدَفهُ خلق كائنات على شاكِلتُنا. ومع ذلك، فإن رفض فكرة خاطئة لا يعني بالضرورة الذهاب إلى النقيض، مما يُفضي إلى أخطاء جديدة.
إنها ليست مسألة القبول بِخطة ما مُقدَرَة سلفاً إما إنها مُرتَبِطة بتدخل إلهي أو بنهاية ما، ولكن من الواضح أن قوانين عملية التطور المُتأصِلة في الطبيعة لا تُحدد في الحقيقة التطوّر من أشكال بسيطة من الحياة إلى أشكال أكثر تعقيداً. إن الاشكال المُبَكِرة للحياة تتضمن الآن فيما بينها جنين جميع التطورات المُستقبلية. من المُمكن شرح تطور العينين والأرجُل وأعضاء اُخرى دون الإلتجاء إلى أى خِطة مُقدَرَة سلفاً. في مَرحلة مُعيّنة نحصل على تطور نظام الأعصاب المركزي والدماغ. وأخيراً مع الإنسان العاقل نَصِلُ إلى الوعي البشري. وتُصبِح المادة واعية بذاتها. لم يعُد هناك ثورة مُهِمة إلى الآن مُنذُ تطوّر المادة العضوية (الحياة) من المادة غير العضوية.
وإرضاءً لناقدينا ربما علينا أن نُضيف العِبارة من وجهة نظرنا نَحنُ. إن كانوا قادرين على طرح وجهة نظر تَخُصُهم، ففي أغلب الضن إن التشكيك في مسألة الجراثيم من المُحتمل أن يُثير اعتراضات خطيرة. ولكننا بشر لا بُد أننا بالضرورة نرى الأشياء من خلال عيون البشر. ونَحنُ نؤكد فعلاً بأن عملية التطور لا تُمثل في الحقيقة تطوّر أشكال الحياة البسيطة إلى أشكال أكثر تنوع وتعقيد – بِعبارة اُخرى الارتقاء من الأشكال الأدنى للحياة إلى الأشكال الأعلى للحياة. إن الاعتِراض على مثل هذهِ الصِياغة يبدو أنهُ لا معنى لهُ، وغير عِلمي وإنما مُجرد إعتِراض مدرسي. وعندما نقول هذا، لا شك أننا ليس قصدنا إهانة الجراثيم، والتي هي في النهاية وجودها أطول من وجودنا بكثير، وإذا لم يتم التخلص من النظام الرأسمالي، فربما هو من يضحك في النهاية.
القوة المُحَرِكة للتاريخ
في نَقدِهِ للإقتصاد السياسي يُوضح ماركس العلاقة بين قوى الإنتاج و ”البناء العُلوي“ على النحو التالي:
”في الإنتاج الاجتماعي الذي يقوم بهِ الإنسان يدخل في علاقات مُحدد ضرورية خارِجة عن إرادتهِ؛ وعلاقات الإنتاج هذهِ تستجيب لمرحلة مُحددة لتطوّر قوى الانتاج المادي لديهِ … إن اسلوب الانتاج في الحياة المادية يُحدد الصِفة العامة لصيرورة الحياة الاجتماعية والسياسية والروحية. ليس وعي الإنسان هو الذي يُحدد وجوده، وإنما على العكس من ذلك، الوجود الاجتماعي للإنسان هو الذي يُحدد وعيه.“
وحيثُ أن ماركس وأنجلز بذلا جهوداً جبارة ليوضِحا، أن المُشاركين في التاريخ قد لا يكونوا على وعي دائماً بالمُحَفِزات التي تُحرِكُهُم، فهُم يحاولون تعقل تلك المُحَفِزات بطريقة أو بأُخرى، ولكن تلك المُحَفِزات موجودة ولها أُسُسُها في العالم الواقعي.
تماماَ مثلَ ما يَشرح تشارلز داروين إن الأنواع ليست ثابِتة وأن لها ماضي وحاضر ومستقبل، تتغير وترتقي، وكذلك يَشرَح ماركس وأنجلز بأن نظام اجتماعي مُعيّن ليس ثابت إلى الأبد. ذلك هو وهم كلُ حَقبة من الزمن. يعتقد كل نظام اجتماعي بأنهُ يُمَثّل الشكل الوحيد المُمكن لوجود الكائنات البشرية، إنها أعرافهُ ودينهُ وأخلاقهُ، وهذهِ أخر الكلمات التي يمكن أن تُقال.
ذلك ما آمَنَ بهِ بحماس آكِلة لحوم البشر والكُهان المصريون القُدَماء وماري أنطوانيت والقيصر نِكولوس. وذلك أيضاً ما ترغب البرجوازية والمُدافعين عن الدين لديها أن يُظهِروه لنا عندما يُطمئِنوننا، دون أدنى أساس، بأن ما يُسمى نظام ”السوق الحُرة“ هو النظام الوحيد المُمكن – ولكن مع الأسف بَدَأ يتداعى.
والآن بشكل عام تم قبول فكرة ”التطوّر“ على الأقل من قِبَل الأشخاص المُثقفين. وأفكار داروين، التي كانت ثورية في عَصرِهِ أصبحت مقبولة الآن وكأنها قضية مُسَلَم بِها تقريباً. إلا إن التطوّر يُفهَم عموماً كصيرورة بطيئة تدريجية دون إعاقات أو فَوَرَانات عنيفة. في السياسة كثيراً ما يُستخدم هذا النوع من المُحاجات كمُبَرر للإصلاح. وتتأسس على سؤ فهم، لسؤ الحظ.
إن الآلية الحقيقية للتَطوّر تبقى حتى اليوم كِتاباً مختومٌ بسبعة أختام. وهذا ليس أمرٌ مُفاجئاً بتلك الدرجة حيثُ أن داروين نفسهُ لم يفهمها. فقط في العقد الماضي تقريباً تم الكشف عن أن التطوّر ليس عملية تدريجية، بمُساعدة الاكتشافات الجديدة في عِلم الأحياء القديمة التي توصل إليها ستيفن جي غولد Stephen Jay Gould، الذي اكتشف نظرية التوازن النُقطي. هناك فترات طويلة لم يُلاحظ خلالها تغيُرات كبيرة، ولكن في لحظات مُعيّنة، ينكسر خط التطوّر بإنفجار، ثورة بيولوجية مُتنوّعة تتميز بإنقراض واسع لبعض الكائنات الحية وبظهور سريع لكائنات أخرى جديدة.
إن التشابُه بين المجتمع والطبيعة، لا شك أنهُ مُجرد تقريبي. ولكن حتى أكثر الاختبارات سطحية للتاريخ تُبيّن أن تأويل الذين يزعمون بالتدرج لا أساس لهُ من الصحة. إن المجتمع مثل الطبيعة يمرُ بفترات طويلة من التغيّر المُتَدرج البطيئ، ولكن هنا أيضاً تعترض الخط تطورات انفجارية – حُروبٌ وثورات، التي من خلالها تتسارع عملية التغيّر بِكثافة. وفي الواقع إن هذهِ الحوادث هي التي تقوم بدور القوة المُحرِكة الرئيسة للتطور التاريخي. وإن السبب الجذري لقيام الثورات في الحقيقة هو أن نظاماً اجتماعياً اقتصادي وصل إلى حُدُدِهِ القصوى وهو غير قادر على تطوير قوى الإنتاج كما كان يفعل ذلك في السابق.
أخطر أنواع الإرهاب
الإرهاب كلمة حديثة في اللغة العربية وهي كلمة مشتقة أقرها المجمع اللغوي وجذرها رهب بمعنى خاف، وكلمة إرهاب هي مصدر الفعل أرهب، أرهبه بمعنى خوفه، ولا يوجد في المعاجم العربية كلمات الإرهاب والإرهابي لأن تلك الكلمات حديثة الاستعمال، وقد ورد لفظ الرهبة ومشتقاته في القران الكريم بعدة معاني، منها الخشية وتقوى الله، وبمعنى الردع بالمفهوم العسكري.
والإرهابيون في المعجم الوسيط وصف يطلق على الذين يسلكون سبيل العنف والإرهاب لتحقيق أهدافهم السياسية، والإرهابي في المنجد، من يلجأ إلى الإرهاب لإقامة سلطته، كما وردت أيضا فيما يتعلق بالحكم الإرهابي أنه نوع من الحكم يقوم على الإرهاب والعنف تعمد إليه حكومات أو جماعات ثورية، ويعود استعمال اصل كلمة الإرهاب كمصطلح إلى فترة الثورة الفرنسية، وترتبط بما يسمى بحكم الإرهاب.
ويعرف القانون الجنائي الدولي الإرهاب بأنه تلك الأفعال العنيفة التي تهدف إلى خلق أجواء من الخوف، ويكون موجهاً ضد أتباع فرق دينية وأخرى سياسية، أو هدف أيديولوجي، وفيه استهداف متعمد أو تجاهل سلامة غير المدنيين. وفي تعريف آخر إن الإرهاب هو عمل عنفوي يستهدف ارضاخ الجماعة لآرائه وفرض معادلة مغايرة بمنطق القوة، من خلال تجذير الخوف وزرع القلق في محيطهِ. ويكون الإرهاب وسيلة يستخدمها الأفراد والجماعات ضد الحكومات، ويمكن أن تستخدمها وترعاها حكومات ضد مجموعات معينة. ولكن بسبب التعقيدات السياسية والدينية فقد أصبح مفهوم هذه العبارة غامضاً أحيانا ومختلف عليه في أحيان أخرى.
خلال السنوات الأخيرة ازدادت العمليات الإرهابية في جميع أنحاء العالم وإن كانت موجودة منذ القدم بل ومنذ ما قبل التاريخ إلا أنها لم تكن على هذا النحو من الضراوة والخطر الذي أصبح يهدد العالم بأسره إلا انه يصعب تحديد الجذور الحقيقية للإرهاب أو بداية الإرهاب والعمليات الإرهابية بشكل عام. فهناك من يرى أن العمل الإرهابي يعود إلى ثقافة الإنسان بحب السيطرة وزجر الناس وتخويفهم بغية الحصول على مبتغاه بشكل يتعارض مع المفاهيم الاجتماعية الثابتة.
ارتبط الإرهاب في العصور القديمة بالحكم المطلق فكان الحكام يجمعون بأيديهم كل السلطات ويقومون بتشكيل محاكم خاصة لمعاقبة الذين يخلون بالولاء لهم، حيث كان العقاب بمنتهى القسوة والعنف والإرهاب. وتطور مفهوم الإرهاب السياسي في العصور الوسطى نتيجة تطور المجتمعات وظهور الإقطاع وارتباط الأفراد بالسادة الإقطاعيين بروابط التبعية والخضوع ومحاولة السادة الإقطاعيين توطيد نفوذهم، وكذلك محاولة الملك أو الإمبراطور الاستثارة بالسلطة والانفراد بها، وما محاكم التفتيش التي نشأت للمعاقبة على جرائم الكفر والإلحاد في هذه العصور إلا أحد أساليب هذه الأعمال الإرهابية.
بينما تشير الأدلة أن بداية عصر الإرهاب الحديث كانت بالغرب وبالتحديد مع بداية الثورات الأوروبية وبالأخص مجريات الثورة الفرنسية وما نتج عنها من مذابح دامية حيث أطلق على تلك الفترة لقب حكم الإرهاب ومن هنا اشتقت كلمة الإرهاب بالإنجليزية والفرنسية حيث أن حصيلة الثورة الفرنسية وحدها كانت قطع راس (140) ألف شخص بالمقصلة وسجن (300) ألف آخرين، وقد اغتيل نتيجة ذلك كله العديد من ملوك وقادة أوروبا وقادة طبقاتها الحاكمة.
توجد أسباب عديدة للإرهاب، تنقسم إلى أسباب سياسية واقتصادية واجتماعية. من الأسباب السياسية: الاحتلال الأجنبي، التمييز العنصري، استخدام القوة ضد الدول الضعيفة، ممارسة القمع والعنف والتهجير أو للسيطرة على شعب معين. أما الأسباب الاقتصادية فتكمن في الاستغلال الأجنبي للموارد الطبيعية للدول النامية، وفي التفاوت الطبقي الحاد، وفي عدم التوازن في النظام الاقتصادي العالمي. وأخيرا الأسباب الاجتماعية التي تتمثل في انتهاك حقوق الإنسان، ومن الجوع والحرمان والبؤس والجهل، ومن تجاهل معاناة شعب ما تعرض للإضطهاد.
وفي الحديث عن أنواع الإرهاب فهي متعددة وتختلف من حيث الأسلوب والأهداف ويمكن تصنيف الإرهاب إلى الأنواع الرئيسية التالية:
إرهاب الأفراد: ويبتدأ في السطو المسلح، وقطع الطريق وأعمال الثأر والانتقام للشرف، والاختطاف من اجل الفدية أو التهديد به، والابتزاز وما إلى ذلك من الأعمال التي يقوم بها أفراد معنيون منحرفون، سواء كانوا منضوين تحت مظلة عصابة صغيرة أو يقومون بها وحدهم، ومن إرهاب الأفراد أيضا الإرهاب ضد نظام قائم بهدف الإطاحة به وإحلال نظام آخر محله، وينتهي هذا النوع من الإرهاب إما بقيام النظام البديل، أو بانتصار النظام القائم على معارضيه.
الإرهاب المؤسسي: ويتمثل في غياب القوانين والأنظمة التي تحمي العاملين من العقاب، كالفصل التعسفي، أو النقل إلى مكان بعيد، أو الحرمان من الترقية، أو الزيادة السنوية، أو حقوق نهاية الخدمة، من تقاعد مكافأة، فيتحول الموظفون العاملون إلى عبيد، وتسود سطوة صاحب المؤسسة أو مديرها، سواء كان على صواب أو خطأ، ولا يكون للعاملين فيها رأي، وإنما يكونون أدوات تنفيذية جسدية فقط، ويصير التزييف والنفاق وسائل مشروعة، بل مستحبة، ويحل الخوف والقلق على المصير ويعيش العاملون في رعب مستمر وتوتر دائم.
إرهاب الجماعات المنظمة (المافيا): تعمل وفق تخطيط مبرمج هادف، ويقوم على تسييرها مجموعات من المتطرفين فكريا وتدعمهم مؤسسات رأسمالية وعسكرية وقانونية واقتصادية، وينتشر خطرها ليشمل مناحي الحياة كافة، ولهذا عدت المافيا دولة داخل الدولة، بسبب قوة تأثيرها، واستغلالها للعالم بالعمل السري لتنفيذ مخططاتها، مستعملة المخدرات والجنس، والإغراء والتهديد والقتل وكل الوسائل سبيلاً للوصول إلى غايتها، وأعمال المافيا كلها تدخل في دائرة الإرهاب والعنف، لأنها تعد الإنسان سلعة، وكما لا قيمة له مطلقا إلا بقدر الفائدة المادية التي تجنى من ورائه.
إرهاب الدولة: هي أعمال الإرهاب التي تقوم بها الدولة ضد شعبها أو أهداف أجنبية. أو وصف انتشار أعمال العنف من جانب دولة ما ضد شعبها. ولإرهاب الدول تاريخ طويل. على سبيل المثال، كتب أرسطو بأن الإرهاب استخدم من قبل الطاغية ضد رعاياه. وتتحول الدولة إلى عصابة إرهابية خطيرة عندما يحكمها دكتاتور يتفنن في تعذيب وسفك دماء شعبه. مثلا أثار صدام حسين نزاعات عدة عندما كان رئيساً للعراق، وارتكب جرائم إبادة جماعية في حق الأكراد والأشوريين ومجموعات عرقية أخرى تمردت على حكمه، كما خاض حربين ضد كل من إيران والكويت، متسبباً في مقتل ما يقرب من اثنين مليون شخص. وما قام به نظام الفصل العنصري(الأبارتهايد) في جنوب أفريقيا(1948-1990)من جرائم كبرى في حق السود بحتقارهم وظلمهم وفصلهم عن البيض ومن ثم تعذيبهم وتهجيرهم وقتل الآلاف منهم.
الإرهاب الدولي: وهو أفدح أنواع الإرهاب وأعمه خطرا لأنه يشمل الكون بأسره شعوبا وحكومات، ويتمثل هذا الإرهاب في محاولة فرض الذات على الآخرين بالإكراه أو الإغراء، والإرهاب الدولي هو أفعال الإرهاب المرتكبة من قبل الدول بصورة مباشرة أو غير مباشرة، ويكون إرهاب الدول مباشرا عندما تقوم القوات المسلحة النظامية لدولة من الدول بشن هجوم أو هجمات على دولة أو دول أخرى أو ممتلكاتها، من اجل تحقيق أهداف سياسية معينة ومن أمثلة ذلك: الغارة الإسرائيلية على المفاعل النووي العراقي 1981، وعملية عناقيد الغضب الإسرائيلية في عام 1996، وهي المجزرة الوحشية التي نفذتها إسرائيل في جنوب لبنان وذبحت فيها مئات المدنيين العزل في قانا ودمرت فيها نسبة كبيرة من بنية جنوب لبنان الأساسية واعتدت فيها على مقر قوات الطوارئ الدولية التابعة للأمم المتحدة عندما لجأ إليه الأهالي المذعورون.
رغم مخاطر الارهاب الفردي ومآسيه وقصصه المخيفة، ألا أنه يزداد عند إرهاب الجماعات وحشية وكارثية، خصوصا عندما تلقى الدعم من دول تمدها بالبشر والمال والسلاح كداعش التي تخترق حدود الدول من أجل تحقيق أهداف سياسية واقتصادية واستراتيجية(مريضة) لصالح دول صغرى وكبرى في العالم، وأكثر من يدفع ثمن هذا الإرهاب المتوحش الشعبان العراقي والسوري.
أما إرهاب الحكومات ضد شعبها فيكتوي من ناره العشرات من الشعوب في القرن الواحد والعشرين، ويعد الشرق الأوسط أكثر مناطق العالم التي تعرف مثل هذا النوع من الإرهاب.
ولا شك أن أخطر أنواع الإرهاب على الإطلاق هو الإرهاب الدولي الذي تنتهك فيه سيادة دولة ما فتصبح أرضها مستباحه وجيشها منحل وثرواتها منهوبه واقتصادها تابع وطوائفها وقومياتها متصارعه على السلطة. ومثال ذلك الغزو الأمريكي للعراق في عام 2003م .
وإذا ما أردنا أن نبعد أو نقلل من أضرار الإرهاب في مجتمعاتنا العربية، فيبقى الحل الأمثل والأنجع هو في نشر ثقافة المحبة والمواطنة والتسامح والسلام في مؤسساتنا السياسية والاجتماعية والتعليمية. وفي التأكيد على العدالة الاجتماعية وتحجيم الفساد والتباين الطبقي بين مكونات الشعب الواحد. وفي نشر الحريات السياسية والدينية والفكرية واحترام حقوق الإنسان، وبالتالي الإنتقال إلى الدولة المدنية الديمقراطية التي هي حلم الشعوب العربية.