في مراحل ثانية، كان العامل الذاتي سبباً في النمو والانغراز في التربة المحلية. يُلاحظ ذلك في الحزب الشيوعي السوداني، بين النشوء في 16 آب 1946، وضربة النميري في 22 تموز 1971. وحتى في مرحلة ما بعد إعدام محجوب، والشفيع الشيخ، استطاع الشيوعيون السودانيون اثبات أنهم رقم صعب في المعادلة السياسية السودانية، طوال أربعة عقود لاحقة. وهذا لم ينتج عن مهارات ذاتية فقط، بل عن تجذّر الحزب عميقاً في التربة المحلية.
في العراق يُلاحظ هذا في فترة قيادة يوسف سلمان يوسف، «فهد»، للحزب بين عامي 1941 و1947، وفي فترة قيادة حسين الرضي، «سلام عادل»، 1955 -1963. وعندما تحوّل الشيوعيون العراقيون، في الفترة الأولى، إلى قوة كبرى في الأوساط العمالية والطلابية، سيطروا على فئة المثقفين. وفي الأوّل من أيّار 1959، أنزلوا مليون شخص إلى شوارع بغداد، في بلد لم يتجاوز مجموع سكانه، يومها، عشرة ملايين نسمة.
كان هناك نمو ذاتي في الحزب الشيوعي السوري في فترة النضال ضد ديكتاتورية الشيشكلي (1951-1954). وبعد سقوطه، وبداية الفترة البرلمانية، حيث عكست الأصوات الكبيرة التي أخذها خالد بكداش في دمشق في انتخابات 1954 ذلك. كذلك الأصوات التي نالها أحمد محفل في حلب، عندما كاد أن ينجح أمام مرشح حزب الشعب. وكان النمو الكبير للحزب عام 1957 مؤدياً إلى تحوّل الحزب إلى القوة السياسية الكبرى في دمشق. وهو ما دفع عروبيين كثيرين للارتماء في أحضان عبد الناصر، خوفاً من ترجمة المدّ الشيوعي في الانتخابات البرلمانية، المرتقبة، عام 1958.
وفي فترة 1967-1970، شهد الحزب الشيوعي السوري مدّاً في العضوية والامتداد، بحكم صدمة هزيمة 5 حزيران 1967. كانت أزمة الحزب في عامي 1971-1972، ثم انشقاقه عاملاً أساسياً في توقف ذلك المدّ، الذي كان ردّ فعلٍ على فشل عبد الناصر والبعث أمام اسرائيل. وهو ما شهدنا آثاراً له إثر هزيمة حزيران في سوريا. إذ تحوّل عروبيون كثر في «حركة القوميين العرب» و»حركة الاشتراكيين العرب» و»البعث» نحو الماركسية. وهو ما تولّدت عنه ظاهرة «الحلقات الماركسية»، بين عامي 1971-1973.
كان هذا التحول قد شمل الكثير من قيادات «حركة القوميين العرب» في الوطن العربي، من جورج حبش، إلى نايف حواتمة، ومحسن ابراهيم، وعبد الفتاح اسماعيل. لم يستطع الشيوعيون العرب تحويل هذه الهجرة إلى الماركسية عند العروبيين إلى نمو ذاتي، في التنظيمات الشيوعية. وهو ماقاد إلى نشوء تنظيمات ماركسية موازية للشيوعيين، كـ»منظمة العمل الشيوعي» في لبنان، و»رابطة العمل الشيوعي» في سوريا.
لم يكن هنا العامل الذاتي عند الشيوعيين قادراً على استيعاب هذه الهجرة، لذلك أدّى هذا إلى بناء بيوت موازية ولكن في الاتجاه الماركسي نفسه. وهو ما يدلُّ على تخلخل البناء الشيوعي الذاتي. فيما رأينا «الإخوان المسلمين» بعد خروجهم من السجن عام 1971 يستوعبون في مصر 1973- 1975 شباب «الاتجاه الإسلامي الجديد»، في الجامعات ويستوعبون «اتجاه سيد قطب»، الذي تنافر معهم في السجن، ما دفع حسن الهضيبي للردّ على سيد قطب في كتاب «دعاة لا قضاة»، عام 1969.
كان هذا التخلخل بادياً في السبعينيات عند الشيوعيين العرب بشكل عام، مع بداية موجة المدّ الإسلامي، لو لم يكن هناك أحزاب نمت بالسبعينيات، مثل «الحزب الشيوعي اللبناني»، في ظرف تنامي اليسار اللبناني أمام اليمين الكتائبي _ الشمعوني، وفي ظل الوجود الفلسطيني المسلح في لبنان. وفي الثمانينيات، كانت هناك حالة جزرٍ عند جميع الشيوعيين العرب. وقد كاد التفكك السوفياتي أن يقود إلى الموت التنظيمي _ السياسي، وهو ما تفادته العديد من الأحزاب الشيوعية العربية. فيما هناك أحزاب شيوعية في تونس، وفلسطين، قد تخلّت عن الماركسية وعن اسمها الشيوعي، ولبست لبوساً أيديولوجياً _ سياسياً _ تنظيمياً آخر. وهو ما كان، أيضاً، حال الكثير من الشيوعيين العرب الأفراد الذين تحولوا إلى «الليبرالية الجديدة».
خلال ربع قرن من بدء التفكك السوفياتي، لم تجرِ حتى الآن مراجعة جديّة عند الشيوعيين العرب للتجربة، من أجل استخلاص خلاصات فكرية _ سياسية _ تنظيمية جديدة. هناك ملامح منذ 3 تموز 2013، مع سقوط حكم «جماعة الإخوان المسلمين»، في القاهرة. وهي التي تبدأ بها الموجات الفكرية _ السياسية _ العربية، «الليبرالية» عام 1919 مع سعد زغلول، و»العروبية» في 23 تموز 1952، والمد الإسلامي المصري في النصف الأول من السبعينيات، على انتهاء موجة المدّ الإسلامي، وبداية الجزر في حركة هذا التيار الفكري _ السياسي _ التنظيمي.
هذا يمكن تلمسه من البصرة إلى الرباط، ومن حلب إلى عدن. هناك ملامح على بدء موجة يسارية عند العرب، يمكن أن تكون العدّة الفكرية _ السياسية _ التنظيمية الحالية للأحزاب، والحركات، والتنظيمات الشيوعية، والماركسية العربية غير مناسبة أو قادرة على استيعاب هذا المد اليساري الجديد، إذا لم تقم بنفضة ذاتية كبرى في بيوتها الداخلية.